Thursday, September 18, 2014

الكهوف السحرية ( الجامعة وجوه وزوايا وأركان)

الجامعة: أركان وزوايا ووجوه
من ذكريات الجامعة جوانب متعددة، منها الموجع، ومنها المضحك، ومنها غير ذلك،في الجامعة تتقاطع وتتلاقى ثقافات السودان كلها، ولعل هذا هو الوجه المشرق لتمركز التعليم الجامعى في العاصمة دون غيرها، فالمرحلة الجامعية هى قمة الهرم التعليمى الذى يندفع من فوهته الطلاب الى نهر الحياة الصاخب وفي الغالب يتقلدون مواقع في العاصمة نفسها أو في المدن الكبيرة، لذلك فان قضاء فترة الجامعة في العاصمة وانصهار الطلاب بثقافاتهم المحلية المتباينة في نهر واحد هو الجامعة في قلب العاصمة القومية هو خير اعداد نفسي وعملى للطلاب للمراحل المقبلة في حياتهم، فضلا عن ذلك تذوب كثير من الأوهام المتبادلة بين الطلاب حول بعضهم البعض بسبب النشأة في بئيات متباينة في وطن شاسع مترامى الأطراف متعدد الثقافات والأعراق، اتذكر أيام الجامعة الآن فأجدها اجمل ايام حياتى على الأطلاق، في الجامعة التقيت بفرانسو ذلك (الشماس ) الجميل، لم يحل لون الخواجة عنده بينى وبينه ، ولم يقف اختلاف الدين حاجزا بيننا مطلقا،كان أقرب الاصدقاء لروحى، ليس لى وحدى ، بل لكل من عرفه من الزملاء والأصدقاء، كنت تقسم لو رأيته انه خواجا حل للتو بالوطن، ولكنه حين يبتسم ويتحدث بلهجته السودانية الموردابية بسبب علاقته الخاصة بحى الموردة تجد نفسك أمام رجل تصرخ عندما تراه صرخة أوسكار وايلد الشهيرة في روايته (أهمية ان تكون جادا) حين وصف بطله : (ان كل بوصة فيه تقول انه جندى) فتصرخ مسودنا للعبارة(كل انش في فرانسو يقول انه سودانى قلبة وعدلة.) وهو كذلك بالفعل، ولد ونشأ في مدينة سنار ونشأ وسط أهله الاقباط السودانيون حتى بات (شماسا) وولج الجامعة
وبات عنصرا نشطا في الحلبة السياسية في الجامعة وبقيت روحه المرحة الساخرة هى ماتميزه وتجعل مكان تواجده قبلة للجميع بسبب خفة دمه وشخصيته التى تصبغ الاجواء بالمرح والنكتة الحاضرة. فرانسو هذا اظنه اكثر معارفى تنقلا في العمل، فقد امتهن عدة مهن ووظائف منها موظف ومدير وكالة سفر وصحفى، ثم انتهى به المطاف مهاجرا خارج الوطن هجرة بدأت باسمرا وانتهت باستراليا حيث انقطعت أخباره. وفي الجامعة نفسها التقيت بالأخوين عادل وزهير فيصل من ابناء مدينة بربر، وهما طرفي نقيض، الأول شخصية عاصفة فهو خطيب سياسي مفوه ، ما أن ينطق الكلمات الأولى في ركن النقاش حتى يتوافد الناس زرافات ووحدانا ليستمعوا لهذا الشاب الذي يشبه أولاد لعاصمة الخرطوم بهندامه وطريقة لبسه ولكن لكنته وطريقته في الحديث بعامية أهل الشمال( قلنالم وقالولنا)_ يقصد قلنا لهم وقالوا لنا_ تقول أنه قادم من محطة القطار مباشرة الى ركن النقاش، ولعل هذه الطريقة الخاصة في التحدث هى التى أعطته جاذبية وختمته بطابع مميز وجعلت أفئدة الطلاب تهوى الى ركنه دوما.أما زهير فيصل فقد كان زهرة جميلة فواحة لاتتحدث الا عبر عبيرها وروحها السمحة، كان كثير الابتسام قليل الكلام، تزوج برفيقة دراسته ومشوار حياته اقبال وهى من بنات بيت المال وكانا عصفورين وديعين في ذلك الزمان اللاهث ، وقد تربصت الأقدار بزهير فرحل عن الدنيا باكرا بعد صراع باسل مع داء عضال. وكان أبوبكر محمد أبكر القادم من قلب دارفور بعد رحلة طويلة في رحاب العمل كمعلم جعلته يبدو أبا وقورا خفيض الصوت مهذبا في جداله السياسي الى حد انه يبدو عاجزا عن مجاراة خصومه حين يهاترونه فيظل متحدثا بأدب جم وصوت خفيض ومنطق رصين، كان الرجل زهرة أخرى في بستان الجامعة، كنت حين أنظر اليه اتساءل ببراءة في دواخلى( كيف عرف أبوبكر الطريق الى دروب السياسة؟ هل هناك طه آخر قتل في دارفور دفعه مقتله الى دروب السياسة مثلى؟!) ظل السؤال بداخلى حتى وجدت فرصة وسألت ابوبكر يوما حول سبب ولوجه عالم السياسة، ابتسم وحكى لى قصة طويلة لم اهتم بها كثيرا كونها لم تتطابق مع تصوراتى المسبقة، لكن ابوبكر كان شخصية غنية، عالما مشحونا كوتر قوس مشدود، انسان ثرى الدواخل،مسالم لأبعد الحدود، معتد برأيه بلا صلف ،معتدا بجذوره بشكل لافت، حكى لى قصته مع الحياة ، لماذا امتهن التدريس وكيف دخل الجامعة مع بعض من تلاميذه، كان رجلا عصاميا فريدا، لكنه كان يحكى حكايته كأنها قصة قرأها في كتاب مطالعة وليست قصة هو بطلها وضحيتها وقديسها، في ذلك الوقت لم اكن اعرف عن دارفور سوى اشياء عامة ومبهمة ومشوشة، ليتنى التقيتك يا ابوبكر بعد سياحتى الاجبارية في دارفور بعد ذلك بسنوات طويلة، فقد كان يمكن ن اعرفك بشكل أفضل وأن أحاورك بشكل أفضل، فليس ثمة شئ ابشع من ان تتعامل مع انسان عبر زجاج التصورات المسبقة المشوشة، كان هناك (سنين محمد صالح )وهو من ابناء الفاشر، وكان هو وأبوبكر ومحمد عبدالله محمدين والناظر اصدقاء، وقد صار سنين محاميا يشار اليه بالبنان هناك وقد قابلته هناك بعد سنوات طويلة حين جئت الفاشر قاضيا فوجدت نفس الرجل البشوش الصدوق يستقبلنى بحفاوة وترحاب كبير.أما محمدين فقد كان هو الآخر شخصية جميلة، رجل ودود لابعد الحدود، انسانى ، محب للحكايات والونسة وهو ضاحك دوما، عمل بالمحاماة بالخرطوم لفترة ثم ارتحل الى مدينة القضارف حيث صديقنا الضخم عمر الخليفة، ثم صابته سوسة الهجرة فهاجر خارج السودان، الي القاهرة في البدء، ثم هجرة أبعد الى أوربا حيث انقطعت اخباره. ومن الشخصيات الدرامية في الجامعة ذلك الحصان الأسمر الضاحك الذى عرفته قبل الجامعة دون ان يعرفنى ( محمد عبد الخالق) ود عطبرة الموهوب فقد كان بطلا لمسرحية اسمها الكرت الاحمر شارك بها في الدورة المدرسية في مدنى في مطلع الثمانينات قبل ولوجنا الجامعة، بقيت صورته في ذهنى حتى التقينا ثانية في الجامعة في ذات الكلية مع فارق عام بيننا فقد كان هو في الدفعة التى امامى، كان محمد شاعرا مجيدا يكتب الشعر بالفصحى والعامية بمستوى واحد، وكان يحفظ لكثير من الأشعار لشعراء ثوريين كبار في كل العالم، وكان قاصا مدهشا في سرده لكل حكاية مهما كانت تافهة وبسيطة، فالدرامى الكامن فيه كان قادرا على استخلاص مشاهد درامية مثيرة من كل شئ، كان يملك حيالا خصبا وروحا مبدعة وقدرة مذهلة على سرد الحكايات بشكل مثير يمسك بتلابيب السامعين ويسحرهم ويجعلهم متسمرين في أماكنهم طوال زمن السرد. ومحمد مثل غيره من ابناء عطبرة مغرم بعطبرة وسيرتها النضالية وحكايات المناضلين القدامى التى ترتفع بهم الى مقامات الأولياء، وقد عالج هذه الموضوعات في شعره الجميل بكثافة ومن زوايا متعددة. استقر محمد بمهنة التعليم قليلا واستقر بضاحية الحاج يوسف الى حين ، ثم هاجر الى القاهرة وامتهن الصحافة لفترة ثم هاجر الى الولايات المتحدة الامريكية حيث استقر به المقام وسكت صوت الشاعر فيه وغاب في زحام تلك المدن المفترسة.

No comments:

Post a Comment

شكرا علي المشاركة والتواصل