قصة الموكل الكاذب
كان قصيرا، مربوع القامة، له عينان صغيرتان ماكرتان ولحية صغيرة، كثير الكلام والابتسام، كنت بطبعى أحب المرح والمرحين والبسطاء وكان ظاهريا ينتمى الي ذلك كله، فهو يعمل سائقا لعربة نقل تجارى للركاب والبضائع ، وهى عربة عتيقة من النوع المشهور في ذلك الزمن باللاندكرور برغم أنها سيارة يابانية الصنع تنتمى الى السيارات اللاندكروزر ولكن التسمية السودانية لها (اللاند كرور) جاءت من كونها موديل قديم أكل عليه الدهر وشرب ولكنه لقوته لازال وسيلة النقل التجارى القوية المفضلة التى تخضع لتعديلات محلية كثيرة من الحدادين السودانيين فهم يتفنون في عمل إضافات تجعل من العربة ذات المقعدين حافلة صغيرة بها مقاعد متقابلة ولها سقف يقى ركابها من الشمس واحيانا يصمم الصندوق الخلفى بحيث يكون صالح لحمل البضائع والركاب معا بجعله به ارائك خشبية على الأجناب بلا سقف ،المهم كان صاحبنا يقود سيارة من هذا النوع لها مقعدين أمامين ولها صندوق خلفى مصمم لحمل الركاب والبضائع معا وكان حسب تعبيره الدارجى ( يجازف بها رزقه) مابين مدنى والقرية أربعين الفاو ،ولكنه اثناء قيامه بعملية نقل برئية وجد نفسه متهما بارتكاب جريمة سرقة من أحد المخازن الحكومية بالاشتراك مع آخرين،كانت قصته كما رواها قصة بسيطة يمكن أن تحدث لأى إنسان شريف فيجد نفسه خلف القضبان متهما بتهمة خطيرة بلا ذنب جناه، فقد استأجره أشخاص لايعرفهم من مدينة مدنى ليحملهم الي القرية أربعين بمقابل وقد كان العرض جيدا فلم يرفضه وقام بالنقل واستلم نقوده وأراد العودة حين طلب منه الذين استأجروه انتظارهم وأعادتهم بعد الفراغ من مشوارهم وكان الليل قد بدأ يرخى سدوله ولن يجدوا وسيلة للعودة ولن يجد هو ركابا فقرر قبول عرضهم والانتظار، وفي طريق العودة طلبوا منه التوقف علي جانب الشارع بالقرب من المخزن المسروق الذي لايعرفه،وكان هناك من ينتظر علي جانب الشارع ومعه بضاعة في جوالات رفعت بالعربة وواصلت العربة سيرها حتى بلغت مدنى، وفي الصباح التالى تم القبض عليه بواسطة الشرطة وتبين أن من كانوا علي متن عربته لصوص وان البضاعة التى حملوها عليها مسروقة من مخزن حكومى مجاور،حضر الي مكتبى في مدينة مدنى في مطلع التسعينات بتوصية من أستاذ محام أحاله الي لأن القضية بدت له أصغر من صيته الكبير من جهة ولأنه أراد مساعدتى في بداية مشواري في المحاماة بمدى ببعض القضايا والزبائن، كنت لازلت في بداية حياتى المهنىة ولازلت من ذلك النوع الساذج من المحامين الذي يصدق كل رواية تروي له ويقبل القضية بلاتمحيص في مرحلة الاستماع لرواية من يقصده ليفاجأ فيما بعد في كل جلسة بحقيقة جديدة كانت خافية عليه ويصبح مسخرة في المحكمة ومحرجا علي طول الجلسات وقد أحرق سفنه قبل أن يتفقد جيشه ويعرف علي أي أرض يقف، المهم صدقت دموع التماسيح التى ذرفها موكلى القصير المكير وتوليت قضيته وبت أسافر بصحبته لحضور جلسات المحاكمة المنعقدة بمدينة الفاو بعربته اللاندكرور وكان خط دفاعى انه كان ناقلا حسن النية ولم يكن شريكا في أي مشروع إجرامى ، بل تجرأ وهمس في أذنى انه ربما تكون قصة السرقة المزعومة مختلقة والأمر ربما يكون تغطية لفساد في المخازن ، فصادف قوله قبولا عندى، وسارت الاجراءات حتى صدر حكم ببراءة موكلى وذلك أمر طبيعى ومتوقع في ظروف القضية وما بذلت فيها من جهد مؤمنا بقضيته وبراءته، كانت المفاجأة في انتظارى حين خرجنا من مبني المحكمة متجهين صوب سيارته لنسافر الي مدينة مدنى عائدين، فرك القصير المكير يديه بفرح حقيقي وهتف بصوت عال: والله خطير يا استاذ...خطير جد....والله ماكنت قايل نفسي اطلع منها.
توقفت والتفت نحوه وانتهرته قائلا: ماكنت قايل تطلع منها؟ قصدك انك عملتها؟
ضحك بصفاقة وقال بطريقة سوقية فظة: ومال ايه؟ انت صدقت اللاكونة دي يا استاذ والله شنو؟
هتفت بكل الغضب الذي في الدنيا في وجهه أن يغرب عن وجهى هو وعربته اللعينة، وقلت له والله لو كان بمقدورى ان اتقيأ كل مليم أخذته منك لتقيأته....اغرب عن وجهى وإلا.....وقف محتارا....انتهرته بحزم فهرول نحو عربته وادار المحرك وذهب، بقيت وحدى
مشيت مسافة كيلو متر حتى شارع الزلط ، كان الغروب مقبلا والمكان موحشا، ولم اك املك مالا وقتها، لكن الله قيض لى شاحنة تحمل بطيخااعتليت ظهرها عائدا الي مدنى والهواء يعبث بالكرافتة كأنه يضحك مني ...كنت غاضبا وحزينا وفيما بعد كانت تلك الحادثة أحد اسباب هجرتى من المحاماة الي القضاء، فقد بت أري في كل موكل شخصا وضيعا كاذبا مثل ذلك الذي جعلنى أحصل له على براءة لايستحقها.
قصص موجعة
وجه ملائكي
وجه ملائكي
كانت صاحبة وجه ملائكي ، وجه صغير جميل باسم وشعر جميل وقوام دقيق وأنف مرسوم وعينان تخترقان كل شئ حتى الحجر فيرتجف، الي ذلك كانت أنيقة لطيفة، ظهرت في مجتمع المحامين بغتة فادرات الرؤوس كعادة المحامين مع الجمال، ولم تجد صعوبة في الانتماء الي أحد المكاتب والتجول في المحاكم من أقصاها الي اقصاها باعتبارها محامية متدربة وأفسح لها وجهها الطريق فأنفتحت كل الأبواب والقلوب لها، وباتت كأنها ولدت محامية وكأن الجميع قد عرفوها عمرهم كله، ثم خفت الاهتمام بها بعد ظهور وجوه أخري جديدة، لكنها ظلت موضعا للحفاوة والإهتمام حيثما ظهرت، ثم علا همس غريب عنها ، تزايد الهمس حتى بات عالياً كطبول حرب، تبين ان صاحبة الوجه الملائكى ليست محامية ولم تدرس القانون مطلقا، لكنها احبته وعاشته وهماً جميلاً ودكت حصونه واخترقتها بلا أي مؤهلات أكاديمية سوي رغبتها في ان تكون من سدنته، وتبين انها تعانى نفسيا وانها تستحق الشفقة والرحمةأكثر مما تستحق عقابا أو احتقارا، فلملم الناس خيوط الحكاية بهدوء وأختفت صاحبة الوجه الملائكى من كل المواقع بلا وداع ولا ضجيج، ثم طواها النسيان.
( الحقيقة العارية)
هي قصة
الإحسان الذي ينقلب سيفاً بتاراً يغوص في أحشاء المحسن اليه ويمزقه إربا
، كان شابا مرموقاً وسيماً ساحراً محبوباً من الجميع في تلك المدينة التى تشبه قرية من فرط ترابط أهلها وتشابك علاقاتهم
الاجتماعية،نشأ صاحبنا في أسرة عريقة ممتدة الجذور وذات مال وصيت وكان والده مالكا لعقارات كثيرة بالمدينة وتاجرا
وقطبا كبيرا فيها، كان هو الولد الأكبر الذي لايعرف سره إلا الأم والأب،كان الأب متشوقا في بدء حياته
للذريةوحين تأخر الانجاب قرر أن يتبنى لقيطاً يبدد وحدته فاختاره وأخذه ورباه
ومنحه أسمه ولم يبح للناس بسره، ثم توافد الابناء والبنين من صلبه بعد ذلك وفتحوا
أعينهم فوجدوا صاحبنا أخا أكبرا ناجحا ومتفوقا في دراسته ومحل محبة والديه الذين
رأيا فيه فألا حسنا وابنا لم يلداه ولكن شعورهما بالابوة والأمومة تجاهه لاينتقصه
ذلك أبدا، وهكذا مضت السنين وصاحبنا يعيش حياة حقيقية رائعة كانسان جميل رائع يملك
أسرة ودفئها وصيتها ويجول المدينةمن أقصاها الي أقصاها مفعما بالكبرياء والكرامة
ومحاطا بالمحبة أينما حط رحاله،وحين جاءت موجة الأغتراب غادر صاحبنا الوطن ميمما
صوب إحدى الدول الخليجية وغاب هناك سنينا طويلة وعاد ذات مرة وتزوج زواجا أسطوريا
تحدثت عنه المدينة طويلا وتمنت كل بناتها أن يكن مكان تلك السندريلا التى ظفرت به،
مضت الحياة، غاب البطل في خليجه وغيب الموت أبيه الذي أوصي الأم والإخوة جميعا
بأخيهم خيرا بعد ان شرح لهم الحقيقة طالبا منهم ألا يخبروه الحقيقة لانها ستحطمه
ولكنه في الوقت نفسه طلب منهم ألا يقعوا في المحظور باعطائه في الأرث نصيبا لم
يعطه الله له موضحا انه سجل له عقارات وخصص له أموالا تكفيه وتجعله في وضع مماثل
لأوضاع أخوته واخواته وذلك في شكل وصية يجب ان تنفذ دون اعتراض منهم، كانت الصدمة
قاسية عليهم لكنهم تحملوها وساعدهم غياب الأخ
المفترض بعيدا، لكنه عاد من اغترابه
الطويل حين راسله أحد أقاربه معزياً ومستنكراً توزيع التركة بشكل لايطابق الشرع وفيه ظلم له، استعان بمحام وتبين له
فعلا ان نصيبه في الأرث أقل مما يستحق ولم يدرك لذلك سببا،تحدث الي أمه واخوته
فحاولوا تبريره بشتى الطرق ولم يفلحوا، ولم يبوحوا له بالحقيقة فزاد صاحبنا في
عناده وظل يضغط بكل السبل القانونية ليظفر بما يظنه حقه وما دري انه يحفر قبره
بيده، تحت ضغط شديد منه لم يجد اخوته وامه بداً من هتك ستار الحقيقة النائمة وقذفها
في وجهه عارية كما هي، فقد كانوا محاصرين بوصية الاب من جهة وبفضوله وعناده هو من
جهة أخري، ولم يكن من بد مما ليس منه بد، ترنح الرجل تحت وطأة الحقيقة وأنهار كما
تنهار بناية شاهقة تحت وطأة قصف صاروخي، نظر الي نفسه في المرآة فلم يجدها، نظر
الي حياته كلها فلم يجدها، كانت كلها وهما وأكذوبة مثله هو، تبخر الرجل واختفي من
كل مكان ومجلس ولم يعثروا له علي أثر بعدها، بقيت أسرته مغروسة في المدينة بلا
هوية بعد تمزيق بطاقة هوية رب الأسرة، وبحث الأهل
المفترضين عنه في كل مكان بلاطائل، اغلقت المحكمة ملف التركة الموجعة ونامت المدينة
حزينة.
No comments:
Post a Comment
شكرا علي المشاركة والتواصل