Thursday, September 18, 2014

الكهوف السحرية ( ملامح من وجهى القديم)

ملامح من وجهى القديم

كنت صغيرا ومزهوا بنبوغ كنت أسمع عنه عند الكبار، كانوا يفرغونه في شكل ثناء أو هدية صغيرة قد تكون قطعة حلوي، لكنني كنت أمتلي بسعادة لاتحدها حدود وأقبل باهتمام علي دروسي علي أظفر بالمزيد، كنت أحب الاستاذ فأحب مع محبته كل شئ مرتبط به،أتذكر ذلك الاستاذ في مدرسة بانت غرب الابتدائية في مدني أظن اسمه عبد العظيم، كان طويلا وبدينا ومستدير الوجه وله نظارة تميزه وابتسامة تزداد جمالا حين ينشد بصوته القوي أناشيد جميلة كلها تدور حول حب الوطن، فنغني معه باصوات تزداد نشازا مع ازدياد حماسنا، كان ذلك الرجل الجميل بوابة أولي ولبنة أولي في عشقنا للموسيقي والوطن بتلك الطريقة الطفولية الحالمة الجميلة،وكان الجرس في المدرسة موسيقي أخري تتخذ اشكالا مختلفة ، فان كنت داخل الفصل متشوقا للفطور والحلوي فهو بشارة التحرير ورنة السعادة ، وان كنت لاتزال تركض باقدامك النحيلة صوب المدرسة ،ورن الجرس قبل بلوغك الفناء فهو نذير علقة ساخنة ودموع قادمة في الطابور،كان كل شئ في المدرسة له طعمه ومعناه الخاص حتي الشقاوة.
وجه:
أتذكر الان بشكل غامض وجها أسمرا به نمش لرجل خمسيني هادئ الطباع كان هو صاحب الدكان الذي نمر به يوميا في طريقنا من البيت في حي البيان الي المدرسة في بانت، لا أتذكر أسمه ( اطنه السر)لكن أتذكر طعم الفول المصري الجميل الذي كنا نتناوله منه محشوا في سندوتش ونحن ذاهبون الي المدرسة، كان طعما لم يتكرر ثانية برغم الرحلة الطويلة مع الفول عبر السنين، كان رجلا طيبا ، يحب الأطفال كثيرا ويحتملهم إحتمالا لاأظن أهلهم يحتملونه،كنا نحب دكانه كثيراويمثل محطة مهمة في رحلة الصباحية، الدكان كان قريبا من بيت علي افندي والد عبدالعظيم علي افندي زوج عمتي نفيسة محمد علي والدة رفاق طفولتي الباكرة نادرونازك، كان نادر يقرأ معنا في ذات المدرسة وكانت نازك تقرأ في مدرسة الكورة الشهيرة ببانت وهي تقع في الطريق الي المدرسة، فيما بعد صارت نازك وكيلة نيابة وصار نادر ضابطا بالجيش وبت محاميا ثم قاضيا، فهل تري كان من علمونا الحروف وقومونا في ذلك الزمن يتصورون ما صرنا اليه؟ هل كانوا يدركون ان بذورهم ستقبض وتثمر؟وهل لو فقدوا ايمانهم بجدوي ما يفعلون أو تراخي ذوينا في دفعنا نحو التعليم تري كيف كانت تكون مصائرنا؟ هي اسئلة للتقدير والعرفان لمن منحونا قوة في وقت ضعفنا وصنعوا منا شيئا وليست وقفة للتباهي. أتذكر الان تلك الطفولة الشقية في بيوت متعددة متقاربة، بيتنا في حي البيان وبيت جدي الذي يقع أمامه مطلا مباشرة علي شارع الدباغة السوق، والبيت الثالث بيت ناس علي افندي جد نازك ونادر عبد العظيم الذي يقع في طريق المدرسةجوار طاحونة شهيرة أحتلت بعض ذكريات الطفولة، واتذكر كوبري حاجة عشة الذي سموه كذلك نسبة الي حاجة عشة التي تبيع الفول والتسالي عنده وهو كوبري صغير تنحدر مياه الامطار عبره الي النيل الازرق القريب من حي العشير الذي يقع في جانب الزلط، اتذكر بيت ناس العم بشير جمعة صاحب بصات الركبي الشهيرة التي كانت وسيلة النقل بين الخرطوم ومدني وهي نيسانات لها صندوق مصنع محليا،وكان بيت بشير جمعة يطل علي الخور المنحدر من بانت نحو النيل الازرق، واتذكر ان نفس الاسرة كان منها عباس بايا لاعب المدينة الشهير واخوته عمر والثالث بكرى، كانوا مهووسين بكرة القدم ونادي المدينة بينما كان آل دوليب كلهم مفتونين بنادي الزهرة العريق وكانت كل اسرة دوليب تقريبا لاعبين مهرة ، اتذكر منهم كبيرهم كابتن الزهرة الحريف عثمان دوليب الشهير بعثمان ننو وشقيقيه النور وحيكو والتيمان واتذكر الكابتن ابوليلي عليه رحمة الله،واتذكر جلال عبدالله لاعب الاتحاد والهلال العاصمي الشهير من ابناء البيان واخوه مبارك الذي لعب للاتحاد مدني واخوهما بدر ابليس الذي لعب للاتحاد ايضا واتذكر اسرة ناس مبارك الفاضل بركة الذي لعب بالثوار والاتحاد وشقيقه عليوة الذي لعب بالزهرة والاهلي مدني وهلال بورسودان
بيت صغير وشجرة:
كان هناك بيت صغير به شجرة نيم عملاقة، كان البيت في زقاق صغير من زقاقات العشير، كنت احتاج قطع شارع الزلط الملئ بالحركة للوصول اليه، لا اتذكر أسم صاحب البيت ولكنه كان قريبا بعيدا لنا،كان البيت علي قلة سكانه وهما زوج وزوجة دوما مزدحم بالناس وبالضجيج الفرح،لاتخلو الدار ابدا من الضيوف المقيمين وجلسات الجبنة والأنس، كنت اتسائل دوما كيف يحتمل الرجل الباسم الودود دوما كل هذا العبء ولماذا؟
غاب الرجل في زحام الحياة فجأة وبقيت شجرة النيم العملاقة تنتظر أوبة من كانوا يقضون سحابة النهار تحتها في أنس وحبور، كنت أعود اليها بين الفينة والأخري فلا أجد من آثار أهل الدار الا الطيور التي تقضي سحابة النهار في ظلها، ثم باتت الشجرة شاحبة صفراء الأوراق، وذات يوم جئت فلم أجدها بل وجدت أوراقا شاحبة جافة وأغصان مبعثرة في الكوشة الكبيرة التي تتوسط الحي ، فبكيت ولم أعد أبدا.

صور سريعة:
في حي البيان حيث سكنا في طفولتي الباكرة في منزل باشا جد حموري لاعب الكرة الشهير بجوار ناس اب ساق من الجهة الشرقية وناس آمنة الحمراء من خلفنا وناس عاطف المشهور بعاطف اب ادية بسبب عيب خلقي في يده من الناحية الغربية ويفصلنا عنهم شارع صغير، وأتذكر أن احد الجيران كان ملاحظا للصحة وله برنيطة عريضة وزي كاكي مميز واظن ولده كان عادل الكردي الذي بات فيما بعد ضابطا كبيرا بالشرطة في الثمانينات،وكان من الجيران شاب يسمي قزقز واسمه عبد العظيم فرح كان لاعبا لكرة القدم بامكانيات مهولة وكان يلعب في فريق الثوار وقتها ،وكانت الالقاب منتشرة في الحي انتشارا كبيرا كان سمة تلك الناحية من مدني وذلك الزمان،وفي تلك الايام كانت العصبية للاحياء والشلليات المبنية علي ذلك في أوجها، كان اولاد العشير عصبة شرسة واولاد أم سويقو عصبة أخري أصعب وكان أولاد البيان مجموعة وأولاد بانت مجموعة أخري، ومن الطرائف التي اتذكرها أن المجموعات المختلفة اعتادت علي شن غارات علي بعضها البعض استعراضا للقوة وثأرا احيانا وبحثا عن الإثارة تارة أخري، اتذكر انه كان يوجد في مدخل فريقنا مثلث صغير يبدأ من الكوبري الأول بعد القبة مباشرة جوار منزل جيران كان لهم ابن يشتغل بشرطة المرور وله موتر من مواتر التشريفة، عند هذا المثلث كان ثمة عمود كهرباء مضئ وعند هذا العمود كان العم (مدنكل )يبيع السندوتشات الرهيبة من الفول وسلطة الاسود وسلطة الروب والطعمية، كانت شهرة العم مدنكل تشمل مدني كلها،فيأتي الناس اليه لشراء السندوتشات الجميلة، كان اولاد حلتنا قد اعتادوا التجمع عند عمود النور ولعب الكوتشينة ارضا اسفله والسمر تحته، وكانت هناك خشية دائمة من غارات اولاد العشير وأم سويقو المفاجئةفكان اولاد الفريق الكبار يستخدمون الصغار ككتائب استطلاع وانذار مبكر، وكانت العصي مجهزة بجوارهم استعدادا لاي غارة،واتذكر غارة شنها اولاد أم سويقو علي الفريق استدعت تدخل النجدة لفض الاشتباك، كان الأمر كله استعراضا للرجولة وبحثا عن الإثارة والبطولات ،وكان شيئا يبدد الرتابة،والغريب انه كانت توجد علاقات طيبةوصداقات فردية عابرة للاحياء ومباريات كرة قدم ومشاركات في الأعراس في الاحياء المختلفة ونادرا ما كانت تحدث احتكاكات لكنها لو وقعت فتكون كفيلة بفض الحفلة بصورة بشعة، وكان لعلاقات المدارس دور كبير في تذويب التعصب للاحياء واختفاء عصابات وشلل الاحياء في مدني،ولكن ظل ابناء مدني لفترات طويلة يتحركون في جماعات كبيرة علي اساس اولاد الفريق خوفا من بطش عصابات الاحياء الاخري بهم ان هم تحركوا فرادي.

No comments:

Post a Comment

شكرا علي المشاركة والتواصل