وجه من قاع الذاكرة المتوهجة
هل كانت تلك الفتاة تحبه؟ هل من الممكن حقاً ان يتحول الحب الخائب الي كراهية؟
هكذا لمعت الأسئلة في ذهنه حين فرغ من قراءة كتاب شيق في علم النفس، حين لمعت صورتها في ذاكرته بقوة، كانا يسكنا في ذات المدينة ولكن كل منهما ينتمي الي عالم مختلف، هي ابنة القصر المنيف وطبقة التجار المميزة في المدينة ، وهو ابن عامل بسيط ويسكن منزلا حكوميا ضغيرا في حي صغير، لم تكن جميلة، لكنها كانت مرموقة بفضل المظهر الذي صنعه الثراء وبريق اسرتها وصيتها في المدينة،لم يك ثمة مجال لالتقائهما لولا كتب الشعر وقصائد الشعراء وجنون الثورة والتغيير، كان يرتاد كل تجمع ثقافي في المدينة متأبطاً دوواين الشعر والروايات بخلاف ما يحفظه ويلقيه بصورة رائعة من شعر ممنوع، كان الزمان نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وكانت المدينة ودمدني، كانت الشوارع تتنفس شعرا وتمرداً، هي كانت مولعة بكل ذلك، كان الشعر بوابة المرور الي عالم السياسة بجنونه واحلام التغيير واحلام اقتفاء أثر الابطال الذين ترسمهم خيالات الرواة كأنهم قادمون من المريخ، ليس فيهم من قبحنا شئ، ليس فيهم من جبننا جبن، وليس فيهم من نواقص الإنسان شئ،لذلك كان يتجمل دون ان يشعر بذلك، كانت تحب زيارتهم وتحب الانفراد به برغم ان السبب المعلن للزيارات هو التواصل مع اخواته واستلاف الكتب وتبادلها، كان في المدينة في ذلك الزمن من يحتفلون بثورة اكتوبر بقراءة الشعر والاستماع اليه والي الغناء والاناشيد في دار صغيرة تدور فيها اقداح الشاي وتدور فيها الموسيقي من جهاز التسجيل وتلقي كلمات ، كان ذلك عالما صغيرا ضمهما، كان يشعر دوما انه تحت نظراتها وتحت اهتمامها أينما ذهب، وكان من عادات ذلك الزمن وشبابه الهروب من الالتزام الي ساحات الصداقة المبهمة عمدا، خاصة اذا كان الخط مشغولا قبلا أو كان الاهتمام موجودا لكنه أقل من اهتمام الآخر، لم يك نافرا منها، بل علي العكس كان يري فيها اشياء كثيرة تعجبه، لكن سقف اعجابه كان لايتخطي حدود الصداقة أبداً، لم يتخيلها يوماً حبيبة تدبج لها الرسائل برغم اعجابها بشعرها الطليق وعيونها الواسعة ونظراتها الباحثة عن شئ ما في عينيه، كان يتحاشي تلك النظرات دائما ولكنه كان لطيفا معها دائما في الوقت نفسه، ثمة اشياء كثيرة فيها تعجبه وثمة اشياء تشده الي عالمها ولكنها حين تقترب أكثر مما ينبغي يبتعد بلطف ولكن بشكل حازم، كان في اعماقه يعرف انها ليست له وانه ليس لها وانها مهما تكن لطيفة ليست هي التي خفق لها قلبه ،ظلا هكذا يلعبان لعبة توم اند جيري بطريقتهما الخاصة وظل يعرف كيف يحافظ علي تلك المساحة من المودة دون ان يتورط ودون ان يجرح شعورها بأي شكل من الأشكال،حتي كان يوم، كانت كعادتها في زيارتهم، قضت وقتا طويلا ، كان الشعر حاضرا والنكتة والضحك ، وحين غابت الشمس ونهضت لتذهب نهض كعادته ليوصلها، كانت المسافة قريبة بين البيوت ولكنهما اعتادا مواصلة حوار لم ينته بحجة التوصيل هذه،خرجا وكانت ثمة ضحكة علي الشفاه، مشيا علي مهل، كان الشارع خاليا، مدت يدها الصغيرة ولمست اصابعها كفه، سرت قشعريرة في كفه، سحبت يدها بسرعة ، عم صمت، بلع ريقه، دون ان يدري وجد يده تبحث عن يدها في الظلام ، تلاقت الاصابع المرتعشة، ضم كفها بقوة ، نظر في وجهها، كانت تنظر اليه عميقا في عينيه، ضمها اليه فجأة، احس بها قطعة من النار ترتعش، افلتها، قال كلاما لايعرفه، تمتم، همهمت هي، ساد صمت، واصلا المسير، كان صدرها يخفق بقوة ، كان محرجا ومتضايقا من نفسه، لم يقل شيئا ولم تقل شيئا حتي وصلت قرب دارها، اسرعت وغابت خلف الباب الذي اغلق خلفها. عاد هو كأنه يمشي علي الشوك، كان حانقا علي نفسه بشدة ...كيف سمح لنفسه بما فعل؟ ولماذا وانت تعرف انك لست حبيبها ولن تكون؟ هل بت وغدا من اوغاد المدينة؟ هل بت تتلاعب ببنات الناس وتستغل ضعفهن؟ ركل الحصي باقدامه وسار صامتا. حين التقيا بعد ذلك اليوم بعدة ايام، كان الهواء يعبث بشعرها، كانت بلوزتها البيضاء تهفهف وتكاد تشف عما تحتها، كان ثمة نظرة شقية في عينيها، لم تك غاضبة، لم تتحاشاه كما تصور، سلمت عليه بمودة اكبر مما كانت تفعل، كان خداها متوردان وعيونها تلتمع بشئ ما. وجد نفسه ينظر الي الأسفل ويتحاشاها، لكنه كلما رفع عينيه وجدها تبتسم. لم تنقطع عن المجئ ، لكنه ظل يتحاشي توصيلها، ظلت تبتسم. وحين حان فراق وقتي حين ولج الجامعة كانت تبتسم . وحين يعود في العطلات كانت تجئ كعادتها وظلا يليتقيان في مناسبات كثيرة، يتحدثان ويتبادلان الكتب ويقرا لها القصائد ويهديها بعض ماكتبه من شعر فطير، امتلك شجاعة توصيلها عدة مرات، كانت تسأله عن الجامعة واجوائها وبناتها .كان يرد بحذر من يمشي في حقل الغام. طفقت تحدثه عن صداقاتها الجديدة وتتحدث بشكل مثير للاهتمام عن صديق بعينه، كان يعرف بطريقة ما انها تبحث عن شئ ما، لكنه كان يلوذ بالصمت ويحرص علي عدم الافصاح عن مكنون نفسه. ثم أخذت تتغير بشكل لافت، تقابله، تسلم بفتور ، ثم تركز اهتمامها علي كل من حولها الا هو، لكنه كان يشعر ان ذلك كله موجه اليه هو دون سواه.ثم بات يسمع من الاصدقاء المشتركين كثيرا من كلامها السلبي عنه، حديثها عن غروره، عن عدم احترامه لمشاعر الغير، عن تنكره لصداقاته القديمة وعن تنصله عن قناعاته، كان كل ما يصله يفيده انها تعمل جهدها علي اغتياله معنويا، لكنه حين يلتقيها ينتابه الشك في صحة مانقل اليه، فقد كانت هي نفسها، ود متحفظ لكنه باق وظاهر، احترام ظاهر لايخلو من جفاء الغاضب من شئ ما..... تري هل كانت تحبه؟
بنت الفريق
تذكرت تلك التي كانت تعبر بفريقنا نهارا في كل يوم بزيها المدرسي الأنيق، في ذلك الزمان كانت زي بنات الثانوي العام فستانا بنيا غامقا أو فاتحا أيهما شاءت واكمامه قصيرة ( نصف كم) وتكون الأكمام بيضاء في وهناك كولا بيضاء دائرية تنسدل فوق الرقبة والصدر، الشعر يكون طليقا وفي الغالب يكون بتسريحة ذيل الحصان،اتذكر انها كانت تسرح شعرها آفرو فيعطيها ألقا خاصا مع لونها(الاخدر ) بلغة السودانيين وهو تعبير دقيق لان هناك مسافة لونية تقع في المنتصف بين اللون الأسمر والأسود هي مانسميه في السودان الاخدر والخدرة الدقاقة،كانت تمشي وحدها عائدة الي بيت اسرتها في حي المزاد ويتحتم عليها ان تعبر حي 114 (حينا) في طريق عودتها من المدرسة الواقعة بحي الدرجة، كنت امارس هجرة عكسية من حي المزاد حيث تقع مدرسة فريني العامة حيث ادرس الي حي 114 حيث نسكن، فنلتقي يوميا بلا ميعاد في نقطة التقاء دائمة نصلها في نفس الوقت هي طابونة مكرنجة في نهاية 114 وبداية المزاد، كنت انظر اليها بفضول واعجاب ، اما هي فلا تلقي بالا لذلك الصبي ابو تفة ووجه عريض الذي يرتدي زي الثانوي العام المكون من رداء كاكي وقميص مثله،كانت موضة تلك الايام هي الشعر الكثيف تأثرا بموضة الهيبز التي وفدت من بلاد الغرب ، كانت السبعينات تحتضر، وكان شعري كثيفا وكنت مفتونا بالشعر وبقصص الحب الرومانسية التي تعج بها قصص جرجي زيدان التاريخية وقصة ماجدولين واستيفن للمنفلوطي و اشعار نزار التي كانت متداولة سرا مثل الممنوعات لجرأة الطرح الذي تحتويه،حسبتها ماجدولين وظننتني متيما، تبسمت في وجهها فكشرت في وجهي، همست لها بكلمات اعجاب ساذجة وهربت من وجهها،في الايام التالية تناقصت شجاعتي بفعل ازدياد التكشيرة علي وجهها وتجنبها النظر ناحيتي، ثم حدث ما جعلني اترك لها الشارع طائعا لتهنأ به وحدها، مكره اخاكم لابطل، فقد نادتني اختي الكبري ولامتني علي كوني عاكست صديقة لها، استمعت مطرقا نحو الارض الي محاضرة طويلة عن السلوك الواجب اتباعه ، لم أقل شيئا، تركت لها الشارع تماما وغيرت مساري، وحين التقينا مرة بالصدفة نظرت في وجهي بجرأة وتبسمت، اسرعت لا ألوي علي شئ وغبت عن كل مكان تعبر فيه.... كانت ولاتزال تبتسم كلما رأتني وأطرق اطراقة المقر بذنبه الكبير....
No comments:
Post a Comment
شكرا علي المشاركة والتواصل