رحيل المجرات
كان رحيلهما فاجعا وقاسيا وصاعقة نزلت على من عرفوهما بلا مقدمات، كان رحيلا استثنائيا ودراميا،كان هشام محمد الحاج المولود بمدنى والمقيم بالخرطوم شابا فارع الطول عريض المنكبين ممتلئ الجسم نوعا ما لكنه رياضي رشيق صبوح الوجه لاتفارق الابتسامة شفتيه أبدا، والضحكة حاضرة دوما حيث يكون، فقد كان مرحا مهزارا خفيف الدم متعدد الحكايات، لايعرف الوجوم أو العبوس طريقا اليه،وكان عبد العزيز عمر دوسة المولود بالفاشر والمقيم بحى عريق من أحيائها والمنحدر من قبيلة الزغاوة من بيت كبير من بيوتها، شابا أبنوسيا وسيما متوسط الطول أنيقا بصورة لافتة باسما مثل نهر يغازل صحراء قاحلة فيحيلها خضرة ناعمة وحياة ، كان مثل صديقه محبا للضحك والنكتة والحكايات والقرقراب وكرة القدم و(العضة السمحة)،كانا بحق (فولة واتقسمت) كما يقول السودانيون، وكانا في ذلك الزمان زينة القضاة في الفاشر حيث التقينا،كنا مجموعة من القضاة قذفت بها الأقدار الى شمال دارفور، جئنا متوجسين ومثقلين بقصص خيالية عن النهب المسلح وعدم الاستقرار وجدنا بلادا تكسوها الخضرة على امتداد البصر ، ووجوها سودانية وسيمة عامرة بالطيبة والمحبة، ووجدنا مجتمع قضاة متماسك جدا تبدى تماسكه في ذلك التقليد الفريد الذى يقضى بان يقوم القضاة كلهم باستتقبال القادم الجديد بالمطار على بكرة أبيهم، نزلت من الطائرة القادمة من الخرطوم فوجدت وجوها أعرف بعضها مصطفة في المدرج بصحبة رجل ضخم الجثة أخضر اللون(بالتعبير السودانى والمقصود أسود البشرة) واسع العينين يلبس جلبية سودانية ناصعة ومركوبا من جلد النمر، كان ذلك هو رئيس الجهاز القضائي آنذاك(سبتمبر1999) مولانا طلحة حسن طلحة، وكان بمعيته جميع القضاة، كان شيئا مدهشا وجميلا فتح القلب ضلفتين على دارفور، كان هشام وعمر في طليعة المستقبلين، كنت أعرف هشام بحكم اننا ابناء مدنى وبحكم علاقتى باخيه الأكبر ساطع محمد الحاج، أما دوسة فقد كان ذلك لقائي الأول به، سرعان ماذبت في مجتمع الفاشر الجميل،كانت بيوت لقضاة مؤثثة وتقع في حى المطار وحى الكرانك،كانت اقامتى الأولى بمنزل بحى المطار مواجه لفضاء فسيح مغطى بعشب أخضر احتله الان معسكر ابو شوك ، كان هشام ودوسة يقيما بالميز بحى الكرانك فقد كانا عزابا وقتها، كان هشام يقود لاندروفر عتيق خاص بالميز كان يسميه ( الككو) وكان دوسة يقود عربة من ذلك النوع الذى كنا نسميه (اللاند كرور) وهى لاندكروزر قديم موديل السبعينات هي فى الأصل شاحنة صغيرة للنقل وليس للركاب لكن لطبيعة المنطقة ووجود ترس قوة بها باتت سيارة خاصة مخصصة للقضاة، كانا في أغلب الاحيان يتنقلان سوية بواحدة من العربتين ، وكان اجمل برامج الفاشر ذلك الدافورى لفريق الصنداى المكون من القضاة والمحامين وووكلاء النيابة وبعض ضباط الشرطة وموظفى المحاكم والاراضي، كان الدافورى يتم عصرا بملعب يقع بحى المطار جوار الهلال الأحمر السودانى وامام منازل القضاة، كان دوسة وهشام نجمين لامعين محبين لكرة القدم ويجيدانها، وكانت روحهما المرحة تطغى على الجميع فتضفي على التمرين روحا مرحة ساخرة، وعن طريقهما عرفت شخصية من أهم شخصيات الفاشر وهى فاطنة كتم بائعة الخضار الشهيرة بالفاشر فقد كانا زبونين دائمين لها وعن طريقهما عرف كل القضاة فاطنة كتم وطماطمها الجميل وخضارها المميز وروحها المرحة،دار الزمان دورة فتزوج الصديقان في توقيت متقارب، ودار الزمان ورزق كل منهما بمولود يتيم لم يكن من حظه ان يحظى بقربهما، ادركت المنية عمر دوسة بغتة وهو ينزل من سيارته الأتوس السوداء قادما من سوق الفاشر الى البيت حيث كان يستقبل ضيوفا على الغداء، غشاه ألم في الصدر، ثم رحيل مفاجئ لم يمهله للوصول للمستشفى، في الخرطوم كان هشام يشكو ألما بالقلب، وكان ينتظر اكمال اجراءات نقله الى الخارج للعلاج بلندن، بلغه نبأ رحيل رفيقه دوسة فبكى، وبعد أقل من أربعة أيام لحق هشام بصديقه على عجل كأنه يقول له بعدك الحياة عدم ياصديقي، اختلطت دموع الخرطوم بدموع الفاشر وغيب الموت قمرين لم يبقيا في سمائنا الشاحبة طويلا،رحلا كمجرة بعيدة غشيت دنيانا فلم يعجبها حالنا المائل فولت هاربة من القبح.رحم الله هشام وعمر وأسكنهما فسيح جناته.
كان رحيلهما فاجعا وقاسيا وصاعقة نزلت على من عرفوهما بلا مقدمات، كان رحيلا استثنائيا ودراميا،كان هشام محمد الحاج المولود بمدنى والمقيم بالخرطوم شابا فارع الطول عريض المنكبين ممتلئ الجسم نوعا ما لكنه رياضي رشيق صبوح الوجه لاتفارق الابتسامة شفتيه أبدا، والضحكة حاضرة دوما حيث يكون، فقد كان مرحا مهزارا خفيف الدم متعدد الحكايات، لايعرف الوجوم أو العبوس طريقا اليه،وكان عبد العزيز عمر دوسة المولود بالفاشر والمقيم بحى عريق من أحيائها والمنحدر من قبيلة الزغاوة من بيت كبير من بيوتها، شابا أبنوسيا وسيما متوسط الطول أنيقا بصورة لافتة باسما مثل نهر يغازل صحراء قاحلة فيحيلها خضرة ناعمة وحياة ، كان مثل صديقه محبا للضحك والنكتة والحكايات والقرقراب وكرة القدم و(العضة السمحة)،كانا بحق (فولة واتقسمت) كما يقول السودانيون، وكانا في ذلك الزمان زينة القضاة في الفاشر حيث التقينا،كنا مجموعة من القضاة قذفت بها الأقدار الى شمال دارفور، جئنا متوجسين ومثقلين بقصص خيالية عن النهب المسلح وعدم الاستقرار وجدنا بلادا تكسوها الخضرة على امتداد البصر ، ووجوها سودانية وسيمة عامرة بالطيبة والمحبة، ووجدنا مجتمع قضاة متماسك جدا تبدى تماسكه في ذلك التقليد الفريد الذى يقضى بان يقوم القضاة كلهم باستتقبال القادم الجديد بالمطار على بكرة أبيهم، نزلت من الطائرة القادمة من الخرطوم فوجدت وجوها أعرف بعضها مصطفة في المدرج بصحبة رجل ضخم الجثة أخضر اللون(بالتعبير السودانى والمقصود أسود البشرة) واسع العينين يلبس جلبية سودانية ناصعة ومركوبا من جلد النمر، كان ذلك هو رئيس الجهاز القضائي آنذاك(سبتمبر1999) مولانا طلحة حسن طلحة، وكان بمعيته جميع القضاة، كان شيئا مدهشا وجميلا فتح القلب ضلفتين على دارفور، كان هشام وعمر في طليعة المستقبلين، كنت أعرف هشام بحكم اننا ابناء مدنى وبحكم علاقتى باخيه الأكبر ساطع محمد الحاج، أما دوسة فقد كان ذلك لقائي الأول به، سرعان ماذبت في مجتمع الفاشر الجميل،كانت بيوت لقضاة مؤثثة وتقع في حى المطار وحى الكرانك،كانت اقامتى الأولى بمنزل بحى المطار مواجه لفضاء فسيح مغطى بعشب أخضر احتله الان معسكر ابو شوك ، كان هشام ودوسة يقيما بالميز بحى الكرانك فقد كانا عزابا وقتها، كان هشام يقود لاندروفر عتيق خاص بالميز كان يسميه ( الككو) وكان دوسة يقود عربة من ذلك النوع الذى كنا نسميه (اللاند كرور) وهى لاندكروزر قديم موديل السبعينات هي فى الأصل شاحنة صغيرة للنقل وليس للركاب لكن لطبيعة المنطقة ووجود ترس قوة بها باتت سيارة خاصة مخصصة للقضاة، كانا في أغلب الاحيان يتنقلان سوية بواحدة من العربتين ، وكان اجمل برامج الفاشر ذلك الدافورى لفريق الصنداى المكون من القضاة والمحامين وووكلاء النيابة وبعض ضباط الشرطة وموظفى المحاكم والاراضي، كان الدافورى يتم عصرا بملعب يقع بحى المطار جوار الهلال الأحمر السودانى وامام منازل القضاة، كان دوسة وهشام نجمين لامعين محبين لكرة القدم ويجيدانها، وكانت روحهما المرحة تطغى على الجميع فتضفي على التمرين روحا مرحة ساخرة، وعن طريقهما عرفت شخصية من أهم شخصيات الفاشر وهى فاطنة كتم بائعة الخضار الشهيرة بالفاشر فقد كانا زبونين دائمين لها وعن طريقهما عرف كل القضاة فاطنة كتم وطماطمها الجميل وخضارها المميز وروحها المرحة،دار الزمان دورة فتزوج الصديقان في توقيت متقارب، ودار الزمان ورزق كل منهما بمولود يتيم لم يكن من حظه ان يحظى بقربهما، ادركت المنية عمر دوسة بغتة وهو ينزل من سيارته الأتوس السوداء قادما من سوق الفاشر الى البيت حيث كان يستقبل ضيوفا على الغداء، غشاه ألم في الصدر، ثم رحيل مفاجئ لم يمهله للوصول للمستشفى، في الخرطوم كان هشام يشكو ألما بالقلب، وكان ينتظر اكمال اجراءات نقله الى الخارج للعلاج بلندن، بلغه نبأ رحيل رفيقه دوسة فبكى، وبعد أقل من أربعة أيام لحق هشام بصديقه على عجل كأنه يقول له بعدك الحياة عدم ياصديقي، اختلطت دموع الخرطوم بدموع الفاشر وغيب الموت قمرين لم يبقيا في سمائنا الشاحبة طويلا،رحلا كمجرة بعيدة غشيت دنيانا فلم يعجبها حالنا المائل فولت هاربة من القبح.رحم الله هشام وعمر وأسكنهما فسيح جناته.
