Thursday, September 18, 2014

الكهوف السحرية (رحيل المجرات / هشام الحاج وعمر دوسة) سيرة

رحيل المجرات
كان رحيلهما فاجعا وقاسيا وصاعقة نزلت على من عرفوهما بلا مقدمات، كان رحيلا استثنائيا ودراميا،كان هشام محمد الحاج المولود بمدنى والمقيم بالخرطوم شابا فارع الطول عريض المنكبين ممتلئ الجسم نوعا ما لكنه رياضي رشيق صبوح الوجه لاتفارق الابتسامة شفتيه أبدا، والضحكة حاضرة دوما حيث يكون، فقد كان مرحا مهزارا خفيف الدم متعدد الحكايات، لايعرف الوجوم أو العبوس طريقا اليه،وكان عبد العزيز عمر دوسة المولود بالفاشر والمقيم بحى عريق من أحيائها والمنحدر من قبيلة الزغاوة من بيت كبير من بيوتها، شابا أبنوسيا وسيما متوسط الطول أنيقا بصورة لافتة باسما مثل نهر يغازل صحراء قاحلة فيحيلها خضرة ناعمة وحياة ، كان مثل صديقه محبا للضحك والنكتة والحكايات والقرقراب وكرة القدم و(العضة السمحة)،كانا بحق (فولة واتقسمت) كما يقول السودانيون، وكانا في ذلك الزمان زينة القضاة في الفاشر حيث التقينا،كنا مجموعة من القضاة قذفت بها الأقدار الى شمال دارفور، جئنا متوجسين ومثقلين بقصص خيالية عن النهب المسلح وعدم الاستقرار وجدنا بلادا تكسوها الخضرة على امتداد البصر ، ووجوها سودانية وسيمة عامرة بالطيبة والمحبة، ووجدنا مجتمع قضاة متماسك جدا تبدى تماسكه في ذلك التقليد الفريد الذى يقضى بان يقوم القضاة كلهم باستتقبال القادم الجديد بالمطار على بكرة أبيهم، نزلت من الطائرة القادمة من الخرطوم فوجدت وجوها أعرف بعضها مصطفة في المدرج بصحبة رجل ضخم الجثة أخضر اللون(بالتعبير السودانى والمقصود أسود البشرة) واسع العينين يلبس جلبية سودانية ناصعة ومركوبا من جلد النمر، كان ذلك هو رئيس الجهاز القضائي آنذاك(سبتمبر1999) مولانا طلحة حسن طلحة، وكان بمعيته جميع القضاة، كان شيئا مدهشا وجميلا فتح القلب ضلفتين على دارفور، كان هشام وعمر في طليعة المستقبلين، كنت أعرف هشام بحكم اننا ابناء مدنى وبحكم علاقتى باخيه الأكبر ساطع محمد الحاج، أما دوسة فقد كان ذلك لقائي الأول به، سرعان ماذبت في مجتمع الفاشر الجميل،كانت بيوت لقضاة مؤثثة وتقع في حى المطار وحى الكرانك،كانت اقامتى الأولى بمنزل بحى المطار مواجه لفضاء فسيح مغطى بعشب أخضر احتله الان معسكر ابو شوك ، كان هشام ودوسة يقيما بالميز بحى الكرانك فقد كانا عزابا وقتها، كان هشام يقود لاندروفر عتيق خاص بالميز كان يسميه ( الككو) وكان دوسة يقود عربة من ذلك النوع الذى كنا نسميه (اللاند كرور) وهى لاندكروزر قديم موديل السبعينات هي فى الأصل شاحنة صغيرة للنقل وليس للركاب لكن لطبيعة المنطقة ووجود ترس قوة بها باتت سيارة خاصة مخصصة للقضاة، كانا في أغلب الاحيان يتنقلان سوية بواحدة من العربتين ، وكان اجمل برامج الفاشر ذلك الدافورى لفريق الصنداى المكون من القضاة والمحامين وووكلاء النيابة وبعض ضباط الشرطة وموظفى المحاكم والاراضي، كان الدافورى يتم عصرا بملعب يقع بحى المطار جوار الهلال الأحمر السودانى وامام منازل القضاة، كان دوسة وهشام نجمين لامعين محبين لكرة القدم ويجيدانها، وكانت روحهما المرحة تطغى على الجميع فتضفي على التمرين روحا مرحة ساخرة، وعن طريقهما عرفت شخصية من أهم شخصيات الفاشر وهى فاطنة كتم بائعة الخضار الشهيرة بالفاشر فقد كانا زبونين دائمين لها وعن طريقهما عرف كل القضاة فاطنة كتم وطماطمها الجميل وخضارها المميز وروحها المرحة،دار الزمان دورة فتزوج الصديقان في توقيت متقارب، ودار الزمان ورزق كل منهما بمولود يتيم لم يكن من حظه ان يحظى بقربهما، ادركت المنية عمر دوسة بغتة وهو ينزل من سيارته الأتوس السوداء قادما من سوق الفاشر الى البيت حيث كان يستقبل ضيوفا على الغداء، غشاه ألم في الصدر، ثم رحيل مفاجئ لم يمهله للوصول للمستشفى، في الخرطوم كان هشام يشكو ألما بالقلب، وكان ينتظر اكمال اجراءات نقله الى الخارج للعلاج بلندن، بلغه نبأ رحيل رفيقه دوسة فبكى، وبعد أقل من أربعة أيام لحق هشام بصديقه على عجل كأنه يقول له بعدك الحياة عدم ياصديقي، اختلطت دموع الخرطوم بدموع الفاشر وغيب الموت قمرين لم يبقيا في سمائنا الشاحبة طويلا،رحلا كمجرة بعيدة غشيت دنيانا فلم يعجبها حالنا المائل فولت هاربة من القبح.رحم الله هشام وعمر وأسكنهما فسيح جناته.

الكهوف السحرية (دروس الحياة)

في الحياة دروس مجانية كثيرة يقدمها الناس لك دون ان تنتبه في الغالب، وهناك دروس أخرى باهظة الثمن، دروس تدفع فيها من روحك ودمك وعافيتك ودموعك الكثير سرا وعلنا،فبعض الناس يعيش حياته بيسر مريب، ليس لأنه ميسور الحال، بل لأن نفسه كبيرة وصبره على المكاره يجعله يبدو في الجنة وهو في النار، لاتفارق الابتسامة شفتيه، لايتذمر ولا يشكو، ولايضيق بالناس ولا بحياته ولو كان نصيبه شوكا على طول الطريق،اتذكر شرطيا كان يعمل متحريا بشرطة محافظة المتمة غرب شندى أبان عملى هناك قاضيا مقيما وقائما باعباء النيابة العامة، كان ذلك الرجل يمثل أمامى يوميا تقريبا بحكم عمله وعملى وكلما حييته وسألته عن حاله قال وهو هاش باش كمن ملك الدنيا ومافيها( الحمد لله، والله مبسوط بسطاً يقسموا منو للجيران) وكنت أعرف أنه قد يكون لحظتها لايملك قوت يومه، لكن الرجل كان مؤمنا وشاكرا حامدا دوما، مرت سنوات عديدة ولازلت أتذكر ذلك الرجل الباسم دوما بوجهه الوضئ وهو يحمد الله في سره وجهره، وكل ماقابلت بعضا من معارفي وأصدقائي ميسورى الحال وسمعت شكواهم الدائمة وتذمرهم وهم سابحون في النعيم تذكرت( على النعمان) ذلك الجاويش النبيل الذى يقطع النهر يوميا من شندى الى المتمة وبالعكس بالبنطون وليس في حيبه شروى نقير لكن حمده وشكره لله وابتسامته تساوى ابتسامة من ملك الدنيا ومافيها،وقلت لنفسى : ترى ماذا يفعل مثل هذا الرجل لو أنه بلغ مابلغه أولئك من خير عميم وتوفيق؟!، وماذا كان أولئك فاعلون لو أنهم كتب عليهم شظف عيش مثل ذلك الذى عاشه هذا الشاكر الحامد؟!
وفي الحياة يقابلك نوع من الناس مثل العقارب لايسعدوا الاب الحاق الأذى بالاخرين، ولايتذوقون طعم الحياة الا إذا ازاحوا من طريقهم آخرون يستحقون الانحناء لهم اجلالا واحتراما،هم يخافون دوما أن يسطع نجم بجوارهم فيلقي بهم في بحر الظلمات كما يظنون، ثقتهم بنفسهم قليلة وخوفهم ممن يفوقهم مقدرة أكثر من خوفهم من الله والعياذ بالله،لذلك لايهدأ لهم بال إلا بإبعاد كل من يظنونه منافسا لهم ، وهم دوما في حالة تملق لمن يظنونهم يملكون زمام الأمر وفي حالة إذلال لمن يظنونهم دونهم منزلة،هولاء يسعون بالنميمة والوشاية والأكاذيب لتشويه صورة الآخرين، ويرتدون وجوها ليست لهم ويدعون فضائلا ليست فيهم، ويلصقون بالاخرين مذمة مزورة ومزيفة وباطلة وهم يعلمون، لكنهم على الكذب مفطورين وعلى النفاق متدربين، رقابهم محنية مذلة لمن يتوسمون فيه القوة، وانيابهم تقطر دما من دم ضحاياهم، ذممهم واسعة، السنتهم بذئية، عيونهم متلصصة،وأياديهم في جيوب وخزائن الآخرين دوما، لايشبعون، ولايندمون، ولايشعرون بعذاب الآخرين.وهم مفضوحون لكنهم آخر من يعلمون.

الكهوف السحرية( الجامعة وجوه وزوايا وأركان) سيرة

الجامعة : زوايا واركان ووجوه
ودود الابتسامة ( اسامة عثمان )
وجه باسم ونظرات واثقة وشخص تشعر منذ الوهلة الأولي بالامان في حضرته وانك تعرفه منذ الميلاد، جذوره تنحدر من محافظة المتمة فهو سليل بيت عريق هنالك وخاله كان رجل اعمال عصامي شهير احتل مساحة كبيرة من ذاكرة المجتمع السودانى ردحا من الزمن حين برزت مملكته الاقتصادية الصغيرة للوجود وتناقل الناس خيوط قصة نجاحه بمحبة في السبعينات كأنها قصة نجاح كل واحد منهم، ومن المؤثرات الكبيرة في شخصية أسامة كونه من ابناء امدرمان حيث حبا ونما ، في جامعة القاهرة الفرع عرفته وقابلته أول مرة، كان قد سبقنا في دخول الجامعة قبل عدة سنوات ولكنه زاملنا منذ بداية دخولنا وحتى تخرجنا كأنه ولج الجامعة معنا بسبب كونه درس كليتى التجارة والقانون في ذات الجامعة وكان من ناشطى الجبهة الديمقراطية غير المعروفين الا للمقربين منه ، فهو شخصية لاتحب الظهور ولا الأضواء، وجدت نفسي ذات نهار أمام رجل مبتسم ابتسامة عريضة صافحنى بمودة وحيانى تحية صديق قديم وهو ينادينى باسمي كاملا كعادته التى لم يتركها قط، كنت قد سمعت عنه كثيرا من أصدقاءمشتركين كانت الابتسامة تعلو وجوههم كلما ذكروا الأسم ( اسامة الظافر) وهو اسم الشهرة الذي عرفناه به، عرفت حين التقيته سبب الابتسام فقد بت كلما تذكرته علت الابتسامة وجهى، كان شخصا لطيفا ومحبا للمرح بشكل ملفت ، كل حكاية عنده تبدأ بضحكة وتنتهى بضحكة أخري وكل شخص عنده موضوع حكايات مرحة بسيطة ولكنها تستدعى الف ابتسامة، وحين يتحدث تشعر ان صدره امتلأ بالهواء وحين يضحك تشعر ان غيمة سارة قد احتلت المكان،كان له فضل انتشار مجموعة من الالقاب علي عدد كبير من الاصدقاء فهو صاحب مصطلح ولقب ( العنقريب) الذي وزعناه بكرم حاتمى علي مجموعة كبيرة من الاصدقاء ، كانت البداية عنده حين كان يقول عن الصديق محجوب اسناوي( محجوب العنقريب) ثم اتسع اللقب فشمل كل صديق وبات من الشائع ان يسبق اسم كل صديق لقب العنقريب ومن اكثر من التصق بهم اللقب الاخ باشا من اولاد عطبرة حتى ظن الكثيرين انه لقب حصري له، وكان هو من اطلق لقب (سمبو) علي الاخ حيدر الذي طغى علي اسمه لقب آخر هو( حيدر الشرعي) وكان السبب انقسام حدث في تنظيم الجبهة الديمقراطية وكان هناك فريق يطلق عليه القيادة الشرعية وفريق يسمى المنقسمين وفي هذا الجو اطلق اللقب علي (حيدر) ، وكان هناك لقب آخر الصق بالاخ (علي البوب) فبتنا حتى يومنا هذا لانعرف له اسما سواه ( علي البوب) وكان اسامة هو مصدر اللقب أما (علي الوجيه) فلا أدري ان كان مبتكر اللقب هو أم الاخ فرانسوا ، لكن المؤكد ان لقب القسيس الذي الصق بفرانسوا كان مصدره اسامة وتناقله الناس عنه حتى بات شارة رسمية للقس حتى اختفي بعد هجرته خارج البلاد، اسامة كون من الوسامة واللطف يستقبل الناس بحكايات لاتنتهى فهو مخزن حكايات وأسرار ولكنه ليس ثرثارا، بل في طبعه ميل للتواصل ولديه دوما حكاية مشوقة في كل موضوع يفتح. عرفته دائما عفيفا عن تلطيخ أو تشويه صورة الآخرين، فهو يلوذ بالصمت حين يصير الحوار فيه ملمح أو شئ من ذلك. ربما لهذا السبب ظل دوما موضع احترام ومحبة الجميع. وكان زواجه هو وقرينته السيدة غادة عوض شوقي حدثا مهما في حياتنا فقد عرفناه وعرفناها وتمنيناها له وتمنيناه لها فقد كنا شهودا علي أيام التفتح الأولي لتلك الشجرة التي ربطت بين جامعتين كان تربط بين شبابهما روابط ثقافية وسياسية واجتماعية عديدة فجاء زواج بنت جامعة الخرطوم بهذا الفراعي الجميل تتويجا لعلاقات جميلة بين ابناء الجامعتين في ذلك الزمان. واسامة رياضي أصيل عرفته مدينة بورتسودان وهلالها في النصف الاخير من الثمانينات وحتى التسعينات عضوا نشطا بادارة نادي هلال الساحل وقمرا من اقماره. وفي منتصف التسعينات التقيت اسامة في مسقط رأسه المتمة حيث كنت قاضيها وحل بها لحضور مناسبة زواج هنالك فالتقينا واستعدنا ذكريات الجامعة وكنت قبل ذلك قد حللت ضيفا بمنزله ببورتسودان في عام 1991 حين حللت هناك في رحلة عمل عاجلة. وهكذا التقينا في مدن الوطن الجميلة( الخرطوم ثم بورتسودان ثم المتمة) . ومرة أخري التقينا في بورتسودان حين جئتها قاضيا في العام 2006 ،وذات يوم جئت امدرمان لعزاء فوجدت العزاء ملاصقا لمنزل اسرة اسامة وكان العزاء يخص أهل زوجتى. وهكذا السودان تجد فيه الف خيط يربطك بمن تعرف ومن تحب.

الكهوف السحرية( قصيدة عشر لوحات للمدينة وهى تخرج من النهر) سيرة

كما وعدتكم بنشر قصيدة الشاعر محمد محي الدين ( عشر لوحات للمدينة وهى تخرج من النهر) التى كتبت في ذات اسبوع اسشهاد الشهيد طه يوسف عبيد شهيد انتفاضة يناير 1982 في يوم الأحد الموافق العاشر من يناير 1982 حوالى الساعة العاشرة صباحا بمدينة ودمدنى قبالة الادارة المركزىة للكهرباء برصاص جندى يتبع للقوات المسلحة اطلق النار على مظاهرة سلمية قوامها الطلاب والمحامون والأطباء وباقي فئات المجتمع ضد نظام مايو.

قصيدة الشاعر الكبير محمد محى الدين ابن مدنى الخضراء ( عشر لوحات للمدينة وهى تخرج من النهر) قصيدة خالدة وملحمىة بكل ماتعنى الكلمة من معنى فقد وثقت القصيدة ليوم خالد في اريخ مدينة ودمدنى والسودان وهو العاشر من يناير 1982 يوم الهبة الثورية لأهل ودمدنى في وجه نظام النميري المستبد فيما عرف بمظاهرات السكر التى هزت نظام مايو وكانت سببا رئيسيا من اسباب ثورة الشعب المجيدة في ابريل 1985، تصور القصيدة غضب مدينة ودمدنى وخروجها على بكرة ابيها في صبيحة العاشر من يناير 1982 في مسيرة عملاقة كانت تتويجا لعدة مظاهرات سبقتها خلال شهر ديسمبر 1981 ، في العاشر من يناير تجمع الأطباء والمعلمون والمحامون والعمال والطلاب جوار السينما الوطنية وخرجوا في موكب مهيب عبر شارع الجمهورية صوب تجمعات العمال الكبيرة في الادارة المركزية للكهرباء والمياه والمؤسسة الفرعية للخفريات، وفي المنطقة الواقعة بين الادارة المركزية للكهرباء وكلىة المعلمات واجهت السلطة المتظاهرين العزل بالرصاص الحى وسقط طه يوسف عبيد الطالب وقتها بمدرسة السنى الثانوية شهيدا مضرجا بدمه الطاهر الذى رشح في ملابسنا نحن رفاقه، وعند التشييع تعرض موكب التشييع لأطلاق النار عليه مجددا واصيب الشهيد مجددا، يصور الشاعر المبدع الحدث صويرا يقارب الحقيقة كثيرا وتحتشد فيه صور الشهداء والشعراء وكبار رجال الطرق الصوفية في مدنى وحتى سميرة أحدى مجانين المدينة كانت حاضرة فتبدو المدينة بحاضرها ةماضيها وشعراءها وشهدائها وشهداء السودان كلهم سائرون في المظاهرة التى توج فيها طه شهيدا، هى قصيدة رائعة وكان صاحبها شجاعا وهو يقرأها في تلك الايام ببسالة مماثلة لبسالة الشهيد. ادعوكم جميعا للقراءة والاستماع. ويمكنكم مراجعة شهادتى عن اسشهاد طه فقد كنت شاهد عيان لكل ماجرى وكتبته هنا في هذا البوست وفي مواقع أخرى.

عشر لوحات للمدينة وهى تخرج من النهر
إلى روح الشهيد طه يوسف عبيد
الشاعر / محمد محي الدين
قصيدة انتفاضة العاشر من يناير 1982 ( ودمدنى)
تأبين الشهيد (طه يوسف عبيد) شهيد انتفاضة يناير
1
لوحة صباحية
شجر البان استعاد الريح
وارتاح على رقصته النسوة
يغسلن الجلابيب الثياب الخضر
اركان البيوت انتفضت
بالأرجل الراكضة الطير انتشي
صفقت الزونيا
وضجت ساحة الجميز بالطير الصباحى
الحمامات تبرجن ورجرن على الابراج ريشاً أبيضاً
والنهر اخفى لونه العادى
اجيال من الاسماك ترمى ظلها المائي
تخضر وتحمر
على الشاطئ عمال المجارى
بائعات الكسرة الشماسة النسوة
ارباب المعاشات
في انتظار السفر الباصات ملت جسد الاسفلت
القت راكبيها
وتخلت عن مواعيد لعشاق يعيشون الجوى فيها
كراسي الخشب المكسورة الأيدى زماناً في مقاهى السوق
تشتاق لرواد يضيئون الزوايا
والدراويش استفادوا من نشيج الرعشة الأولى
على ايقاع بوب مارلي
استفادوا
لحظة اخرى من الظل الذى جاور جدران المراحيض العمومىة
والنسوة يدخلن تباعا والضريح انفتحت منه الشبابيك يلملمن الزورات
وارداف التجار المرحليون على باب المديرية تهتز
وآلاف من الطير الصباحى على بوابة النيل تحى حمد النيل
ورايات الضياء الخضر شوشن اذاعات جنود الشعب
في الحامية الباسلة
الطير انتشي
شجر البان استعاد القبعات الموسميات
استراحت غابة النيم على وقع خطى الجند
رجال الامن يوفون نذور الحب للتجار والسادة والقادة
والأطفال يوفون نذور الحب للأرض
البيوت انتفضت بالأرجل الراكضة
الاردية الخضراء والزرقاء والكتب الحكايات المجلات الطباشير المناديل الزهور النور
والنسوة نشرن الجلاليب على الجدران
جهزن الملاءات
الحنوط
الكسرة الصامتة /الصامدة
الشايا
وعبَّأن الأناشيد
المواعيد
وأقلام الرصاص
الجرس الاول دقّ
الجرس الثاني دقّ
(الجرس الثالث ..
دقت الاجراس دقّ
جرس جرس
النحاسى
الاساسي
الخلاسي
الخلاصي
الرصاصي
الرصاص


2

لوحة بالطباشير والحبر
الشبابيك مناديل يلوحن
مناديل بلون العشب والحب
الدروب انتظمت وردا جديدا
لبست لونا بلون الجرأة
اختارت صباحا يلبس الاردية الزرقاء والصبية
اطياف المراجيح ندى الخبز المحابر
والمناديل مزامير يزغردن
عصافير بصوت فجعته صعقة الرعب
العصافير تراجعن واعلن الهتاف المر
نشرن المناديل على الابواب
ثبتن المزامير على قلب الحناجر
والمزامير عصافير اذابت بحة الجوع وآهات الشبابيك قليلا
واضاءت لغة الأسفلت بالأحمر
والأحمر لايكذب يأتى
في سراويل من الدم سيأتى
راجلا يسبق الاف الخناجر
والعصافير طباشير رسمن العالم الرائع مرات على الاسفلت
بالحبر الصباحى تبادلن المناقير
رسمن العالم الثالث والخامس والسابع في صمت وأغلقن الدفاتر.
3
لوحة لم تكتمل بريشة طه يوسف عبيد
لم تتم
كان (عبد الحفيظ )يصافح اطفال ود ازرق الرائعين
ويشرح اسراره
كيف اعلن سر الرصاصة حل وثاق البنادق
وضح لغز العلاقة بين الدم المتفجر والموت والكسرة العائلية والقبلة الدافئة
لم تتم
شرد اللون والريشة انتفضت
رابطت في الشوارع
و(القرشي) يدخل الآن مدرسة النهر
ينشر كراسة تتوزع فيها المناخات
تلمس ريشته مدن الجوع والبلد المستباحة
تلمس كل القرى السكن الموت فيها
القرى الحل فيها العذاب وشردت الريح اطفالها
الصبية انتشروا يكتبون النشيد وكراسة الوطن المتوهج
والقرشي يصافح عبد الحفيظ ويرتحلان على فرس من دم
أبيض
أخضر
أحمر
4
لوحة رسمية
لا إله سوى البندقية
والحاكمية للشرطة العسكرية
والأمر للأمن والنهى للجند
ان الطمأنينة اليوم سائدة أيها الناس
فاعتدلوا وقفوا للصلاة الأخيرة
إنا نشاوركم بدخان القنابل
ثم نخبركم بحديث الزلازل
ثم نبشركم بدم في المنازل
ثم نفاجئكم بالرصاص
.
5
لوحة شعبية
يا يا با يا السنى
السنى يا السنى
يا البلبل الفنى
يا المهدى اضمنى
هدر الحديد الحديد
والزند فوق الزناد
يايابا يا السنى
ثوب الحداد الجديد
ثوب البلاد البلاد
يا يابايا السنى
رجفت يد الجلاد حين استمر النشيد
يا يابا يا السني
ويستمر النشيد
ويستمر الشهيد



6
لوحة سيريالية
خرجت الاسماك الذهبية أولا من النهر
واطلت النجوم التى كانت تختفى في الماء دائما
ونفض النهر قميصه العادى
وارتدى قميصا احمرا
وعمامة بيضاء
ترك شارع البلدية واخترق السوق
انتبه عمال المجارى والمادح وبائعة الليمون
ومن قبة (ودمدنى السنى) خرج الدراويش والكهول
والبنات اسدلن ضفائرهن على الاسفلت
رواد المقاهى تركوا احذيتهم تحت الكراسي المكسورة الأيدى
(حمد النيل )كان في المقدمة يحمل رايته الخضراء
(العليش) ترك فروته االرمادية امام (الكونتيننتال)
وفاطمة القروية كانت تهرول بين (السوق الجديد )و(كلية المعلمات)
كان الاسفلت يبدو جديدا وأنيقا
وقف النهر لحظة ليستعيد انفاسه
صعد الشيخ (عبد السيد) و(تاج الدين)
كان (الناطق )يفتح شبابيك النهر
ويحمل (نوبة) من جلد الدمور
وجريدة لم يحن وقت قراءتها بعد
انفرد (عوض الجيد) بالغناء
وانفردت (سميرة )بالرقص
واطلقت فاطمة المدنية عشرين زغرودة
انفجر (تاج الدين) بالضحك المتواصل
صفقت الامواج وطار الزبد الابيض
انتتبه (حمد النيل) اولا ورفع رايته الخضراء
تغير لونها قليلا
انتبه الرجال تحت الراية
اصلح (على عبد اللطيف) عمامته وشمر عن ساعديه
وتحسس (معاوية عبد الحى) خاتم الخطوبة حول اصبعه وابتسم
كانت فاطمة في هذه الدقيقة بالذات
تقف بين النهر الراجل والورشة
ورأت كل شئ:
رجال الحامية ،والعلم الامريكى
كبار تجار المدينة،
وموظفات البنك الدولى، ورجال الامن ،
والرشاشات محشوة بالحبر والسكر والرغيف،
اطلقت زغرودة اخرى
كان النهر يعلو
وطه يوسف عبيد محمولا علي مياه النهر الرائعة
يرتدى قميصا من السودان
وهلالا على جبهته من البرق الذى سوف يأتى
كان (لوركا) يجاذبه اطراف الحديث
و(خليل فرح )يترنم بالمقطع الأخير من عزة
و(غسان كنفانى) يتحدث عن اللون الأساسي في لوحة طه الأخيرة
انهمر الرصاص فجأة
وسقط طه يوسف عبيد أولا
سقط للمرة الثانية
تمزقت الصور الملونة
وخرجت المدينة من النهر عارية
تجفف ثقوب الرصاص على حبل الشمس الغاربة.

7
الوان
(ا)
اسودا كان لون النهار
وكانت خيوط الأشعة سوداء مصبوغة بالدخان
خطوط الجرائد سوداء
صوت المذيع يندد بالشغب الموسمى
ويعلن للشعب باسم قوى الشعب ان الاشارة خضراء ان الطمانينة سائدة
لا إله سوى القبعات.
ب
اخضرا كان لون الشجر
ج
ازرقا كان لون النهر
10
لوحة حمراء تماما
اخضرا كان لون الحقول
ولون الغصون واشجارها والعصافير
كانت مياه الجداول زرقاء
والنهر غير أزيائه
الحقل غير ازيائه
والمدارس والمصنع الدور

والأحمر الآن
إن الشوارع غارقة في الدم الأحمر
والأحمر لايكذب يأتى
في سراويل من الدم يأتى
راجلا يسبق ألاف الخناجر

ودمدنى يناير 1982.

يمكنكم سماع القصيدة بصوت الشاعر كما سجلت في عام 1982 هنا
http://www.4shared.com/mp3/P0uLjHJh/_____.html

الكهوف السحرية ( الجامعة وجوه وزوايا وأركان)

الجامعة: أركان وزوايا ووجوه
من ذكريات الجامعة جوانب متعددة، منها الموجع، ومنها المضحك، ومنها غير ذلك،في الجامعة تتقاطع وتتلاقى ثقافات السودان كلها، ولعل هذا هو الوجه المشرق لتمركز التعليم الجامعى في العاصمة دون غيرها، فالمرحلة الجامعية هى قمة الهرم التعليمى الذى يندفع من فوهته الطلاب الى نهر الحياة الصاخب وفي الغالب يتقلدون مواقع في العاصمة نفسها أو في المدن الكبيرة، لذلك فان قضاء فترة الجامعة في العاصمة وانصهار الطلاب بثقافاتهم المحلية المتباينة في نهر واحد هو الجامعة في قلب العاصمة القومية هو خير اعداد نفسي وعملى للطلاب للمراحل المقبلة في حياتهم، فضلا عن ذلك تذوب كثير من الأوهام المتبادلة بين الطلاب حول بعضهم البعض بسبب النشأة في بئيات متباينة في وطن شاسع مترامى الأطراف متعدد الثقافات والأعراق، اتذكر أيام الجامعة الآن فأجدها اجمل ايام حياتى على الأطلاق، في الجامعة التقيت بفرانسو ذلك (الشماس ) الجميل، لم يحل لون الخواجة عنده بينى وبينه ، ولم يقف اختلاف الدين حاجزا بيننا مطلقا،كان أقرب الاصدقاء لروحى، ليس لى وحدى ، بل لكل من عرفه من الزملاء والأصدقاء، كنت تقسم لو رأيته انه خواجا حل للتو بالوطن، ولكنه حين يبتسم ويتحدث بلهجته السودانية الموردابية بسبب علاقته الخاصة بحى الموردة تجد نفسك أمام رجل تصرخ عندما تراه صرخة أوسكار وايلد الشهيرة في روايته (أهمية ان تكون جادا) حين وصف بطله : (ان كل بوصة فيه تقول انه جندى) فتصرخ مسودنا للعبارة(كل انش في فرانسو يقول انه سودانى قلبة وعدلة.) وهو كذلك بالفعل، ولد ونشأ في مدينة سنار ونشأ وسط أهله الاقباط السودانيون حتى بات (شماسا) وولج الجامعة
وبات عنصرا نشطا في الحلبة السياسية في الجامعة وبقيت روحه المرحة الساخرة هى ماتميزه وتجعل مكان تواجده قبلة للجميع بسبب خفة دمه وشخصيته التى تصبغ الاجواء بالمرح والنكتة الحاضرة. فرانسو هذا اظنه اكثر معارفى تنقلا في العمل، فقد امتهن عدة مهن ووظائف منها موظف ومدير وكالة سفر وصحفى، ثم انتهى به المطاف مهاجرا خارج الوطن هجرة بدأت باسمرا وانتهت باستراليا حيث انقطعت أخباره. وفي الجامعة نفسها التقيت بالأخوين عادل وزهير فيصل من ابناء مدينة بربر، وهما طرفي نقيض، الأول شخصية عاصفة فهو خطيب سياسي مفوه ، ما أن ينطق الكلمات الأولى في ركن النقاش حتى يتوافد الناس زرافات ووحدانا ليستمعوا لهذا الشاب الذي يشبه أولاد لعاصمة الخرطوم بهندامه وطريقة لبسه ولكن لكنته وطريقته في الحديث بعامية أهل الشمال( قلنالم وقالولنا)_ يقصد قلنا لهم وقالوا لنا_ تقول أنه قادم من محطة القطار مباشرة الى ركن النقاش، ولعل هذه الطريقة الخاصة في التحدث هى التى أعطته جاذبية وختمته بطابع مميز وجعلت أفئدة الطلاب تهوى الى ركنه دوما.أما زهير فيصل فقد كان زهرة جميلة فواحة لاتتحدث الا عبر عبيرها وروحها السمحة، كان كثير الابتسام قليل الكلام، تزوج برفيقة دراسته ومشوار حياته اقبال وهى من بنات بيت المال وكانا عصفورين وديعين في ذلك الزمان اللاهث ، وقد تربصت الأقدار بزهير فرحل عن الدنيا باكرا بعد صراع باسل مع داء عضال. وكان أبوبكر محمد أبكر القادم من قلب دارفور بعد رحلة طويلة في رحاب العمل كمعلم جعلته يبدو أبا وقورا خفيض الصوت مهذبا في جداله السياسي الى حد انه يبدو عاجزا عن مجاراة خصومه حين يهاترونه فيظل متحدثا بأدب جم وصوت خفيض ومنطق رصين، كان الرجل زهرة أخرى في بستان الجامعة، كنت حين أنظر اليه اتساءل ببراءة في دواخلى( كيف عرف أبوبكر الطريق الى دروب السياسة؟ هل هناك طه آخر قتل في دارفور دفعه مقتله الى دروب السياسة مثلى؟!) ظل السؤال بداخلى حتى وجدت فرصة وسألت ابوبكر يوما حول سبب ولوجه عالم السياسة، ابتسم وحكى لى قصة طويلة لم اهتم بها كثيرا كونها لم تتطابق مع تصوراتى المسبقة، لكن ابوبكر كان شخصية غنية، عالما مشحونا كوتر قوس مشدود، انسان ثرى الدواخل،مسالم لأبعد الحدود، معتد برأيه بلا صلف ،معتدا بجذوره بشكل لافت، حكى لى قصته مع الحياة ، لماذا امتهن التدريس وكيف دخل الجامعة مع بعض من تلاميذه، كان رجلا عصاميا فريدا، لكنه كان يحكى حكايته كأنها قصة قرأها في كتاب مطالعة وليست قصة هو بطلها وضحيتها وقديسها، في ذلك الوقت لم اكن اعرف عن دارفور سوى اشياء عامة ومبهمة ومشوشة، ليتنى التقيتك يا ابوبكر بعد سياحتى الاجبارية في دارفور بعد ذلك بسنوات طويلة، فقد كان يمكن ن اعرفك بشكل أفضل وأن أحاورك بشكل أفضل، فليس ثمة شئ ابشع من ان تتعامل مع انسان عبر زجاج التصورات المسبقة المشوشة، كان هناك (سنين محمد صالح )وهو من ابناء الفاشر، وكان هو وأبوبكر ومحمد عبدالله محمدين والناظر اصدقاء، وقد صار سنين محاميا يشار اليه بالبنان هناك وقد قابلته هناك بعد سنوات طويلة حين جئت الفاشر قاضيا فوجدت نفس الرجل البشوش الصدوق يستقبلنى بحفاوة وترحاب كبير.أما محمدين فقد كان هو الآخر شخصية جميلة، رجل ودود لابعد الحدود، انسانى ، محب للحكايات والونسة وهو ضاحك دوما، عمل بالمحاماة بالخرطوم لفترة ثم ارتحل الى مدينة القضارف حيث صديقنا الضخم عمر الخليفة، ثم صابته سوسة الهجرة فهاجر خارج السودان، الي القاهرة في البدء، ثم هجرة أبعد الى أوربا حيث انقطعت اخباره. ومن الشخصيات الدرامية في الجامعة ذلك الحصان الأسمر الضاحك الذى عرفته قبل الجامعة دون ان يعرفنى ( محمد عبد الخالق) ود عطبرة الموهوب فقد كان بطلا لمسرحية اسمها الكرت الاحمر شارك بها في الدورة المدرسية في مدنى في مطلع الثمانينات قبل ولوجنا الجامعة، بقيت صورته في ذهنى حتى التقينا ثانية في الجامعة في ذات الكلية مع فارق عام بيننا فقد كان هو في الدفعة التى امامى، كان محمد شاعرا مجيدا يكتب الشعر بالفصحى والعامية بمستوى واحد، وكان يحفظ لكثير من الأشعار لشعراء ثوريين كبار في كل العالم، وكان قاصا مدهشا في سرده لكل حكاية مهما كانت تافهة وبسيطة، فالدرامى الكامن فيه كان قادرا على استخلاص مشاهد درامية مثيرة من كل شئ، كان يملك حيالا خصبا وروحا مبدعة وقدرة مذهلة على سرد الحكايات بشكل مثير يمسك بتلابيب السامعين ويسحرهم ويجعلهم متسمرين في أماكنهم طوال زمن السرد. ومحمد مثل غيره من ابناء عطبرة مغرم بعطبرة وسيرتها النضالية وحكايات المناضلين القدامى التى ترتفع بهم الى مقامات الأولياء، وقد عالج هذه الموضوعات في شعره الجميل بكثافة ومن زوايا متعددة. استقر محمد بمهنة التعليم قليلا واستقر بضاحية الحاج يوسف الى حين ، ثم هاجر الى القاهرة وامتهن الصحافة لفترة ثم هاجر الى الولايات المتحدة الامريكية حيث استقر به المقام وسكت صوت الشاعر فيه وغاب في زحام تلك المدن المفترسة.

الكهوف السحرية ( القبح والجمال في السودان) سيرة

القبح والجمال
من قصص الجامعة التى لا أنساها ذلك اليوم الذى وقف فيه الأب فيليب غبوش خطيبا في الجامعة فتحدث ببساطته تلك منافحا عن قومه ومتحدثا عن التهميش الذى تعرضوا له والأعمال التى لاتليق بكرامة الانسان التى أجبروا على ادائها حين قدموا من الريف الى المدينة، تذكرت عندها أولئك الذين احتلوا قسما كبيرا من المشهد في طفولتى، أولئك الراقصون عصرا في قلب المدينة الظالمة التى اجبرتهم على حمل قاذوراتها فوق رؤوسهم نهارا، أولئك الذين كنا نطاردهم ونحن صغار بكلمات بغيضة فيها عنصرية بغيضة لم تكن سنوات عمرنا وقتها تسمح لنا بفهمها مثل عبارة( سيد العفونة ..شطة بي ليمونة) كنا نصيح بتلك الجملة التى تفجر الغضب ونركض بعيدا كنوع من الشقاوة التى تميز الطفولة، أتذكر مهرجانهم الفريد عصرا كل يوم في (الدرادر) وهو اسم تلك البيوت الصغيرة المكونة من غرف صغيرة بلا أسوار وهى خليط من الطوب الأخضر وعشش الصفيح حيث كانوا يقيمون في المسافة الواقعة بين حى 114 والمزاد في مدنى، الدرادر كان اسما له معنى فهو يختصر قصة معاناة سكانه في مدينة لم تقدم لهم سوى المتاعب التى ابلغ حد الدردرة أى الشقاء الدائم ، لكنهم كانوا قادرين مع ذلك على الفرح وصناعته وتوزيعه لكل المدينة من تلك البقعة التى أريد لها صناعة البؤس فصنعت سعادة من حولها،تنطلق أصوات الصفافير ويخرجون لامعى الأجساد الأبنوسية وهم شبه عراة يسترون فقط مكان العورة بحزام ملون من الريش والسكسك والخرز الملون ومثله يكون هناك تاج ملون فوق الرؤوس التى يربط بعضهم فوقها قرون البقر، يرقصون الكمبلا بلا توقف ويرقصون رقصات أخرى لانعرفها وتنطلق مباريات المصارعة المسماة صراع النوبة ، جميلة ومشوقة وفاتنة والدائرة حول المتصارعين والراقصين تضيق وتتسع حتى مغيب الشمس حيث تغيب شمس ذلك المهرجان. عندما أذكر ذلك المهرجان أدرك انه كان في حقيقته صرخة احتجاج كبيرة على ظلم ذوى القربى لأهله، صرخة احتجاج استخدموا فيها موروثاتهم وهويتهم الثقافية ليقولوا لا كبيرة لتعامل المدينة وأهل الثقافة السائدة فيها معهم، كانت صرخة احتجاج مبكرة أعلى صوتا من كلمات الأب فيليب وبقية الخطباء، لكننى احتجت مرور كل تلك السنوات بين مشاهدتى لتلك الصرخة في وادى الانسانية وبين اللحظة التى سمعت فيها صرخة الأب فيليب لأعود بالذاكرة الى الوراء وأفهم حقيقة ماجرى وأدرك جوهر الأشياء، يومها بكيت سرا، وبحثت عن طريقة أقدم بها اعتذارا عن شقاوة الطفولة وعن مشاركتى في مهرجان القبح ضد نهر الجمال ، فلم أجد. كثيرة هى الصور المماثلة في حياتنا التى تحتاج الى اعادة النظر فيها والتعرف على حقيقتها وجوهرها من جديد بوعى جديد يتجاوز القبول بما هو كائن الى رحاب مايجب أن يكون.

الكهوف السحرية( حين تقود الكلمة الى السجن) سيرة

حين وصلت مدنى كنت في البدء خائفا مترقبا، ولكن أجواء الكمبو ( حى 114) الحميمة احتوتنى وأنستنى ما كنت فيه من أجواء متوترة، كانت ضحكات رفاق الطفولة تطاول أعنان السماء، وكان الدافورى جوار بيت ناس ناجى حسن محمد صالح حارس الأهلى ورفيقي في حراسة مرمى فريق المجد مولع نار، كان الدافورى تقليدا مرحا لأولاد الكمبو لم يتخلوا عنه قط حتى بعد ان صار بعضهم نجوما يشار إليهم بالبنان في فرق مدنى الكبيرة مثل محجوب فضل الشهير بفجوك حارس الموردة والمرحوم صلاح الشاذلى حارس الأهلى مدنى في عصر ذهبى وعبد العظيم الشهير بكزيمو مدافع الاتحاد الصلد وتمبكة وحربة وبدر اسرائيلي نجوم مريخ مدنى وبهاء الدين حسن نجم التضامن، جميعهم كانوا يواظبون على الدافورى الذي كان يلعب في ميدان صغير والمرمى فيه صغير جدا عرضه شبحة قدم واحدة والعارضة صغيرة لاتعلو من الأرض أكثر من نصف المتر، ولكن الحضور حاشد والتحدى ساخن والمدافرة من القوة بمكان والمرح حاضر وكذلك الخرخرة، كان ابطال الدافورى دوما أكثر الناس حماقة وخرخرة وأبرزهم الأخ معتصم حبشي، اما أكثرهم هزلا بلا منازع فهو معتصم حسن صالح الشهير بالوحش وشقيقيه ناجى الشهير بتشتتش وعماد الشهير بعماد لنقز، كان الدافورى بمثابة حفل ترويحى للصغار والكبار الذين يكتفوا بالمشاهدة الممتعة، وقد بلغت شهرة الدافورى حد انه استوعب ضيوفا من أصدقاء الكمبو من الأحياء الأخرى أبرزهم عليوة لاعب الأهلى وآخرين سقطوا من الذاكرة. من الدافورى كنا ننتقل الى النادى الذي يعج بالحياة، صحيفة حائطية، مباريات تنس طاولة، تربيزةضمنة ساخنة فيها تحديات لاتنتهى بين مجموعات متباينة، أبرز اللاعبين الريح أبو الريح وشقيقه يوسف الله جابو وصلاح التلب عليه الرحمة وصلاح حسن سعيد ومعتصم الساحر وحربة وقبلة وحسن علوب . وهناك تربيزة الكوتشينة الكونكان والويست التى يعلو ضججها كلما ألقي أحدهم كرت الفتوح. وكان هناك فاصل يقودنا الى محل عثمان علفكو بائع الفول المصرى الشهير في الكمبو، ننفق وقتا في اعداد الفتة في صحن كبير، ثم نهرول نحو الدور الثانى في سينما أمير القريبة أو السينما الخواجة أو الوطنية،وكانت السينما الهندية لاتزال هى المفضلة والأثيرة مع بعض المرات التى نشاهد فيها فيلما أجنبيا من النوع الذي يسمى( استورى) في سينما الخواجة أو نشاهد فيلما عربيا كوميديا من شاكلة عماشة في الأدغال. المهم اننى اندمجت في تلك الأجواء المحببة الى النفس ونسيت ماكان بالخرطوم أو كدت ، حين جاءنى أخى الأكبر أحمد لاهثا وأنا بالنادى ليخبرنى باننى ملاحق من قبل سلطات أمن النميري وأنهم سألوا عنى بالبيت ويجب أن أغادر النادى على جناح السرعة، وقد كان، غادرت النادى ولم أعد الي البيت ليلتها ، بل ذهبت مع أحد ابناء الحى السابقين الذين انتقلوا الى حى مايو وبت ليلتى في منزل آخر يخص أسرة صديقة كانت من سكان حينا القديم الكمبو .لكن القصة لم تنته عند هذا الحد، قبض أفراد الأمن على أبي الشيخ ووجد نفسه لأول مرة في حياته في مواجهة مع السلطة والقانون وهو الرجل الذى لم يقف يوما بباب سلطة شاكيا ولامشكيا ولا حتى شاهدا، فقد كان رجلا مسالما كرس حياته كلها لأجل أسرته الصغيرة وعمله. ذهب أخى أحمدليطمئن على أبيه فقبضوا عليه وأفرجوا عن الأب متفادين حرجا أكبر بحرج أصغر متخذين من أبي ثم أخى رهائن الى حين تسليمي نفسي، وقد كان، سلمت نفسي ، أفرجوا عن أخى ، وولجت سجن مدنى الكبير مع كبار القادة السياسين وقتها( مجدى سليم المحامى/ جكنون المحامى/ عبد الله باشا المحامى/ المرحوم الدكتورمدنى أحمد عيسي/ مجموعة من نقابي مصانع النسيج اتذكر منهم داؤود وعثمان عبد القادر والحسن) وبالسجن نفسه كانت هناك مجموعة كبيرة من قيادات الحركة الإسلامية بمدنى اتذكر منهم الدمياطى فقط. كنت أصغر معتقل سياسي وسطهم والطالب الجامعى الوحيد وكنت وقتهافي السنة الثانية حقوق. وكان من حسن حظى ان اعتقالي كان في الأسبوع الأخير لنظام مايو، فصبيحة السادس من ابريل ونحن في السجن عزفت الموسيقي العسكرية وقطعت الاذاعة بثها وأعلن سوار الذهب استيلاء الجيش على السلطة ونجاح انتفاضة الشعب في السادس من ابريل 1985. وخرجنا من السجن محمولين على الأكتاف وبت نجما من نجوم الكمبو في تلك الأيام.

الكهوف السحرية (الجامعة شباك الوطن الجريح)

كانت الجامعة خلية نحل لاتهدأ أبداً، الأحداث فيها متواترة متلاحقة لافواصل بينها ، ومن الحبة دوما تأتى القبة،وأتذكر جيدا أن دخولنا الجامعة تزامن مع اقرار نظام النميري لقوانين سبتمبر1983 التى أصدرها النميري معلنا زورا تطبيق الشريعة الاسلامية ونصب نفسه إماما وقد وجدت تلك القوانين معارضة واسعة ، وكان أبرز المعارضين لها الاستاذ محمود محمد طه زعيم الجمهوريين الذى أصدر منشورا سماها فيه باسم قوانين سبتمبر وقال فيه قولته المشهورة التى رددها في محاكمته التى انتهت باعدامه بتهمة الردة ("أنا أعلنت رأيي مرارا، في قوانين سبتمبر 1983، من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام. أكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام، ونفّرت عنه. يضاف إلي ذلك أنها وضعت، واستغلت، لإرهاب الشعب، وسوقه إلي الاستكانة، عن طريق إذلاله. ثم إنها هددت وحدة البلاد. هذا من حيث التنظير. وأما من حيث التطبيق، فإنّ القضاة الذين يتولّون المحاكمة تحتها، غير مؤهلين فنيا، وضعفوا أخلاقيا، عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب، وتشويه الإسلام، وإهانة الفكر والمفكرين، وإذلال المعارضين السياسيين. ومن أجل ذلك، فإني غير مستعد للتعاون، مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل، ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر، والتنكيل بالمعارضين السياسيين".)، كانت المحاكمة نفسها والإعدام حدثا مفصليا في الحياة السياسية في السودان، وكان يوما عاصفا في الجامعة سالت فيه الدموع وتجمعت فيه سحب الغضب وخرجت جامعة القاهرة الفرع في مظاهرة حاشدة بددت حالة الوجوم والدهشة والخوف وعدم التصديق التى خلفها الإعدام. وتجاوبت بقية الجامعات وكسرت طوق العزلة واستمرت المظاهرات الحاشدة في الخرطوم تتنقل من جامعة الى جامعة، واتذكر جيدا ان جامعة الخرطوم باتت مركزا لنشاط المعارضة التى خرجت للعلن في ندوة حاشدة بجامعة الخرطوم ميدان كلية الهندسة عشية اعدام محمود محمد طه وهى ندوة اختلطت فيها الكلمات بالدموع ونعى المتحدثون فيها السماحة التى ميزت الشعب السودانى وجددوا فيها معارضتهم لنظام النميري واعلنوا ميلاد التجمع الوطنى الديمقراطى.و في تلك الليلة نفسها تجدد تحالف عريض في الجامعات السودانية هدفه اسقاط نظام النميري ومؤيديه في الجامعات الذين جعلوا مناصرته تساوى مناصرة الشريعة الاسلامية. وقد كان عام 1984 عاما عامرا بالنضال الطلابي والشعبي ضد نظام مايو،ومن ذكريات ذلك العام مظاهرات واسعة شهدتها العاصمة وكانت الجامعات وطلابها هم وقودها وكانت الصحف الحائطية بالجامعات والندوات والأركان هى شرارتها، وبلغ الأمر حد ان قوات الاحتياطى المركزى حاصرت جامعة القاهرة الفرع يوما، وأغلقت أبواب المدرجات على الطلبة وألقت قنابل الغاز المسيل للدموع بداخلها، وأصطف الجنود بالهراوات أمام أبواب مدرج ثالثة حقوق حتى باب دار الاتحاد لينهالوا ضربا على الخارجين من المدرج ثم يقذفوا بهم داخل العربة الواقفة امام دار الاتحاد ليأخذوهم الى قسم شرطة غرب ( رئاسة شرطة الخرطوم الحالية) ومن ثم يقدموهم للمحاكمة بتهمة التظاهر والتخريب والدم ينزف منهم، قيض الله لبعض الطلاب قاضيا نزيها اسمه طارق برأ ساحتهم وأمر بمنحهم ارانيك جنائية للكشف عن حالة الأذى وفتح بلاغات ضد الشرطة، بينما كان نصيب بعضنا وكنت منهم ان نمثل أمام قاض آخر من طينة أخرى حكم علينا بالجلد عشرين جلدة وهو يسخر ممن دعاهم بالمناضلين سخرية، وقفنا في مجمع الخرطوم شمال نتلقي ضربات السياط بثبات زادته زغاريد انطلقت من أفواه موظفات في المبنى المجاور للمحكمة، كانت تلك طريقتهن للتضامن معنا. اتذكرهن بثياب بيضاء وهن كالملائكة ينظرن الينا من الطابق الثانى للمبنى ويزغردن( المبنى الآن صار مبنى مجلس الوزراء). بعد المحاكمة الجائرة لم يطلق سراحنا بل نقلنا الى فناء قسم شرطة الخرطوم غرب حتى يأتى رجال الأمن ليتخيروا من بيننا من يريدون اعتقاله من الناشطين.لكننى استطعت بطريقة ما ان اغادر القسم ومنه غادرت الخرطوم الى مدنى حيث كان للحكاية حكاية أخرى.

الكهوف السحرية ( الجامعة وأحلام العصافير والأسلاك الشائكة)

الجامعة وأحلام العصافير والأسلاك الشائكة
في الجامعة كان المشهد برمته جديدا ومثيرا،بنات جميلات في عرض دائم للأزياء، ضجيج مكبرات الصوت المتشاكسة الدائم، الموائد الفكرية المتباينة وعارضى الفكر والأفكار متعددى المشارب،حلقات الشعر والأدب، صحف الحائط وعناوينها المثيرة، المحاضرات المختلفة كلية عن الحصص المدرسية،فناء الجامعة العامر بالضجيج دوما،كانت الجامعة باختصار مهرجانا دائما، وجدنا أنفسنا بغتة في قلبه،الطلاب الجدد كانوا دوما هدفا للطامعين في الجامعة، الأحزاب تستهدفهم بأنشطتها وكوادرها الظاهرة والخفية، والروابط الإقليمية تستهدفهم برحلاتها وحفلاتها، وقدامى الطلاب يستهدفونهم بمقالبهم وسيطرتهم وتوجيههم، والجماعات الأدبية تنقب وسطهم عن إضافات جديدة لها،لذلك كله تبدو الجامعة للبرلوم أميرات حسن ينحنين إجلالا وتقديرا له ويخطبن وده جميعا فلا يستطيع الإختيار من بينهن ويمتلئ زهوا واعجابا بنفسه، وفجأة يجد الأضواء قد انحسرت عنه بعد انتهاء موسم الانتخابات وحلول برالمة جدد بالجامعة، فيفهم متأخرا سبب الإهتمام والإنحناءات. ومن الأشياء التى لايفهمها الطالب الا بعد سنين طويلة أن انضواء الطالب تحت لواء فريق من الفرق المتصارعة يقلل تلقائيا من فرص بناء علاقات اجتماعية واسعة ، فغالبية الطلاب يفرون من الطلاب المنتسبين للتنظيمات كما يفر المرء من عدوى فتاكة خشية التصنيف من قبل الآخرين وخشية الإستقطاب، وذلك وجه من وجوه مظلمة للمارسة السياسية في السودان يبقي قابعا في اعماق اولئك( اللامنتمون) يؤثر في مجمل مواقفهم ويطبعها بطابع سلبي تجاه حملة الأفكار المعلنة علما بأن كل شخص منظم أو غير منظم يحمل فكرا يؤمن به ويؤثر على مواقفه. وهناك تعالى مقابل من قبل المنتسبين للجماعات والأحزاب فهم يرون في اللامنتمين أشخاصا أقل منهم مقدرة ومكانة ويطلقون عليهم تسميات تعبر عن ذلك التعالى القابع في الأعماق فهم يسمونهم تارة( الفلوترز) و تارة( الحناكيش) .وهناك ظاهرة أخرى مصاحبة للنشاط السياسي في الجامعات هى ظاهرة الحلقية الضيقة والرغبة في محو الآخر واقصاؤه، الصراع حول مقاعد الاتحاد مثلا كان صراعا عنوانه الرغبة في الفوز وحقيقته الرغبة في السيطرة واقصاء المهزوم واستمالة العامة الى جانب المنتصر ، وأظن هذه الظاهرة هى التى تفسر ماجرى على الساحة السياسية السودانية فيما بعد من تنكيل بالآخر واقصاء له وسيطرة مطلقة على مصائر الأغلبية وزيف دعوات الحوار مع الآخر.كل ما جرى فيما بعد كان تمرينه الرئيس قد جرى بالجامعات قبل ذلك وبذرته غرست في العقول هنالك. كنت طوال عمرى قبل الجامعة حرا في بناء صداقاتى واختيار اصدقائي ولم اكن يوما مجبرا على القبول بأحد ضمن قائمة اصدقائي لأي اعتبار آخر،وكانت الإهتمامات المشتركة والقبول المتبادل هو الاساس المتين لكل صداقة، لكن في الجامعة نشأت أسلاك شائكة وتصورات وأفكار مسبقة حاجزا بينى وبين الكثيرين، وكانت تلك خسارة فادحة مؤكدة.

لكن يجب التنبيه الى ان ما أقوله هنا هو أفكار جديدة لم تطف ببالى وانا اندفع بحماس دافق غائصاً حتى الركب كما يقول المثل السودانى فى وحل السياسة ودروبها الموحشة،بت خطيبا من خطباء الجامعة الذين يرسمون مدناً فاضلة مصنوعة من وحى الخيال ومن قصائد الشعراء ومن بطون الكتب ومن جوع الناس الى الكمال المستحيل، لم أك كاذباً ولامهرجاً أومزيفاً لواقع ،لكننى كنت أرسم ما كنت أؤمن به من قيم وما أحلم به من أحلام واسقطه على برنامج سياسي كانت سمته الأساسية التبشير بحضور كل ما هو غائب ومشتهى. وكان الشعر ذراعى الأيمن ، كنت أرسم مدنى الفاضلة ثم أقرأ شعرا ملتهبا وجميلا وقادرا على دغدغة الأحلام وإلهاب المشاعر، كنت أحب الشعر والقصة وكان الشعر سردا بديعا على الهواء، سردا قادرا على حشد الناس وتحويلهم الى قنبلة متدحرجة قادرة على الفعل الجرئ.وحين انظر الآن لى مافعلته في تلك الأيام لا يساورنى أدنى شك في أننى كنت أديباً يعتلى منصة السياسة ليعرض بضاعته ولم أك يوما سياسيا يرتدى ثوب الأدب ليعرض بضاعته، وما أقول هنا ليس تنصلا من اختيارات واعية مارستها، بل هو محاولة متأخرة لفهم ماجرى والدوافع المؤدية اليه.كان العمل السياسي في ذلك الزمان عملا يجعل صاحبه شخصية مزدوجة مثل ازدواجية الممارسة، فبينما كان النشاط السياسي عملا مشروعا داخل الجامعات كان محرما وجريمة خارج أسوار الجامعة وكانت الأحزاب محلولة ومحظورة بموجب القانون، لذلك كان النشاط مزدوجا، مسموحا به داخل الجامعة فتتم ممارسته بعلانية، أما خارج الجامعة فكل شئ كان يمارس في الخفاء، الإجتماعات سرية، والمنشورات تطبع سرا وتوزع ويتم تداولها سرا، والقصائد الثورية والكتب السياسية والمنشورات كلها محظورة مثل نبات البنقو والهيرويين ويتم تداولها سرا وتعتبر حيازتها جريمة خطيرة،هكذا وجدت نفسي بغتة أمارس حياتين واحدة علنية وأخرى سرية مثل حياة أبطال الروايات والقصص المرتبطة بالثورات مثل قصص الثورة الفرنسيةوقصة جيفارا وقصة الليندى في تشيلي وقصة المهاتما غاندى وغيرها،كان في الأمر تشويق وإثارة لاحدود لهما،يختلط فيهما الواقع بخيال مستلف من القصص البوليسية والأفلام والروايات،وكانت هناك ثقافة سودانية خاصة بقصص العمل السرى وتجارب بعض ابطاله وهى قصص فيها من الإثارة والتقديس مايرتفع بأصحابها الى مراتب أبطال القصص البوليسي . كان ذلك نهرا خاصا له سحره وبريقه.باستثناء البريق الذى يصاحب المتحدثين في الأركان والندوات في الجامعة كنت الشخص نفسه، المحب للشعر والقصة، الممتلئ بالرغبة في الثأر لصديقه من نظام سياسي قتله،وكنت حريصا على دراستى فانا اعرف جيدا اننى جزء من أحلام أمى وأبي وهى أحلام عزيزة عندى،ولم يكن واردا في حساباتى أن أتسبب لهما بأى آلام، لذلك كنت حريصا جدا على الانتظام في محاضراتى والا يكون نشاطى على حساب دراستى، وكنت قد أغرمت بدراسة القانون التى كانت بالنسبة لى متعة لاتدانيها متعة.

الكهوف السحرية( ذكريات المدرسة الابتدائية)

ذكريات المدرسة الابتدائية
.درست في مدرسة الجنوبية الابتدائية بحي الدرجة بمدني قبالة مدرسة السني الثانوية التي كانت تسمي في ذلك الزمن النيل الازرق الثانوية وكان يدرس بها اخي الدكتور محمد سرالختم وقتها، كنت صغيرا في الصف الثالث الابتدائي حين انتقلت من مدرسة بانت غرب الابتدائية التي درست فيها الصفين الأول والثاني ثم انتقلت الأسرة الي حي 114 وكان لابد من نقلي الي مدرسة اقرب من بانت غرب التي كانت الأقرب حين كنا نسكن حي البيان، كان ذلك الانتقال انتقالا مبهرا ، فالبئية في مدني جنوب ( احياء الدرجة المزاد والحلة الجديدة و114وشندي فوق والسكة حديد) كانت شيئا مختلفا عن حي البيان وبانت والعشير، ففي هذا الجزء الجنوبي من مدني كانت الخضرة تكسو الشوارع بشكل واضح، كانت الحواشات القريبة التابعة لمشروع الجزيرة وتلك الترعة التي تشق حي 114 وتفصله عن الدرجة تضيف بعدا مختلفا للمنطقة، مدرسة النيل الأزرق كانت عالما ساحرا وجميلا ومشتهي، كانت فناء واسعا به مجموعة كبيرة من الفصول وبها داخلية مكتظة بالطلاب، وبها ميادين باسكت بول وكرة طائرة مميزة،اتذكر اننا كنا عندما نأتي صباحا الي المدرسة نتلفت صوب ميدان الطائرة الخاص بمدرسة النيل الازرق،، نري الشبكة منصوبة وفريقان من طلبتها واقفان كل فريق يرتدي زيا مميزا، وثمة استاذ مصري الجنسية يرتدي فنيلة خضراء ممسكا بالصفارة، تبدأ المباراة صاخبة ساحنة وبقية الطلاب حول الملعب يشجعون ونحن ننظر من بعيد في شوق الي يوم نبلغ فيه هذه المدرسة، يرن الجرس في مدرستنا فنركض نحو الباب الصغير خوفا من العقاب ان تأخرنا عن الطابور، ويتكرر المشهد ذاته كثيرا، اظن ان ثمة حكمة كامنة خلف تجاور مدرستين مثل مدرستنا الصغيرة ومدرسة اخوتنا الكبار الثانوية العليا التي تفصل بيننا وبينها مرحلة الثانوي العام، فقد كانت المدرسة الثانوية بميزاتها غير الموجودة في مدرستنا تمثل طموحا مشروعا لنا وتشكل حلما يجعلنا نطوي الفصول طيا لبلوغه، اتذكر ان ناظر مدرستنا الاستاذ محمد يوسف كان رجلا صارما ومهابا، اتذكر حتي العجلة التي كان يستقلها في قدومه وذهابه، اتذكر انني قابلته بعد سنوات عديدة في السوق الجديد بمدني جوار البوستة، كان لايزال علي عجلته تلك وكنت قد بت محاميا يرتدي بذلة كاملة في عز الصيف، توقفت وصافحته وقلت له انني تلميذه فضحك وقال لي يا بني انا لا انسي تلاميذي ابدا، اتذكرك وكل زملائك واحدا واحدا، وانا فخور بكم دائما ويكفيني ان يوقفني في كل دقيقة واحد منكم ويسلم علي بصفتي المحببة التي لايسلبها مني معاش الحكومة( يا استاذ)، كان متأثرا جدا، وكنت سعيدا جدا بلقائه، تذكرت قصة سراج الجعلي ذلك النحيف المشاكس الذي كان نجم الفصل في الهرجلة ونجم الطابور في الصمود امام الجلد العلني المتكرر، كان لايصرخ ولا يئن ابدا، يرفعه اربعة من (ناس ورا) الذين يتميزوا بالطول والقوة وبروز معالم البلوغ عليهم، ينهال السوط علي صلبه وهو يضغط علي اسنانه وحين يطلقوه يقفز نشيطا ويقف في الطابور كأن شيئا لم يكن، حتي كان يوم، كان المسؤول عن الطابور في ذلك اليوم استاذنا مهدي عابدين لاعب اتحاد مدني الفلتة في ذلك الزمان، لاحظ استاذ مهدي في صمود سراج شيئا غير عادي، فانبري وفتشه فاخرج (لستكا جوانيا) كاملا كان محشوا بين الرداء والجسد النحيل، حين رفعوا سراج مجردا من حصانته الخفية صرخ باعلي صوته من السوط

الأول وبكي في الثاني وانفلت هاربا من المدرسة في الثالث وضحك الطابور كله....



حكايةالرجل الذى غير حياتنا( الى الأسوأ)


من الاشياء الموجعة في ذكريات الطفولة في مدرسة الجنوبية الابتدائية تلك الجريمة التي ارتكبها أحد المعلمين بحقنا، كانت مدرستنا تجمع بيننا نحن ابناء العمال الفقراء محدودي الدخل وبين أولاد كبار الموظفين والتجار في المدينة، فقد كان حي الدرجة الذي تقع به المدرسة هو حي الطبقتين الوسطي والثرية وكان سكانه يجمعون بين خليط من كل الطبقات وصفوة من الأثرياء وكبار الموظفين في المدينة، كانت ظاهرة التعليم الخاص والمدارس الخاصة لم تعرف طريقا بعد للمجتمع السوداني في ذلك الزمن منتصف السبعينات، كانت المدارس كلها حكومية وشعارات مثل الزامية التعليم ومجانيته هي المحببة لدي حكومة النميري ذات الشعارات الاشتراكية، كانت الدروس الخصوصية تشق طريقا خجولا في ذلك الوقت، وكان من نصيبنا ان ندفع ثمن ماقبضه معلمنا ذلك الذي يسمي يونس وكان استاذا للحساب قبل ان يصير اسمه رياضيات، اختار ثلاثة من كبار تجار المدينة الاستاذ المذكور ليقدم دروسا خاصة لاولادهم الثلاثة في الحساب، فانعكست تلك الحصص الخصوصية علينا نحن الذين لم نكن نحتاجها ولانملك ثمنها لو احتجناها ، كان انعكاسها علينا ان معلمنا المحترم بات يميز بين طلابه الخصوصيين دافعي الأجر الخاص من اولاد المصارين البيضاء وبين تلاميذه الفقراء الذين تدفع له الحكومة نيابة عنهم راتبه المحدد، كنانرفع ايدينا ونصرخ بحماسة ( فندي ...فندي....فندي) لكي نجيب علي سؤال في الحصة فيتجاهل اصابعنا الصغيرة واصواتنا التي بحت ويطلب من واحد من فرسانه الثلاثة ان ينهض ويجيب واذا اخطأ يعدل اجابته ويطلب التصفيق له، كنا نشعر بالم كبير وحسرة وغضب منه ومنهم، كيف سولت له نفسه وهو معلمنا كلنا ان يمنح بعضنا امتيازا علي البعض لاسباب لاعلاقة لها البتة بالتعليم او الذكاء، وكيف قبلوا هم ان يصبح الفصل واستاذه ملكا لهم وحدهم ونصبح فيه لاقيمة لنا ولاصوت مثل جدرانه؟ ....كان رد فعلنا ان كرهنا الاستاذ فكرهنا حصته وكرهنا الحساب كراهية امتدت الي عمرنا كله وقذفت بنا فيما بعد بعيدا عن المساق العلمي وقذفت بنا في حينه الي ترتيب متأخر في الفصل، اتذكر جيدا انني كنت قد جئت منقولا من مدرسة بانت غرب وترتيبي الأول مشترك بنقصان ثلاث درجات فقط وكانت درجتي في الحساب ممتازة جدا، وحين انهيت عامي الأول بعد صدمة استاذ يونس تلك وترتيبي الحادي عشر ودرجات الحساب هي الأسوأ وهي سبب التدحرج.... كانت تلك جريمة لاتغتفر لازلت اتذكرها بذات الشعور بالظلم وبالغضب برغم السنوات البعيدة التي تقع مابين عام 1974 وعام 2013. الغريب ان الفرسان الثلاثة لم يتجاوزوا في التعليم المرحلة الثانوية، توقف قطارهم فيها وباتوا تجارا مثل ابائهم ، فيما واصل أقرانهم تعليمهم الي أعلي مراتبه، لم تشفع لهم نقود ابائهم ولم تمنع أقرانهم قلة حيلة ابائهم من مواصلة تعليمهم. اما استاذ يونس فنسأل الله ان يسامحه ويفغر له ماتقدم وتأخر من ذنبه، فقد كانت غلطته معنا درسا نافعا لنا تعلمنا منه الكثير وأهم ماتعلمناه هو اجتناب الظلم بكافة اشكاله.

الكهوف السحرية ( ملامح من وجهى القديم)

ملامح من وجهى القديم

كنت صغيرا ومزهوا بنبوغ كنت أسمع عنه عند الكبار، كانوا يفرغونه في شكل ثناء أو هدية صغيرة قد تكون قطعة حلوي، لكنني كنت أمتلي بسعادة لاتحدها حدود وأقبل باهتمام علي دروسي علي أظفر بالمزيد، كنت أحب الاستاذ فأحب مع محبته كل شئ مرتبط به،أتذكر ذلك الاستاذ في مدرسة بانت غرب الابتدائية في مدني أظن اسمه عبد العظيم، كان طويلا وبدينا ومستدير الوجه وله نظارة تميزه وابتسامة تزداد جمالا حين ينشد بصوته القوي أناشيد جميلة كلها تدور حول حب الوطن، فنغني معه باصوات تزداد نشازا مع ازدياد حماسنا، كان ذلك الرجل الجميل بوابة أولي ولبنة أولي في عشقنا للموسيقي والوطن بتلك الطريقة الطفولية الحالمة الجميلة،وكان الجرس في المدرسة موسيقي أخري تتخذ اشكالا مختلفة ، فان كنت داخل الفصل متشوقا للفطور والحلوي فهو بشارة التحرير ورنة السعادة ، وان كنت لاتزال تركض باقدامك النحيلة صوب المدرسة ،ورن الجرس قبل بلوغك الفناء فهو نذير علقة ساخنة ودموع قادمة في الطابور،كان كل شئ في المدرسة له طعمه ومعناه الخاص حتي الشقاوة.
وجه:
أتذكر الان بشكل غامض وجها أسمرا به نمش لرجل خمسيني هادئ الطباع كان هو صاحب الدكان الذي نمر به يوميا في طريقنا من البيت في حي البيان الي المدرسة في بانت، لا أتذكر أسمه ( اطنه السر)لكن أتذكر طعم الفول المصري الجميل الذي كنا نتناوله منه محشوا في سندوتش ونحن ذاهبون الي المدرسة، كان طعما لم يتكرر ثانية برغم الرحلة الطويلة مع الفول عبر السنين، كان رجلا طيبا ، يحب الأطفال كثيرا ويحتملهم إحتمالا لاأظن أهلهم يحتملونه،كنا نحب دكانه كثيراويمثل محطة مهمة في رحلة الصباحية، الدكان كان قريبا من بيت علي افندي والد عبدالعظيم علي افندي زوج عمتي نفيسة محمد علي والدة رفاق طفولتي الباكرة نادرونازك، كان نادر يقرأ معنا في ذات المدرسة وكانت نازك تقرأ في مدرسة الكورة الشهيرة ببانت وهي تقع في الطريق الي المدرسة، فيما بعد صارت نازك وكيلة نيابة وصار نادر ضابطا بالجيش وبت محاميا ثم قاضيا، فهل تري كان من علمونا الحروف وقومونا في ذلك الزمن يتصورون ما صرنا اليه؟ هل كانوا يدركون ان بذورهم ستقبض وتثمر؟وهل لو فقدوا ايمانهم بجدوي ما يفعلون أو تراخي ذوينا في دفعنا نحو التعليم تري كيف كانت تكون مصائرنا؟ هي اسئلة للتقدير والعرفان لمن منحونا قوة في وقت ضعفنا وصنعوا منا شيئا وليست وقفة للتباهي. أتذكر الان تلك الطفولة الشقية في بيوت متعددة متقاربة، بيتنا في حي البيان وبيت جدي الذي يقع أمامه مطلا مباشرة علي شارع الدباغة السوق، والبيت الثالث بيت ناس علي افندي جد نازك ونادر عبد العظيم الذي يقع في طريق المدرسةجوار طاحونة شهيرة أحتلت بعض ذكريات الطفولة، واتذكر كوبري حاجة عشة الذي سموه كذلك نسبة الي حاجة عشة التي تبيع الفول والتسالي عنده وهو كوبري صغير تنحدر مياه الامطار عبره الي النيل الازرق القريب من حي العشير الذي يقع في جانب الزلط، اتذكر بيت ناس العم بشير جمعة صاحب بصات الركبي الشهيرة التي كانت وسيلة النقل بين الخرطوم ومدني وهي نيسانات لها صندوق مصنع محليا،وكان بيت بشير جمعة يطل علي الخور المنحدر من بانت نحو النيل الازرق، واتذكر ان نفس الاسرة كان منها عباس بايا لاعب المدينة الشهير واخوته عمر والثالث بكرى، كانوا مهووسين بكرة القدم ونادي المدينة بينما كان آل دوليب كلهم مفتونين بنادي الزهرة العريق وكانت كل اسرة دوليب تقريبا لاعبين مهرة ، اتذكر منهم كبيرهم كابتن الزهرة الحريف عثمان دوليب الشهير بعثمان ننو وشقيقيه النور وحيكو والتيمان واتذكر الكابتن ابوليلي عليه رحمة الله،واتذكر جلال عبدالله لاعب الاتحاد والهلال العاصمي الشهير من ابناء البيان واخوه مبارك الذي لعب للاتحاد مدني واخوهما بدر ابليس الذي لعب للاتحاد ايضا واتذكر اسرة ناس مبارك الفاضل بركة الذي لعب بالثوار والاتحاد وشقيقه عليوة الذي لعب بالزهرة والاهلي مدني وهلال بورسودان
بيت صغير وشجرة:
كان هناك بيت صغير به شجرة نيم عملاقة، كان البيت في زقاق صغير من زقاقات العشير، كنت احتاج قطع شارع الزلط الملئ بالحركة للوصول اليه، لا اتذكر أسم صاحب البيت ولكنه كان قريبا بعيدا لنا،كان البيت علي قلة سكانه وهما زوج وزوجة دوما مزدحم بالناس وبالضجيج الفرح،لاتخلو الدار ابدا من الضيوف المقيمين وجلسات الجبنة والأنس، كنت اتسائل دوما كيف يحتمل الرجل الباسم الودود دوما كل هذا العبء ولماذا؟
غاب الرجل في زحام الحياة فجأة وبقيت شجرة النيم العملاقة تنتظر أوبة من كانوا يقضون سحابة النهار تحتها في أنس وحبور، كنت أعود اليها بين الفينة والأخري فلا أجد من آثار أهل الدار الا الطيور التي تقضي سحابة النهار في ظلها، ثم باتت الشجرة شاحبة صفراء الأوراق، وذات يوم جئت فلم أجدها بل وجدت أوراقا شاحبة جافة وأغصان مبعثرة في الكوشة الكبيرة التي تتوسط الحي ، فبكيت ولم أعد أبدا.

صور سريعة:
في حي البيان حيث سكنا في طفولتي الباكرة في منزل باشا جد حموري لاعب الكرة الشهير بجوار ناس اب ساق من الجهة الشرقية وناس آمنة الحمراء من خلفنا وناس عاطف المشهور بعاطف اب ادية بسبب عيب خلقي في يده من الناحية الغربية ويفصلنا عنهم شارع صغير، وأتذكر أن احد الجيران كان ملاحظا للصحة وله برنيطة عريضة وزي كاكي مميز واظن ولده كان عادل الكردي الذي بات فيما بعد ضابطا كبيرا بالشرطة في الثمانينات،وكان من الجيران شاب يسمي قزقز واسمه عبد العظيم فرح كان لاعبا لكرة القدم بامكانيات مهولة وكان يلعب في فريق الثوار وقتها ،وكانت الالقاب منتشرة في الحي انتشارا كبيرا كان سمة تلك الناحية من مدني وذلك الزمان،وفي تلك الايام كانت العصبية للاحياء والشلليات المبنية علي ذلك في أوجها، كان اولاد العشير عصبة شرسة واولاد أم سويقو عصبة أخري أصعب وكان أولاد البيان مجموعة وأولاد بانت مجموعة أخري، ومن الطرائف التي اتذكرها أن المجموعات المختلفة اعتادت علي شن غارات علي بعضها البعض استعراضا للقوة وثأرا احيانا وبحثا عن الإثارة تارة أخري، اتذكر انه كان يوجد في مدخل فريقنا مثلث صغير يبدأ من الكوبري الأول بعد القبة مباشرة جوار منزل جيران كان لهم ابن يشتغل بشرطة المرور وله موتر من مواتر التشريفة، عند هذا المثلث كان ثمة عمود كهرباء مضئ وعند هذا العمود كان العم (مدنكل )يبيع السندوتشات الرهيبة من الفول وسلطة الاسود وسلطة الروب والطعمية، كانت شهرة العم مدنكل تشمل مدني كلها،فيأتي الناس اليه لشراء السندوتشات الجميلة، كان اولاد حلتنا قد اعتادوا التجمع عند عمود النور ولعب الكوتشينة ارضا اسفله والسمر تحته، وكانت هناك خشية دائمة من غارات اولاد العشير وأم سويقو المفاجئةفكان اولاد الفريق الكبار يستخدمون الصغار ككتائب استطلاع وانذار مبكر، وكانت العصي مجهزة بجوارهم استعدادا لاي غارة،واتذكر غارة شنها اولاد أم سويقو علي الفريق استدعت تدخل النجدة لفض الاشتباك، كان الأمر كله استعراضا للرجولة وبحثا عن الإثارة والبطولات ،وكان شيئا يبدد الرتابة،والغريب انه كانت توجد علاقات طيبةوصداقات فردية عابرة للاحياء ومباريات كرة قدم ومشاركات في الأعراس في الاحياء المختلفة ونادرا ما كانت تحدث احتكاكات لكنها لو وقعت فتكون كفيلة بفض الحفلة بصورة بشعة، وكان لعلاقات المدارس دور كبير في تذويب التعصب للاحياء واختفاء عصابات وشلل الاحياء في مدني،ولكن ظل ابناء مدني لفترات طويلة يتحركون في جماعات كبيرة علي اساس اولاد الفريق خوفا من بطش عصابات الاحياء الاخري بهم ان هم تحركوا فرادي.