Thursday, September 18, 2014

الكهوف السحرية ( الجامعة وأحلام العصافير والأسلاك الشائكة)

الجامعة وأحلام العصافير والأسلاك الشائكة
في الجامعة كان المشهد برمته جديدا ومثيرا،بنات جميلات في عرض دائم للأزياء، ضجيج مكبرات الصوت المتشاكسة الدائم، الموائد الفكرية المتباينة وعارضى الفكر والأفكار متعددى المشارب،حلقات الشعر والأدب، صحف الحائط وعناوينها المثيرة، المحاضرات المختلفة كلية عن الحصص المدرسية،فناء الجامعة العامر بالضجيج دوما،كانت الجامعة باختصار مهرجانا دائما، وجدنا أنفسنا بغتة في قلبه،الطلاب الجدد كانوا دوما هدفا للطامعين في الجامعة، الأحزاب تستهدفهم بأنشطتها وكوادرها الظاهرة والخفية، والروابط الإقليمية تستهدفهم برحلاتها وحفلاتها، وقدامى الطلاب يستهدفونهم بمقالبهم وسيطرتهم وتوجيههم، والجماعات الأدبية تنقب وسطهم عن إضافات جديدة لها،لذلك كله تبدو الجامعة للبرلوم أميرات حسن ينحنين إجلالا وتقديرا له ويخطبن وده جميعا فلا يستطيع الإختيار من بينهن ويمتلئ زهوا واعجابا بنفسه، وفجأة يجد الأضواء قد انحسرت عنه بعد انتهاء موسم الانتخابات وحلول برالمة جدد بالجامعة، فيفهم متأخرا سبب الإهتمام والإنحناءات. ومن الأشياء التى لايفهمها الطالب الا بعد سنين طويلة أن انضواء الطالب تحت لواء فريق من الفرق المتصارعة يقلل تلقائيا من فرص بناء علاقات اجتماعية واسعة ، فغالبية الطلاب يفرون من الطلاب المنتسبين للتنظيمات كما يفر المرء من عدوى فتاكة خشية التصنيف من قبل الآخرين وخشية الإستقطاب، وذلك وجه من وجوه مظلمة للمارسة السياسية في السودان يبقي قابعا في اعماق اولئك( اللامنتمون) يؤثر في مجمل مواقفهم ويطبعها بطابع سلبي تجاه حملة الأفكار المعلنة علما بأن كل شخص منظم أو غير منظم يحمل فكرا يؤمن به ويؤثر على مواقفه. وهناك تعالى مقابل من قبل المنتسبين للجماعات والأحزاب فهم يرون في اللامنتمين أشخاصا أقل منهم مقدرة ومكانة ويطلقون عليهم تسميات تعبر عن ذلك التعالى القابع في الأعماق فهم يسمونهم تارة( الفلوترز) و تارة( الحناكيش) .وهناك ظاهرة أخرى مصاحبة للنشاط السياسي في الجامعات هى ظاهرة الحلقية الضيقة والرغبة في محو الآخر واقصاؤه، الصراع حول مقاعد الاتحاد مثلا كان صراعا عنوانه الرغبة في الفوز وحقيقته الرغبة في السيطرة واقصاء المهزوم واستمالة العامة الى جانب المنتصر ، وأظن هذه الظاهرة هى التى تفسر ماجرى على الساحة السياسية السودانية فيما بعد من تنكيل بالآخر واقصاء له وسيطرة مطلقة على مصائر الأغلبية وزيف دعوات الحوار مع الآخر.كل ما جرى فيما بعد كان تمرينه الرئيس قد جرى بالجامعات قبل ذلك وبذرته غرست في العقول هنالك. كنت طوال عمرى قبل الجامعة حرا في بناء صداقاتى واختيار اصدقائي ولم اكن يوما مجبرا على القبول بأحد ضمن قائمة اصدقائي لأي اعتبار آخر،وكانت الإهتمامات المشتركة والقبول المتبادل هو الاساس المتين لكل صداقة، لكن في الجامعة نشأت أسلاك شائكة وتصورات وأفكار مسبقة حاجزا بينى وبين الكثيرين، وكانت تلك خسارة فادحة مؤكدة.

لكن يجب التنبيه الى ان ما أقوله هنا هو أفكار جديدة لم تطف ببالى وانا اندفع بحماس دافق غائصاً حتى الركب كما يقول المثل السودانى فى وحل السياسة ودروبها الموحشة،بت خطيبا من خطباء الجامعة الذين يرسمون مدناً فاضلة مصنوعة من وحى الخيال ومن قصائد الشعراء ومن بطون الكتب ومن جوع الناس الى الكمال المستحيل، لم أك كاذباً ولامهرجاً أومزيفاً لواقع ،لكننى كنت أرسم ما كنت أؤمن به من قيم وما أحلم به من أحلام واسقطه على برنامج سياسي كانت سمته الأساسية التبشير بحضور كل ما هو غائب ومشتهى. وكان الشعر ذراعى الأيمن ، كنت أرسم مدنى الفاضلة ثم أقرأ شعرا ملتهبا وجميلا وقادرا على دغدغة الأحلام وإلهاب المشاعر، كنت أحب الشعر والقصة وكان الشعر سردا بديعا على الهواء، سردا قادرا على حشد الناس وتحويلهم الى قنبلة متدحرجة قادرة على الفعل الجرئ.وحين انظر الآن لى مافعلته في تلك الأيام لا يساورنى أدنى شك في أننى كنت أديباً يعتلى منصة السياسة ليعرض بضاعته ولم أك يوما سياسيا يرتدى ثوب الأدب ليعرض بضاعته، وما أقول هنا ليس تنصلا من اختيارات واعية مارستها، بل هو محاولة متأخرة لفهم ماجرى والدوافع المؤدية اليه.كان العمل السياسي في ذلك الزمان عملا يجعل صاحبه شخصية مزدوجة مثل ازدواجية الممارسة، فبينما كان النشاط السياسي عملا مشروعا داخل الجامعات كان محرما وجريمة خارج أسوار الجامعة وكانت الأحزاب محلولة ومحظورة بموجب القانون، لذلك كان النشاط مزدوجا، مسموحا به داخل الجامعة فتتم ممارسته بعلانية، أما خارج الجامعة فكل شئ كان يمارس في الخفاء، الإجتماعات سرية، والمنشورات تطبع سرا وتوزع ويتم تداولها سرا، والقصائد الثورية والكتب السياسية والمنشورات كلها محظورة مثل نبات البنقو والهيرويين ويتم تداولها سرا وتعتبر حيازتها جريمة خطيرة،هكذا وجدت نفسي بغتة أمارس حياتين واحدة علنية وأخرى سرية مثل حياة أبطال الروايات والقصص المرتبطة بالثورات مثل قصص الثورة الفرنسيةوقصة جيفارا وقصة الليندى في تشيلي وقصة المهاتما غاندى وغيرها،كان في الأمر تشويق وإثارة لاحدود لهما،يختلط فيهما الواقع بخيال مستلف من القصص البوليسية والأفلام والروايات،وكانت هناك ثقافة سودانية خاصة بقصص العمل السرى وتجارب بعض ابطاله وهى قصص فيها من الإثارة والتقديس مايرتفع بأصحابها الى مراتب أبطال القصص البوليسي . كان ذلك نهرا خاصا له سحره وبريقه.باستثناء البريق الذى يصاحب المتحدثين في الأركان والندوات في الجامعة كنت الشخص نفسه، المحب للشعر والقصة، الممتلئ بالرغبة في الثأر لصديقه من نظام سياسي قتله،وكنت حريصا على دراستى فانا اعرف جيدا اننى جزء من أحلام أمى وأبي وهى أحلام عزيزة عندى،ولم يكن واردا في حساباتى أن أتسبب لهما بأى آلام، لذلك كنت حريصا جدا على الانتظام في محاضراتى والا يكون نشاطى على حساب دراستى، وكنت قد أغرمت بدراسة القانون التى كانت بالنسبة لى متعة لاتدانيها متعة.

No comments:

Post a Comment

شكرا علي المشاركة والتواصل