Friday, September 6, 2013

قصتى مع المحاماة من الألف الي الياء (1)/ سيرة ذاتية /صلاح الدين سر الختم على


لماذا وكيف اخترت قراءة القانون والاشتغال به ؟



لا أدرى بالضبط متى بدأ حلم الاشتغال بمهنة القانون يراودنى، لكننى أعرف أن اكبر المؤثرات علي اختيارى كانت صدفة جعلت ثلاثة محامين تحت التمرين يكونوا أساتذة للانجليزية بمدرستنا الثانوية ( مدرسة السنى) بمدينة مدنى في مطلع الثمانينات، هولاء الثلاثة الذين صاروا فيما بعد من أشهر المحامين في المدينة كان لوجودهم تأثير بالغ علي أحلام التلامذة الذين كنت أحدهم،كان الفرسان الثلاثة هم الأستاذ حسن حسين حمد الذى صار فيما بعد معلمى في مهنة المحاماة، والأستاذ مرشد الدين محمد يوسف، والأستاذ صالح محمود، كان ثلاثتهم متخرجين حديثا من جامعة الخرطوم كلية القانون ويتهيأون للجلوس لإمتحان مهنة القانون وكانوا يعملون محامين تحت التدريب مع الاساتذة عبد المنعم الخضر جكنون المحامى وسيف الدولة خضر عمر المحامى وأحمد عباس المحامى(الثلاثة من أعلام المهنة في مدنى) بذات الترتيب الوارد للثلاثة،واختار الثلاثة أن يلتحقوا بوظيفة التدريس كمحطة مؤقتة الي حين الانخراط الكامل في المحاماة فتم استيعابهم الثلاثة كمعلمي لغة إنجليزية، وكان لنا نصيب معهم الثلاثة في حصة الأدب الانجليزي فقد درسنا كل واحد منهم رواية من الروايات المقررة علي طلاب الثانوى آنذاك فتعرفنا عبر التدريس علي شخصياتهم الشفيفة وبرزت أمامنا منظومة أفكار كل منهم وإطلاعه وكان ثلاثتهم ذوي ميول اشتراكية واضحة واسعى الإطلاع يتعاملون مع مهنة التدريس كرسالة انسانية وفكرية فكانت حصة الأدب الانجليزى معهم تحليقا جميلا في فضاءات فكرية وثقافية واسعة،كانت حصة الأدب الانجليزى معهم تماثل سفرا بعيدا وسياحة ممتعة في بلدان غريبة وتعرف علي ثقافات جديدة واختزان لقصص ومشاهد ومشاعر انسانية تمس شغاف قلوبنا الصغيرة برغم بعد المسافات واختلاف الثقافات واعتقد ان تلك الحصص وتلك الروايات العظيمة كانت بوابة عبرنا من خلالها الي فضاءات أوسع من فضاءاتنا ولامسنا فيها عظمة الأدب وتعلمنا فيها عشق الروايات وطرق السرد وهو أمر شكل اهتماماتنا وشخصياتنا لاحقا بشكل مؤثر. كنا ننتظر بفروغ صبر وشوق شديد حضور الاستاذ حاملا معه رائعة الكاتب الايرلندى أوسكار وايلد
(أهمية أن تكون جاداً (The Importance of Being Earnest) 
المكتوبة في 1895. وهي عامرة بالروح الساخرة وتصور النفاق الاجتماعي للطبقة الوسطى في العصر الفيكتورى حيث يحاول الابطال الظهور بشخصيات مختلفة في كل واقع مختلف،وهناك موقف ساخر من الحرب وأبطالها المرسومين في المخيلة عند بعض الناس البعيدين عن واقع الحرب القبيح. 
كانت شخصيات الاساتذة الثلاثة متباينة، فبينما كان حسن حسين صارما جدا، ينهمك في التدريس كمن يؤدئ صلاة في استغراق وتركيز ويحرص حرصا بالغا على النطق الصحيح الواضح للمفردات وشرح المغزى بطريقة مفصلة والتوقف عند معانى الكلمات الجديدةثم ينصرف بهدوء كما جاء، كان الاستاذ صالح محمود مدرسة أخري تتشابه مع الاستاذ حسن فيما سبق ، لكنه كان مسكونا بحب كبير لمسقط رأسه دارفور،فكان ينتهز كل مناسبة عابرة ليحدثنا عنها بلغة انجليزية سليمة ومشوقة ، تجعل من الحصة سياحة داخلية وخيالية معاً،كان حب الرجل لموطنه ملهما وملفتا جعلنا نتوقف عنده كثيرا،كان الرجل فخورا بجذوره بشكل رائع وفريد.أما الاستاذ مرشد الدين فقد كان ساخرا بطريقة لاتجاري وكان موجزا دوما في شرحه ولكنه يتميز بالعمق والمعلومات الغزيرة المصاحبة للشرح فهو يملك معارف خاصة تتجاوز حدود الكتاب والحصة ولكنه لايسرف فيها فيجعل فضولنا في أعلى مستوياته فيتحرك فينا حب المعرفة. هكذا كان كل منهم ملهما بطريقته الخاصة. كان حسن حسين من أبناء الجزيرة أبا وسط السودان وصالح محمود من ابناء جنوب دارفور منطقة نيالا زالنجى بينما كانت جذور مرشد الدين من مناطق كردفان. كانوا ثلاثة أقمار من الريف زينوا سماء مدينة ودمدنى بعلمهم وتميزهم وشكلوا أفقا للعديد من تلامذتهم عبر قوة المثال ودفعوهم الي رحاب مهنة القانون، لذلك لم تكن صدفة أبدا أنني اتجهت لدراسة القانون واننى حين أكملت دراسة القانون بعد ذلك بسنوات عديدة جئت فطرقت باب الأستاذ حسن حسين الذي بات من أعلام المحامين في المدينة والتحقت بمكتبه محاميا تحت التمرين ومن ثم محاميا محترفأ ونهلت من معارفه حتي بات لى مكتب محاماة خاص في عمارة كان من أبرز المحامين فيها أستاذ صالح محمود المحامي ولم يكن الأستاذ مرشد بعيدا فتلاحقت الكتوف في المحاماة بين التلميذ وتلامذة آخرون وبين معلميهم الثلاثة.ولم يكن أمرا مدهشا أن الثلاثة استقروا بالمدينة وتزوجوا فيها وبقوا بها حتى اصطادت المنافئ الاستاذان حسن حسين ومرشد الدين في نهاية التسعينات فيمما صوب الخليج بعد سنوات عامرة بالبذل والنجاحات في المحاماة في مدنى.
بين ذلك الحلم الذى شهق في مدرسة السنى الثانوية في داخلى وبين اشتغالى بالمحاماة سنوات عزيزة شهدت احداثا كثيرة لاتنسي في حياتى ، منها ماكتبت عنه مثل قصة استشهاد طه يوسف عبيد وعلاقتنا برابطة الجزيرة للاداب والفنون وبعض ملامح حياتى في ودمدنى ومنها ما لم اكتب عنه بعد وهو سنوات الجامعةالتي وجدت نفسي استعير بعض شخوصها واحداثها في راوياتى، فعلت ذلك في الرمال يافاطمة وعدت وفعلته في روايتى نيران كامنة ولكن القسم الأهم من احداث وشخوص الجامعة استعرته وحورته وجسدته في روايتي بحيرة التماسيح التي رأت النور الكترونيا تحت اسم خطوات وبصمات وستري النور ورقيا قريبا تحت مسمى بحيرة التماسيح،فقد كانت فترة الدراسة الجامعية بجامعة القاهرة الفرع خريفا ماطرا وغنيا بالاحداث والبذور الصغيرة التي باتت مشاريع عملاقة، كنت فتى نحيلا مشتعلا بالحزن والغضب والثورة وشغوفا بالشعر والقصة والرواية والتواصل مع الاخرين وأدوار البطولة، فقد كان استشهاد طه يوسف عبيد مؤثرا علي شخصيتى بشكل كبير، لذلك اندفعت الى قلب الحياة الجامعية بتهور واندفاع كبير، كانت جامعة ذلك الزمان بركاناً ثائراً وبرلمانا ثقافىا وفكرىا وسياسىا دائم البريق والتوهج
وجدت نفسى في أعلى تلك الموجات منذ الوهلة الأولى

جئت حاملا غضبى
وصاحب موقف واضح من السلطة التى قتلت صديقه ونثرت دمه فوق قميصه
جئت ومشهد قصف جنازة طه يوسف عبيد بالرصاص امام المؤسسة الفرعية للحفريات بمدنى فوق شارع الاسفلت هو المشهد المسيطر على ذاكرتى والمصاحب     
لكلمة مايو واسم النميري
(وهو مشهد تسلل غصبا عنى ووجد طريقه الي رواياتى)

لم يكن لدى خيار سوي العمل السياسى لاسقاط نظام 
جعلنا نرى الدم بدلا عن الزهور ونحن لانزال في مقتبل عمرنا
الفراش الجائل

كانت الدهشة الأولى موجودة بالطبع فقد كان الانتقال الى المرحلة الجامعية انتقالا فيه كثير من الأشياء الجديدة، ففى المراحل الدراسية السابقة كنا نأتى من البيت واليه نعود يوميا ولكن الجامعة ارتبطت بالانتقال الي مدينة كبيرة كالخرطوم والى حياة جديدة مختلفة بعيدة عن الأسرة ودفئها والى نظام تعليم يقوم على الحرية الشخصية في الحضور والمواظبة بخلاف نظام المراحل التعليمىة السابقة الذي يبدو أكثر صرامة وتقل فيه مساحات الحرية الشخصية، لكن الحرية الشخصية فى المرحلة الجامعية ترتبط بالمسؤلية الشخصية عن نتائج تلك الحرية، بالامكان الا تتابع المحاضرات وان تتغيب ولكن يجب ان تبذل جهدا أضافيا لكى لايفوتك شئ وتنجح برغم عدم المواظبة،ونفس المبدأ يسود فيما يتعلق بخياراتك الأخرى الثقافية والسياسية والاجتماعية، فالاهتمام بالأدب مثلا كان مكانه في المراحل السابقة حصة أو حصتان في الاسبوع وبعض المناسبات الثقافية والوطنية، أما الجامعة فهى مائدة عامرة بالجمعيات والروابط والفرق الثقافية والأنشطة التى أقبلنا عليها في نهم وشراهة، ولم يكن نهمنا وقفا علي حامعتنا وحدها فقد كنا نهاجر مثل أسراب الطيور الي كل الجامعات ومواقع الأنشطة الثقافية والأدبية  فلا نفوت محاضرة ولا أمسية شعرية ولامنتدى ولامسرحية أو معرض أو مهرجان ونقتنى الكتب في كل صباح بكل الطرق : استعارة وشراء ومبادلة وأختلاسا بالقراءة حيث هي في مكتباتها التجارية أو العامة أو بيوت الأصدقاء أو غرف الداخليات في الجامعات التى بها داخليات حين نغشاها في زيارات الي الأصدقاء هناك، كان نهمنا للقراءة لاينتهى أبداً وكانت مناسبة مثل احتفالات االتخريج في معهد الموسيقي والمسرح حدثا أكثر أهمية عندنا من أي حدث آخر، فكنا نركض الى مسرح قصر الشباب والأطفال لنتابع بشغف ودقة كل العروض ونتناقش عقب كل عرض حوله نقاشا لاينتهى، عرفنا داخليات جامعة الخرطوم داخلية داخلية واقتحمنا سفرات الطعام فيها مع طلابها وتقاسمنا معهم طعاما شهيا كانت تقدمه حكومة السودان لطلابها دون شعور بالغيرة أو التهميش ودون شعور منهم بأننا دخلاء، كنا لانغيب عن حدث هناك فنحن حاضرون في المعارض وحفلات الروابط والأركان السياسية والقراءات الشعرية ونقرأ صحف النشاط الحائطية قبل المعنين بها أحيانا ، وكنا منفتحين علي كلية الفنون الجميلة ونشاطاتها وخصوصا معارض التخريج وكانت ظلال الأشجار هنالك سكنا دائما لنا حيث نقضي سحابة النهار للمذاكرة أيام الامتحانات وللثرثرة والأنس في الأيام الأخرى، كنا كالطيور
والفراش نتنقل حيث شئنا وكيفما شئنا سيرا علي الأقدام قاطعين المسافات جائلين في العاصمة المثلثة من أقصاها الي أقصاها لانستخدم وسائل النقل إلا  مكرهين .   
الحنينة السكرة
جامعة القاهرة الفرع

كانت جامعة القاهرة الفرع ذات طبيعة خاصة جدا، فهى معرض دائم ومهرجان متجدد ونهر متدفق من الشباب من الجنسين ، من كل انحاء البلاد الكبيرة تجمع طلابها في حشد نادر المثال، فليس ثمة مكان أو زمان آخر قادرعلي الجمع بين ذلك المزيج الذى يشمل قادمين من كل بقعة صغيرة وكبيرة في السودان، فقد كانت الجامعة توفر فرصا كبيرة للقبول في كلياتها التى تزدحم بطلاب نظاميين وطلاب منتسبين يشملون كل الأعمار تقريبا، ولكنك تجدهم جميعا في حوش الجامعة الفسيح الذي ينطبق عليه ذلك المثل الساخر لصديقنا عادل سعيد اب جقادو وهو أحد ظرفاء الجامعة من ابناء مدنى من جيلنا فقد كان يقول كلما نظرنا الي ارتال البشر من الطلاب الذين تعج بهم ساحة الجامعة الضيقة المسماة الحوش ( صحى النفوس كان اتطايبت السرير بشيل المية والحوش بشيل من غير حساب)، كان ذلك تلخيصا ساخرا لحالة ذلك الحوش الممتلئ بالجميلات الخائفات من غباره علي تسريحاتهن واناقتهن وهو ممتلئ باصدقاء لهم كتاحة تسبقهم اكثر خطرا من ريح العتويت في طوكرالشرق الشهيرة بكتاحتها الفريدة،كانت جامعة غريبة في كل شئ، بائعات الطعمية وسلطة الأسود بجوار حوائط بيوت الاشلاق المحيطة بالجامعة وهن مقنطرات علي بنابر وهيطة وحولهن قفف من السعف وحلل من الألمونيوم تحتوى علي الأطعمة التى تباع للطلبة والطالبات الذين يقبلون عليها في طمأنينة كانت هي سمة ذاك الزمان الذي كان أمانه في نقاء القلوب وطهرها، باعة السجاير والحلوى ومناديل الورق داخل الجامعة وأشهرهم ابو دقن الذى لايفوت صلاة في مسجد الجامعة الصغير ويرتزق من بيع السجاير والاقلام والمناديل واللبان ولم ينج من تصنيفات السياسة التي نسجت حولها روايات مشوشة حول علاقة مزعومة له بالأمن تارة وتارة بفصيل سياسي بعينه ،  من المعالم مكتب البريد الذي يحتل زاوية في الجامعة يتحلق حولها الطلاب وهو محاصر دوما بالاركان السياسية الملتهبة التي تبدأ بجمع صغير ثم تمسي مظاهرة حاشدة يلتف حولها المنتمون واللا منتمون والعابرون وحتى ضيوف الجامعة ليشاهدوا عروضا حية في فنون الجدال السياسي ونماذج عملية لكيفية مسح الأرض بالخصم والحط من قدره ثم التصدى لهجوم مضاد يمارس فيه الممسوح به الأرض مسحا مماثلا للمتحدث وجماعته بالأرض، كان صراعا للديكة بكل ماتعنى الكلمة من معنى، صراعا لايستسلم فيه طرف ولايكف فيه المتعاركان عن اطلاق قنابل الكلام الموجهة للاخر ، وفي بعض الاحيان يتعدى الأمر قنابل الكلام الى ما هو اخطر وأكبر،وفي قلب هذا الضجيح هناك حالمون وحالمات ينتحون أركانا قصية وينسجون عالما ورديا لاينتمى الي مركب الضجيج الذي يجلسون في قلبه، تجدهم يجلسون ساعات طوال يتهامسون ويبتسمون ويحتسون العصير من الكافتيريا المزدحمة علي مهل وبتلذذ
وينسلون بين الفينة والاخري للحصول علي شاي أحمر لايغيب عن الجلسات وحين تعلو اصوات مكرفونات الجدال علي همسهم يخرجون من الحوش ويذهبون الي حوش كلية التجارة أو يحتمون بسلم الاداب الذى اشتهر بكونه ملاذا للعشاق والصداقات البرئية والهاربين من الغبار والضجيج وفي وقت الامتحانات مكانا مميزا للمذاكرة. كانت للجامعة وجوه أخري عديدة، هناك معارض الروابط الأقليمية التى تعج بها الجامعة فهى تحيل الجامعة بصيواناتها الكثيرة الي معرض دائم يعكس ملامح تلك الأماكن القصية والقريبة التي جاء منها الطلاب وتتبارى الروابط في ابراز مايميز مناطقها من تاريخ وجغرافيا وفلكلور وفنون وفنانين، فتتحول الجامعة في مواسم استقبال الطلاب الجدد الي مهرجان قومي للثقافات، يوما يحتل النوبيون برطانتهم الجميلة وجرجارهم ورقصاتهم المميزة المشهد، ويوما تتحول الجامعة الي طنابير شايقية ملئية بالحنين ، ويوما يتفنن أهل الشرق في عرض ملامحهم الفنية المميزة، ويوما ينبرى أهل مدنى فتصدح اصوات ابوعركى وود الأمين وصديق متولى وصديق سرحان، ثم يحتل أهل كوستى المشهد بابداع يميزهم وتتوالى الايام والليالي الثقافية والمعارض ، ثم تأتى دورة لمعارض الكتاب والندوات الثقافية والدينية، تبدو الجامعة سوق عكاظ كبير في ناحية المنتدى الادبى وجماعة الجو الرطب وعشاق الحلمنتيش، ثم تخطف الصحف الحائطية للجماعات السياسية في الجامعة الأبصار بمانشيتاتها الصارخة

ومعارضتها المعلنة للسلطة في بلد صامت خارج أسوار الجامعة، كان أولئك الذين يحررون تلك الصحف الجرئية يبدون أشخاصا ساحرين قادمين من كواكب بعيدة بجرأة فعلهم وعباراتهم، هكذا وقفت في وسط ذلك الحوش صغيرا ضئيلا مندهشا وباحثا عن موطئ قدم في بحر متلاطم الأمواج، خائفا ذهبت أبحث عن رابطة ابناء مدنى عساها  تبدد شعورا بالغربة والضآلة وقلة الحيلة أعترانى.

رابطة ودمدنى بالفرع عالم ساحر
كانت رابطة مدنى بالجامعة خلية نحل  ونجمة كبيرة في سماء الجامعة، كانوا في استقبالنا بحفاوة ظاهرة تمارس في الجامعة مع البرالمة سنويا، لكنها حفاوة تختلف عن غيرها في كونها حفاوة نابعة من القلب وفي كونها امتداد لعلاقات سابقة علي الجامعة بين ابناء الرابطة، قد تكون علاقة قربى أو جيرة حي أو زمالة دراسة في مرحلة سابقة أو علاقة رياضية أو حتى سياسية أو ثقافية، لذلك كانت الرابطة بيتا يشعر فيه المرء بالإلفة ويذوب سريعا في سكانه الذين يعرف الكثير منهم سلفا وثمة الف باب ونافذة تنفتح بينه وبين من لم يعرفهم قبلا، فالقواسم المشتركة كثيرة جدا،عن نفسي فقد اندمجت في مجتمع الرابطة ووجدت نفسي علي الفور، قابلت الاخت رجاء حسن هاشم التى كانت بكلية التجارة وهي من بنات الدرجة وكنت اعرفها قبل الجامعة بحكم الجوار وبحكم زمالتها في الدراسة مع اختي الكبرى وباتت فيما بعد سكرتيرا عاما للرابطة وعملت نائبا لها في احدى الدورات، وكانت هناك ايضا الراحلة ثورة عبود بنت المزاد  التي كانت بكلية الاداب وكانت هناك معرفة سابقة علي المستوى الأسرى، وكان هناك الاخ الفاتح خضر الكاشف المحامى وكان من قادة الرابطة وكان بالسنة الاخيرة بكلية الحقوق وهناك الاخ  الصديق ابراهيم تاج الدين حمد النيل الذى كان ابرز سكرتير رياضي للرابطة لعدة دورات والاخ عصمت محمد يوسف امين مال الرابطة  وكانا بكلية الحقوق وبلجنة الرابطة وهناك الاخ عادل الباهى  والاخ عبد العزيز محمد احمد والاخ عبد الله خالد   من ابناء دردق الذى شغل منصب السكرتير العام للرابطة والاخ خالد عبد الوهاب من ابناء جزيرة الفيل وهناك الاخت فوزية من ام سنط  والاخت منى ادريس من بانت ومجدى برير من الدرجة وقائمة طويلة من الاسماء اللامعة التي عايشناها في الرابطة، فتحوا لنا قلوبهم من الوهلة الأولى وبت من أول سنة سكرتيرا اجتماعيا بالرابطة وفيما بعد سكرتيرا عاما بعد تخرج من وجدناهم امامنا بالرابطة.كانت رابطة مدنى مجتمعا جميلا قائما علي المحبة والترابط دونما اعتبار للاختلافات السياسية وغيرها، لذلك كان العمل فيها يشكل واحة في هجير لافح، كان تركيز الجميع علي مايقوى الصلات بين الاعضاء وعلى ما يقدمونه من برامج لمجتمع المدينة التى جاؤوا الي الجامعة منها فكان جل النشاط في العطلات في مدنى. واتذكر أن أول التحديات التى واجهتنا كانت كيفية الحصول على موافقة الفنان الكبير ابو عركى علي الغناء في حفل الرابطة لاستقبال الطلاب الجدد الذين كنت أحدهم ، كانت المشكلة ان اعضاء الرابطة في دورة سابقة خلقوا جفوة مع الفنان المرهف عندما اتفقوا معه ولكنهم لم يلتزموا ولم يعتذروا له، فبات الطريق مفروشا بالأشواك، لكننا لم نيأس اصطحبنا معنا الأخ سلمان محمد احمد عضو الرابطة وقريب الفنان ابو عركى وذهبنا الي الفنان الكبير الذى استقبلنا ببشاشة وسماحة ووافق علي الحفل مجانا دون قيد أو شرط، ولازلت اتذكر كيف انتظرت الجامعة كلها ذلك الحفل الفريد الذى كان في الهواء الطلق في الشارع الواقع بين حوش الجامعة الرئيسي ودار الاتحاد، واتذكر كيف افترش ابناء رابطة كوستى المحبين لعركى الأرض أمام المسرح(  (منهم اتذكرزكي منصور المحامى وعبدالسلام ابو ادريس ونجاة وصلاح عبد الله وود الرضى  ) وأتذكركيف غنى الطلاب مع أبو عركى (ياتحفة حواء ياروح ادم ياست الكل)، وغنوا معه( مرة ناحت في المدينة الحمامات الحزينة قامت ادتا من حنانا)، كان أبوعركي يغني وعروقه نافرة كحصان يركض في مقدمة السباق وعرقه يغطي جسده اللامع وعيونه تلمع وكان الناس سكارى بخمر الأغنيات وكنا سكارى بما حققنا من نجاح ساحق وباهر. كان يوما لاينسي ابداً.كان الدرس الأول الذى خرجت به من تلك التجربة هو أهمية أن تكون دوما جزءا من كل وان تقبل علي الناس بلا هواجس مسبقة فعندها تذوب كل الهواجس التى تسكنهم تجاهك،أبو عركى ضرب مثالا في الولاء لمسقط الرأس والتعامل الراقى مع أبناء مدينته، كان بسيطاً وحازماً وعفيفاً حين قال عن نفسي أنا متبرع بالحفل لكننى لا أستطيع اجبار العازفين على التبرع، عليكم فقط ترحيلهم وتخصيص ما يرضيهم،وكان عازفيه عند حسن ظننا بهم حين جاروه في التبرع تقديرا له ولكوننا طلاباً، كانت تجربة جميلة حقاً،والجميل ان مبدعى المدينة كانوا دوما عند حسن الظن بهم وهم يزينون حفلات الرابطة سنويا بالمجان أو فئات رمزية جداً، ومن تجارب الرابطة الفريدة في تمويل أنشطتها اننا ذات مرة سافرنا الي مدينة كوستى حيث كانت السينما هناك تعرض فيلما هنديا لعدة ايام لصالح رابطة مدنى وكان فرسان التجربة الأخوة عصمت محمد يوسف وعبد الله خالد. ومن الأنشطة الجميلة للرابطة حفل التخريج للخريجين الذى كان ينظم بمدينة مدنى بطابور للخريجين يجوب المدينة قبالة المسرح وشارع النيل وحفل تخريج بمسرح الجزيرة تحشد له الأسر في منظر جميل وأجواء احتفالية وانسانية رائعة ولن أنسي ماحييت تخريجنا ودموع والدة زميلينا سيف الفاضل وعبدالله الفاضل المحاميان فيما بعد تلك السيدة المكافحة النبيلة التى كانت أما للجميع. كان عملنا بلجنة الرابطة قد أتاح لنا فرصة القيام بتخريج من قبلنا ومعايشة تجربة تخريج الآخرين لنا. كان مهرجانا جميلا في الحالتين.
ولازلت اتذكر تلك المدحة المحورةعلي يد اخونا عادل اب جقادو لتصبح نشيد الوداع الرسمي للجامعة في أوساط الطلاب الخريجين: 
الجامعة مابتدوم
 ياحليل فرع الخرطوم
من جيتا داب برلوم 
في حوشا حايم حوم
نخلط بنات بالكوم
في تجارة والعلوم
وسلم الحقوق
ياحليل فرع الخرطوم
الجامعة ما بتدوم
يا حليل سلم الاداب
وقعادنا جنب الباب
يا حليل ود العباس
الشايو يزبط الراس
والجامعة ما بتدوم
ياحليل فرع الخرطوم.

النشاط السياسي في الجامعة
كانت الجامعة في ذلك الزمان تجسيد حي لتناقضات المجتمع السودانى، ففي حين كانت الأفواه مكممة خارج الجامعة والصحف والأحزاب وكافة أنواع النشاط السياسي محظورة خارج أسوار الجامعة فيما عدا نشاط الحزب الحاكم الاتحاد الاشتراكي السودانى وتنظيماته الفئوية، كانت الجامعة تموج بنشاط سياسي فعال تشارك فيه كل القوى السياسية المحظورة خارج الجامعة بقسط وافر وفعال يتمثل في الندوات والأركان السياسية اليومية والصحف الحائطية الناطقة بأسم الاحزاب والجماعات السياسية المختلفة التي كانت تتنافس تنافسا محموما من أجل استمالة الطلاب اليها والي برامجها ورؤاها ومرشحيها في انتخابات اتحاد الطلاب السنوية وانتخابات الروابط الاقليمية نفسها لم تنج من أثار ذلك الصراع، كانت الحياة السياسية الصاخبة داخل الجامعة بمثابة صدمة قوية تواجه الطلاب القادمين من لجة الصمت المفروض خارج أسوار الجامعات  الي هذا البحر الصخاب داخل الجامعات، بالنسبة لى لم يكن هناك صدمة فقد تلقيت صدمة أكبر في وقت مبكر حين أغتالت سلطة مايو رفيقي في الدراسة الثانوية  وكشرت عن أنيابها في مواجهة مظاهرات طلابية وشعبية مسالمة في يناير 1982 في مدينة مدنى وسال الدم الطاهر وبلل قميصي فولجت طائعا في بحر السياسة معاديا لسلطة مايو وواقفا بجانب كل من يبشر باقتلاعها ويسعي له، جئت الجامعة وأنا جزء من الفعل السياسي ولست مجرد متفرج عليه، فكنت من السنة الأولى خطيبا سياسيا معارضا يخلط الشعر الثورى المقاوم بافكار ترسم جنة حالمة وطريقا للخلاص من طغمة مايو، كان غضبي الخاص ونيرانى الكامنة بداخلى أقوي من صغر سنى وقلة تجربتى فاندفعت في بحر السياسة الصخاب مستعينا بالشعر المقاوم الذي احفظه وبغضبى الخاص الذى يشد من عضدى ويقوى حجتى ويعطيها مصداقية يشعر بها من يستمع الى كلماتى التى تخرج من الأعماق حيث صورة طه ودمه النازف فوق الأسفلت وصورة والده يوسف عبيد وهو ممسك بقوائم السرير الذي يضم جثمان ابنه بعد سقوطه في وسط شارع الأسفلت والرصاص منهمر والكل منبطح ارضا وذلك الشيخ ممسك بالسرير الذى قاطع الرصاص رحلته الي المقبرة . كان ذلك المشهد يدفعنى دوما في قلب لجة السياسة ونشاطها مهما روادتنى نفسى الي حياة وادعة فقد كنت أتوق دوما الى اجواء جامعية عادية لا تأثير للسياسة عليها  كما كانت حياتى قبلاولكن السيف سبق العزل ولم يعد ثمة مجال للتراجع، فقد صنفت نفسي فصنفنى الاخرون وحكم على القدر حكما لايرد.ولامجال للتراجع, ليس سوى ان تريد أنت فارس هذا الزمان الوحيد كما قال "أمل دنقل.

لم يكن الطريق طريقى ، لكنه بات كذلك،كانت الجامعة حين ولجناها ممتلئة بلافتات كثيرة تنادى بأطلاق سراح المناضل فلان والمناضل علان وأخرى مبهمة تطالب بأطلاق سراح المعتقلين السياسين دون إيراد أسماء، وكان للجامعة نجومها في مجال السياسة مثلما كان لها نجوم في مجالات أخرى، ولعل أبرز نجوم ذلك الزمن كانوا ( ياسر عرمان وعادل فيصل وأبوبكر محمد أبكر وعبدالله كوبيل ومجدى محمد أحمد وعادل عبد العاطى وهدى عبد الحميد ) من الجبهة الديمقراطية، و(بيرم وجودة وحاتم بيرسي والمرحوم سرى وعمر عبدالله ) من الناصريين ، و(نادر السمانى ومحمد عبد الجليل) من جبهة كفاح الطلبةحزب البعث ،و( محمد عثمان الفاضلابى ومحمدعكاشة ) من الحزب الاتحادى الديمقراطى ، و(مكين ويوسف وصديق الأنصارى) من حزب الأمة وكان للاتجاه الأسلامى وجوه بارزة كثيرة منها( أبوبكر دينق الجاك ووفاء جعفر وعبدالهادى  وعثمان الكباشي ومعتصم الفادنى وعمر نمر وعادل عبد الرحمن والأخوين                      بلل (حسن وحسين  )  كان هناك تنظيم المؤتمر الوطنى الأفريقي
anc
  وهو خاص بطلاب جنوب السودان وأبرز قياداته (قيري رايمندو/ وجون كلمنت ، وجيمس الالا دينق، وجورج أنقير، وجورج لادو، والبينو وزكريا وميانق وافات)  وهناك مؤتمر الطلاب المستقلين وابرز قياداته  المرحوم محمد الهزيل حاج حسن والاخ محمد زين وحتى الاتحاد الاشتراكى كان له قيادة معروفة ممثلة في عبد السلام حمزة، وكان هناك تنظيم الاخوان الجمهوريين ومن أبرزهم خالد بابكر. وكان هناك تنظيم للاخوان المسلمين جناح صادق عبد الله عبد الماجد وتنظيم لجماعة أنصار السنة المحمدية. أما أنا فقد كنت بتأثير أصدقائي في مدنى وحدث استشهاد طه يوسف عبيد قد انخرطت في الجبهة الديمقراطية منذ العام الأخير في المرحلة الثانوية، كان الشعر صاحب تأثير كبير في اختيارى فقد كانت دوواين الشعر الثوري لشعراء المقاومة الفلسطسنيةلاتفارق اصدقائي وبت مدمنا للشعر والمقاومة وكانت أشعار محجوب شريف عالما جميلا جذبنى كالمنوم مغناطيسيا الي عوالم الثورة والشهداء والحنين الي الأمهات 

والتغنى بالمستقبل ، كنت مفتونا بمحجوب شريف حد اننى كنت افتتح خطابتى بإشعاره وبها اختتم  وكان البرنامج السياسي الذى نبشر به خليطا من تصوراتنا البرئية عما يجب ان يكون عليه الكون حولنا وخليطا من غضب شخصى وغبينة شخصية وخليطا من أحلام الشعراء، لذلك اعترف الان اننى كنت ابيع بدون مقابل لزملاء الدراسة حلما طوباويا غير قابل للتحقيق ولكننى كنت أظن وأؤمن وقتها بقابليته للتحقيق وأراه طريقا وحيدا للخلاص وأركل كل ماعداه، كان العمل السري نفسه مغامرة تستهوي من هم في سننا بالغموض الذى يحيط بكل شئ والأعمال الخارقة التى تنسب لرجال غامضين نراهم مختفين ومحلقين مثل سوبرمان والوطواط في عوالم خفية بقدرات خفية، كنا خارجين من عوالم الغاز المغامرين الخمسة وسمير وميكى والوطواط وسوبرمان اللذان يعيشان مثل ابطالنا الغامضين حياتين واحدة علنية يتسترون فيها خلف شخصية ساذجة وأخرى سرية يمارسون فيها دورا خفيا في انقاذ العالم من الشرور والأشرار، وهكذا بالضبط كانت نظرتنا للعمل السرى في زمن مايو عندما دخلنا الجامعة،أردنا ان نكون جزءا من رجال خارقون يمارسون مهمة نبيلة هى تغيير العالم الي الافضل، لذلك كان شيئا مشوقا ان نكون اعضاء في جماعة سرية نحمل فيها اسماء مستعارة اغلبها لها علاقة بالسير المبهرة التي قرأناها وسمعنا بها عن شعراء وقادة ثوريون مثل جيفارا والشفيع وعبدالخالق المشهور بالرفيق راشد ومثل  الشاعربابلو نيرودا وسلفادورالليندى الرئيس     التشيلي التقدمى المنتخب الذى ازاحه انقلاب امريكي قاده الجنرال بينوشيت وقاتل الرجل الانقلابيون حتى آخر طلقة وقتل والشاعر التركى ناظم حكمت ،كان عالما فانتازيا مبهرا ذلك الذي وجدنا انفسنا في قلبه، فاندفعنا بحماس الي قلب المظاهرات والاركان الملتهبة ومعارك الانتخابات الطلابية التى نتخيل انها ستغير الكون باكمله نتيجتها، وكانت كتابة الجريدة الحائطية ولصقها بالجامعة مغامرة مثيرة الفصول تجعل صورتنا كرجال خارقين تبدو أقرب الي الحقيقة، وكان مرور بعض زملائنا الذين يظنون انهم كوادر سرية غير معروفة في الجامعة أمام الصحيفة المعلقة  وتوقفهم عندها للقراءة ببراءة مفتعلة وهم من حرورها وشاركوا في كتابتها حدثا يشعرنا بأننا نملك مفاتيح الأسرار 
ويجعلنا نحس بخطورتنا وخطورة مهمتنا التى نباشرها سرا وعلنا.


أتذكر طاقم تحرير صحيفة الشرارة صوت الجبهة الديمقراطية بالجامعة في ذلك الزمان والتى اشتهرت بعبارة ثابتة بها تقول( ومن الشرارة يندلع اللهيب)، كانوا خليطا متنافرا منسجما، أحدهم حلفاوى يسمي محمد فتحى محمد جبارة نحيل العود حتى انك تخشي عليه من أي ريح مهما صغرت فهى قد تتلاعب به كما تللاعب بورقة صغيرة، لكنه كان صبورا جلدا يعمل بلاكلل ساعات طوال في أي وضع و أي مكان في كتابة الجريدة الحائطية باقلام الشينى الملونة بخط جميل مقروء، وهناك نحيف آخر من ابناء كوستى يسمي عبد السلام كان فنانا في الخطوط وصاحب شخصية ساخرة وساحرة ونكتة حاضرة وروح عالية لايعرف الغضب أو الانفعال طريقا اليها، وهناك ثالث يتميز بعلاقته القوية بالتدخين والحكايات أثناء عمله وهو قبطى  ظريف يسمي فرانسوا  تراه دوما مرتديا بنطلون الجينز ونظارته الطبية علي وجهه وسيجارته لاتفارق يده ، كنا نسميه القسيس  وكان مخزن حكايات لاينضب حتى اننى استطيع الجزم انه لو حضر زمان القنوات الفضائية لكان لوحده انجح قناة قادرة علي جذب انظار وآذان المستمعين اليها، كانت كل ثانية معه عبارة عن نكتة وكل موقف يسرده عبارة عن حكاية مشوقة الفصول وكان دوما مركز اهتمام واستماع الحاضرين، كان صبورا هو الآخر وفنانا في التنسيق الفنى واستخراج العناوين الجاذبة والمثيرة، كانت له لازمة لطيفة جدا فهو لايورد أسم احد الاصدقاء الا كاملا متبوعا باسم الاب ماعدا اسم صديق واحد اشتهر بيننا باسم كامل الحلبي بسبب لونه فكان يقول أسمه مجردا ، كان هناك عوض الله الحلفاوى البدين نوعا ما، وهو رجل ضاحك دوما كطفل واذا قابلته في الجامعة يوما فلن يخطر علي بالك أبدا أن  صاحب هذا الوجه الضاحك منخرط في أي نشاط من أي نوع سوي الضحك وربما الملاكمة ، وكان هناك شخص آخر نحيف قصير القامة لكنه مثل ابو الدقيق في سرعة انفعاله ومثل النحلة في لسعة تعليقاته الساخرة ولعل ذلك كان سبب شهرته باسم (على الوجيه)  وهو علي ابكر الحصان الضاحك دوما 
الذى تزوج فيما بعد زميلة دراسة ومشاوير ذات ملامح آسيوية وهى خرطومية فأطلق عليها الاصدقاء أسم أوشين بطلة المسلسل الشهير بسبب ملامحها الآسيوية، علي هذا حكاية شيقة الفصول  وكان لنا معه وفي بيتهم باركويت ذكريات جميلة وضحكات طاولت عنان السماء واجتماعات ظننا لسذاجتنا انها قد تغير العالم أو علي الأقل وطننا لكنها مضت مثل دخان السجائر العالق المصاحب لها ولم تترك إلا الذكريات المتعلقة بها وبمن كانوا فيها وبعض ما جرى هنا أو هناك،تفرقنا أيدى سبأ وبتنا حين نلتقى بعد غياب السنين نلتقي لقاءات عامرة ببعض الدفء الذى مضى ولكن بلا أحلام وبلا شرارة يندلع منها لهيب ،لم يبق لنا شئ سوى المحبة فقط لذلك الزمان البرئ الذى كنا فيه في كوكب من الأحلام ندور وندور، لم أكن أملك أي موهبة فيما يتعلق بالخط والكتابة بالقلم الشينى ولكننى كنت ولازلت عاشقا لكتابة النصوص من أي نوع فوجدت نفسي محررا مهمته كتابة مسودته والدفع بها للخبراء لإخراجها في ثوب قشيب ، وهكذا عرفتهم وبت جزءا من عالمهم المثير، لا أدرى أين غابوا الآن في الزحام لكن ليس هناك على حد علمى من اشتغل منهم بالصحافة سوى فرانسوا لوقت قصير وفي مهام ادارية، أما انا فاشتغلت بالصحافة حينا مستفيدا من تجربة التحرير المبكرة التى يجب أن أقول اننى بدأتها منذ الثانوى قبل ولوج الجامعة حيث كنا نصدر صحيفة حائطية بمدرسة السنى  الثانوية بمدنى وهي صحيفة ذات طابع ثقافى عام، وقبل ذلك كنت اشارك في صحيفة نادي حي 114 الحائطية . 
وجوه كثيرة تطرق أبواب القلب والذاكرة هنا وتتزاحم علي مسرح الأحداث باحثة عن موطئ قدم،وجه يرتدى صاحبه نظارات طبية تقليدية الإطار ويرسم الجدية دوما علي محياه ودوما يحمل كتابا ذو عنوان معقد ومثير وغامض فهو عاشق للقراءة وغارق حتى أذنيه في القراءة في كل فروع المعرفة فهو طالب حقوق لكنه مغرم بالفلسفة وكتبها ذات المصطلحات الغامضة والمخيفة وهو مغرم بالاقتصاد السياسي ونظرياته وشروحاتها ، ومغرم بالروايات والأشعار وسير المفكرين واالفلاسفة
كان صاحب مصطلحات تتكرر في مناقشاته كثيرا
فتجعل البعض ينزوى جانبا ثم ينسحب خوفا من إبراز جهله 
أما صاحب الوجه فقد كان في الحقيقة حالما كبيرا
وجائعا كبيرا الي المعرفة ومرهفا الي حد انك تخاف عليه من النسيم
فيما بعد أدخلته تلك الرهافة في أزمات أخذت من وقته كثيرا حتى استطاع تجاوزها
كان دوما زهرة تعلم انها ضعيفة فتحيط نفسها بالأشواك
كان دوما طفلا كبيرا يكسو وجهه بقناع الكبار حتي لايتم ضبطه متلبسا بطفولته
كان فيه شبه أدركته مؤخرا من أبطال رواية أوسكار وايلد

(أهمية أن تكون جاداً (The Importance of Being Earnest)  
من حيث محاولة الظهور بمظهر مغاير للحقيقة
وكانت تلك المحاولة دلالة نبل وليس العكس
يا الله كم تترابط الأشياء في الحياة إذا تمعنا فيها جيدا
فلم يضع جهد اساتذتنا الذين درسونا الأدب الانجليزى هباءا منثورا
بل بقيت كلماتهم في القلب والذاكرة
وأضاءت لنا كثيرا من ظلام الحياة


No comments:

Post a Comment

شكرا علي المشاركة والتواصل