Saturday, September 28, 2013

فهمى صالح الرجل الصالح نجمة في سماء بعيدة ( ملامح من السيرة)

فهمى صالح الرجل الصالح نجمة في سماء بعيدة

فتحنا عيوننا في حى 114 الحبيب وتعلمنا في ازقته الصغيرة وبيوته المعروشة بالمحبة اشياء كثيرة نبيلة وغالية ، كنا فقراء ابناء فقراء، بسطاء ابناء بسطاء، اغلب امهاتنا أميات وكذلك الاباء المتعلم فيهم يفك الخط بالكاد، لكن بمقدور المرء ان يجزم باننا حظينا باجمل واروع وافضل بيئة اجتماعية يمكن أن يحظى بها اطفال وشباب، كانت بيئة طاهرة ونظيفة ومملؤة بالحب والمحبة، كان الكبار كلهم اخوانا واباءا والأمهات كلهن أمهات للكل والأخوات محل تقدير واحترام ،تربينا علي الثقة المتبادلة وعلي الأخوة الصادقة والرجولة والشهامة والكرم والإيثار والتعاون،كانت بيوت الرذيلة علي مرمى حجر منا وكان اولاد الفريق متعففين وعلي خلق ودين، وكانت بيوت الخمور علي قارعة الطريق وكان الحى معافى، كان فهمى نجمة بعيدة متميزة، شاب بدين نوعا ما ولكنه ضاحك بشوش نشط خفيف الحركة لايغيب عن أي نشاط او مبادرة أو مباراة أو تمرين لفريق الأهلي مدنى عشقه الكبير وعن تمارين فرق الحي 114، كان منزلهم يتبع جغرافيا لحى الحلة الجديدة ولكن بوابته الفاتحة علي بيوت 114 فتحت قلوب أهل البيت علي حب الكمبو وأهله فباتوا جزءا لايتجزأ من الكمبو، بات فهمي واسرته كلها ينتمون انتماءا كاملا للكمبو ولايعرفون حيا غيره برغم احتفاظهم بعلاقات طيبة مع اهل الحلة الجديدة جعلت منهم قنطرة ربطت بين اهل الحيين المتجاورين، لم يلعب فهمى الكرة ابدا، ربما بسبب بدانته، ولكنه كان عاشقا لكرةالقدم ونشاطها الاداري لم تعرف المدينة والمنطقة الجنوبية مثيلا له في ذلك العطاء والوفاء الا قلة نادرة توشحت بها مدينة مدنى في ذلك الزمان الجميل ، لمعوا مثل شهب جاءت من السماء فاضأت الكون برهة من الزمان ثم غابت وتركت الناس في شوق اليها، ولعل المقام مقام ذكر لتلك الاسماء: عبدة مالك ومحجوب فضل وصلاح الشاذلى وازهري حبيب نسي وصلاح حسن والنور الفلاتي وبابكر بتاع فريق الوادى وجيرانه ناس الصايم والاستاذ بتاع فريق الوادي وناس يسين بتاع نجوم المزاد في الرابطة الجنوبية وهناك ناس عبد الله سرالختم في التضامن وناس مجدالدين وابوليلي في الثوار وناس الشاعر في الاصلاح وناس الكوارتة وغيرهم ممن سقطوا من الذاكرة ولكنهم يبقوا في ذاكرة المدينة نجوما بعيدة قامت علي اكتافها نهضة مدنى الكروية، لم ينهبوا مال شعب ولم يكونوا اثرياء ثراءا مشبوها ولم يكونوا يطالبون بديون علي الاندية ولم يعرف احد كيف انفقوا عليها، لكنهم كانوا جميعا شموعا تحترق لاجل الاخرين ويفعلون ما يفعلون كالشهداء يموتون في صمت بلا انتظار للثمار، كان فهمي احد اولئك النبلاء الذين جاد بهم الزمان علي اهل السودان فاعطوا بلا كلل وعملوا بلا أمل اقاموا علي سفر وفارقوا علي عجل، ومضوا كالاحلام ، كالشهب، كامطار الخريف، تمضي الي جوف الارض وتغيب فيه فتخرج خيرا عميما للاخرين، كان فهمى بابتسامة دائمة وعقل مرتب هو من أشرف علي ادارة فريق المجد 114 منذ التأسيس وحتى ذهاب المجد الي العدم الذي جاء منه، كان اداريا فذا وهماما وملما بقواعد ادارة نشاط الناشئين ولبقا وصارما في التعامل مع اللاعبين وقد كنت أحدهم لفترة طويلة،لم تصدر عنه يوما لفظة نابية، لم يوجه اساءة للاعب أو خصم أو حكم أو اداري أو مشجع، كان كل جهده وفكره منصبا علي شؤون الفريق، تسجيلاته وصحتها وخطوطه وتقويتها ونشاطه وانتظامه وانتصاره بالطرق المشروعة، لذلك كانت سمعة فريق المجد دوما فوق كل الشبهات ولم يرتبط اسم المجد بشغب أو اعتداء علي حكم أو سوء سلوك من أي نوع، وكان لفهمى ورفاقه في الادارة وعلي رأسهم الاخ الفاتح عبد الوهاب رئيس فريق المجد دور كبير في ذلك السجل الناصع لفريق جاء من العدم وبات في زمن وجيز من عمالقة الرابطة الجنوبية وهى اقوي رابطة في مدنى انذآك، كان فهمى صديقا للاعبي الفريق جميعا بلا تفرقة أو تمييز وكان حاضرا دوما في النادي حيث كان عاشقا للضمنة ولاعبا ماهرا له صولات وجولات فيها مع الريح ابوالريح والمرحوم صلاح التلب مدافع المجد والاخ يوسف الله جابو والاخ صلاح حسن سعيد، جمعتنا بفهمي ذكريات كثيرة منها رحلتنا الي مدينة الابيض واستقبالنا لناس الابيض في النادى حين ردوا الينا الزيارة، فقد كان نجما في المناسبتين، وكانت لنا رحلة اخري الي سنار ورحلة رابعة الي الخرطوم الامتداد، كانت ذكريات جميلة، كانت لفهمي مداعبات خاصة مع زامبيا وفرفر والاخ ناجى تشتش والاخ عادل محمد مختار الثعلب ومحجوب كرفون لاعب الوسط الرهيب بفريق المجد، اما علاقته بالاخ عماد كسبرة وعماد الدنكوج ومحمد احمد الرشيد باكات الفريق فقد كانت علاقة خاصة قوامها مداعبات متبادلة. لا اذكر للاخ فهمي مشكلة مع احد في مجتمع المجد ابدا، غير انه لم يرض انتقالي الي فريق الثوار دون الحصول علي موافقة ادارة المجد، فترت علاقته بي ولكن سرعان ماعادت المياه الي مجاريها وظلت الابتسامة دوما علي ذلك الوجه الطيب حتى اضطرتنى ظروف عملي للغياب طويلا عن مدنى، جتي كان لقائي الاخير به في مدينة كريمة حين جاء مع محبوبه الاهلي في العام 2011 لمباراة في التأهيلي امام الجبل كريمة، كنت بالاستاد اثناء المباراة حين اقبل نحوى شخص نحيف بدت ملامحه مألوفة لكننى لم اعرفه فهمس مبتسما( انا فهمي ياحارس.....انا فهمى) تقالدنا بحرارة وكان يهمس( انا ما جانى سرطان ياحارس، قربت اروح فيها وربك كتب لي عمر) كان لقاءا مؤثرا جدا وقصيرا جدا ، واخيرا جاء نعيه كالصاعقة.. رحل الرجل الذي زرع الكمبو بالابتسامة وكان من ابرز صناع مجد المجد فيه، كان خريفا كريما في كل شئ، كان ابا واخا وصديقا ونجما في سماء بعيدة
وكعادته في كل شئ كان فهمى باسلا في صراعه مع مرض السرطان اللعين الذي استوطن بدنه ولكنه لم يتمكن من هزيمة روحه
ظل الرجل يقاوم ببسالة حتى نهض من المرض في نهوض مدهش وباشر حياته بضعة اشهر وفعل كل مايحبه ورافق فريق الاهلي في رحلات مهمة للعودة للممتاز وعاش معه فرحة العودة لموقعه ثم زوت الشجرة الخضراء وماتت واقفة ورحل الرجل رحيلا فاجعا الي عالم ارحب وارحم
اللهم ارحم فهمى صالح واجعل الجنة مثواه مع الصديقين والشهداء

Thursday, September 26, 2013

بورتسودان الدموع والغمام أو(البكاء في البدء سرا وفي الختام علنا)/ سيرة ذاتية/ صلاح الدين سر الختم على

لم يكن القدوم الي مدينة بورتسودان اختيارا، كان شيئا صنعته الصدفة والظروف والأقدار
وكنت كارها لذلك الانتقال من الخرطوم التى ولجتها بعد سنوات من الطواف في الأطراف
قادما من دارفور بعد ستة سنوات قضيتها هناك، لم يدم وجودى بالخرطوم طويلا حين فوجئت ذات ظهيرة حارقة في شهر مايو 2006 بخبر نقلي الي بورتسودان، أسودت الدنيا في وجهى وشعرت بغضب كبير وغبن حتى اننى فكرت في الاستقالة من العمل وشرعت في ذلك فقوبل طلبى بالرفض وكان ذلك من حسن حظى،جئت الي بورتسودان كمن ألقي به في جوف السجن ،وكنت طوال الطريق أفكر في السيناريوهات المحتملة ولم يكن من بينها أبدا ما جري وتحقق في أرض الواقع ، جئتها بدموع صامتة وخرجت منها بعد أربع سنوات بدموع علنية صادقة، بكيت من القدوم اليها سرا ، فابكتنى عليها علناًعند الرحيل القسرى عنها، بحساب السنين هى اربع سنوات ، وبحساب الحياة والخوة والصداقة والجمال البشري في تلك الأرواح التى عشت بين اصحابها هى حياة كاملة، حياة لايريد من يعشها ان تأتى لها نهاية أبدا، كان أول من التقيته عند قدومى الي المدينة شاب رائع عميق صار فيما بعد صديقي وعرفت فيه صورة رائعة لما هو عليه انسان هذه المدينة ذلكم هو الشاب مأمون عبد الله مسعود طلق المحيا دائم الابتسام لبق الحديث ودود وكريم تشعر للوهلة الأولى في حضرته انك عرفته طوال عمرك، كنت بالفعل قد سمعت عنه قبل مجيئى الي بورتسودان من صديق مشترك أوصاه خيرا بى وأوصانى بدخول المدينة من بوابته ، فاكتشفت لاحقا انه أحد بوابات المدينة بالفعل، كان آخر عهدى ببورتسودان عام 1990 حين جئتها وقتها محاميا قادما من ودمدنى مع موكلين كان لديهم قضية ببورتسودان وجئت وقتها بالطائرة واقمت بفندق في قلب المدينة يومان ثم عدت بالطائرة وليس بذاكرتى من المدينة التى كانت تعج بالذباب والحر الا منظر الماء حين يبلل الجسد بحبات الملح فتندم علي الاستحمام، كانت المدينة في ذلك الزمان مدينة قاحلة لاعلاقة لها ببوتسودان الراهنة الانيقة الجميلة، لذلك كنت متوجسا حين جئتها بعد ستة عشر عاما من الغياب، لكنها كانت مدينة أخري خلعت أسمالها البالية وتأنقت وتألقت كأنها عروس تتهيأ لليلة العمر النفيسة، ثمة شئ من تلك باق في أطراف المدينة ولكن مظاهر كثيرة أختفت وتلاشت.....وحين تهادت السيارة التى يقودها زميلي واخى الاكبر مولانا محمد النذير محمد المبارك من المطار الي قلب المدينة كنت أتلفت يمنة ويسرة  باحثا عن الوجه القديم ، فاذا بى المح عمرانا جديدا، شوارع أنيقة نظيفة ، حين بلغت السيارة ناديا الهلال وحي العرب المتجاوران فقط وجدت ملمحا من تلك التى اعرف، حين بلغت السينما بعد نادى حى العرب كدت اطلب من السائق التوقف كى اذهب الي سوق الطبالي حيث اشتريت في تلك المرة الأولي  فردة سواكنية انيقة للخطيبة آنذاك وهى زوجتى العزيزة، لمحت الأكشاك الصغيرة بضجيجها المحبب فكاد قلبي يقع بين أقدامى 
ذاك مكان أليف محبب للنفس ولعل من أقسي وأفظع قرارات الوالي الهمام ايلا هو ذلك القرار الذى حكم علي سوق الطبالي الفريد بالموت فيما بعد، ذلك سوق كان يمثل معلما وملمحا محببا لكل أهل الشرق وكل من يزور بورتسودان، كان زمانا جميلا
وكان سوق الطبالي قبلة الفقراء ومزار السواح من داخل البلاد وخارجها
كان غلافا أنيقا لمدينة كانت راسفة في فقرها في زمن ما...... المهم قاومت نفسي وواصلت حتى بلغت الميز الذى تم اعدامه هو الآخر لاحقا بواسطة جهات رأت في بيع بوابة من بوابات التاريخ انجازا ومكسبا ، في حين كان ذلك الميز الصغير قبالة الجامع الكبير في بورتسودان رئة من رئات التاريخ تتنفس تاريخا وتحكى تعاقب الاجيال من القضاة عليه، كان معلما من معالم القضائية في بورتسودان أغلي بكثير من النقود التى بيع بها في مقاييس عشاق الأمكنة مثلى وعنه سوف أكتب ، عن غرفه الخانقة وعن الحصي في حوشه وعن شجرته العريقة وعن قططه المخيفة وعن اشياء كثيرة أخري، في ذلك المكان كان أول سقف أويت اليه في بورتسودان....
كان لافتا للنظر ذلك الحصي مدبب الأطراف الذي يغطى حوش الميز كله ويجعل المشي حافيا أو بسفنجة عذابا لايطاق ولم اعرف حتى مبارحتى للميز وبورتسودان كلها السر في اختيار فرش الحوش بهذا الحصي القاسي الذي فيه ملامح من جبال البحر الأحمر الكبيرة،كان الميز يتكون من جزئيين : جزء صغير له باب صغير مطل علي مدرسة بورتسودان الثانوية المجاورة للميز وهذا الجزء يتكون من غرفة واحدة واسعة امامها فناء صغير وحمام خارجى تابع لها ، وفي هذه الغرفة كانت اقامتى بصحبة مولانا محمد ابراهيم احمد حسين الشهير بحجو قاضي الاستئناف الذى جاء منقولا في ذات توقيت نقلي ، في تلك الغرفة ومع ذلك الرجل البحر الواسع المعرفة الساخر الزاهد و ان بدا ساخطا دوما، كانت اقامتى القصيرة في الميز وهى ثلاثة أشهر انتقلت بعدها الي شقة جميلة علي بعد خطوات من الميز في عمارة بنك التضامن في الطابق الثانى حيث اقمت مع اسرتى كل فترة عملي ببورتسودان ، ومن الصدف الغريبة جدا أننا حين تقطع الكهرباء عن الميز والمدينة كنا نلاحظ ان تلك العمارة تكون مضئية لوجود مولد ضخم خاص ببنك التضامن يضئيها كلها، فنجلس في الظلام وابصارنا متعلقة بضوئها وكنت ادعو الله في سري ان يكون لى نصيب للسكن فيها أو في موقع مشابه ، وكان من لطف المولى بى وكرمه على ان جعل لى نصيبا  بالاقامة فيها والتمتع بمزاياها لمدة اربعة سنوات هى فترة اقامتى وعملى ببورتسودان. اما باقي الميز فكان عبارة عن ثلاث غرف داخل برندة مغلقة بالنملى والخشب وله باب  خاص بها وباب آخر يفتح علي السوق وتحديدا علي مبانى الجامع الكبير . في ذلك الجزء كان يقيم شباب القضاة حاتم قرنى وادم حاج الطاهر وبيتر اوبج  وابو القاسم (الشابي) ومحمد عبد الله ابو وكان هناك قاض جنوبي مهذب ورقيق آخر يدعي فيليب .
العم حمام خزنة الأسرار
كل التفاصيل الجميلة اتذكرها ، حتى ذلك الرجل الكبير في السن المقيم معنا بالميز، ذلك الرجل الخدوم الغامض ووجوده المؤثر وعلاقته بمجموعة الميز  ، كان اسمه العم حمام،و كان حمامة جريحة حنونة تعطى بسخاء برغم جرحها الذى طوت عليه قلبها، كان واضحا ان الرجل له قصة ما حزينة الفصول آثر الا يرويها لأحد ، رجل مرتب ومنظم وحسن المظهر وكل شئ عنده مثل بندول الساعة لايتخلف عن موقعه أو زمنه ، كان يقاسمنا الميز ولديه اوقات يختفي فيها ويغيب ثم يعود في ميعاده بلا تأخير وفي بعض الأحيان يأتى من يزوره وكان وجوده بالميز وهو لايعمل بالمصلحة القضائية مثيرا للتساؤلات لكنه كان وجودا متوارثا ومستمرا فبات مثل كل غرفة وحائط في الميز مبررا وعاديا ولكنه يظل مثيرا للفضول والأسئلة خصوصا انه كبير في سنه فقد تجاوز منتصف الستينات لكنه يبدو أصغر وأوفر شبابا، كان طباخا ماهرا جدا وله نفس خاص في كل شئ تلمسه يده وخاصة السمك وكانت بينه وبين حاتم قرنى ضابط الميز النشيط صلات خاصة موضوعها تدبير كل شئ يتعلق بوجبات الميز الشهية وتحليته كان رجلا لايمكن نسيانه، حاولت التقرب اليه كثيرا للوقوف علي قصة حياته وسره الغامض الظاهر للعيان لكن محاولاتى باءت بفشل ذريع ، فالرجل يتحدث في كل شئ الا عن نفسه...رحمه الله رحمة واسعة فقد عرفت فيما بعد بسنين عديدة انه رحل عن الفانية حاملا كل الاسئلة حوله وحول حياته معه الي هوة صمت أبدى ولكنه ظل ويظل رجلا جميلا احببناه بصدق.

قطط الميز

كانت الظاهرة الملفتة الاخري في الميز وربما في بورتسودان كلها هي ظاهرة القطط الكثيرة المنتشرة التي تتجول في المكان بحرية وغطرسة ولاتتهش ولاتتنش، مما يعمق الرهبة في النفوس تلك الرهبة التي تنبع من حكايات كثيرة تروي عن قطط بورتسودان وسواكن  فتجعل الدم يتجمد في العروق، اظن تلك القطط تعلم ا ن بنى البشر يخافون منها ويتحاشون ضربها أو الاقتراب منها أو محاولة ايذائها بأي شكل بسبب تلك الأساطير والحكايات التى يسمعونها وينسجونها عنها، ولهذا السبب فانك اذا نهرتها فلن تهتم بك بل تنظر في عينيك مباشرة وقد تتمطى في كسل فتجد نفسك انت الهارب من المكان، كان الميز يعج بالقطط وكانت أكثر من سكانه، تأتى من أمكنة مجهولة وتبقي ماشاء لها البقاء وتذهب وقت تشاء، ومن الصور المحفورة بذاكرتى مشهد الهرة التى أكلت بنيها ذات ليلة في الميز وذلك الصراخ الشبيه بصراخ طفل وليد الذي شق سكون الليل، تكرر الصراخ وتكررت أصوات أخري وبدت الأصوات المستغيثة أصواتا إنسانية تمزق نياط القلوب  ، وبقيت قابعا في غرفتى ولم اجروء علي الخروج لمشاهدة المنظر حين تصورته من خلال تحليل أحد الزملاء لما يجري خارجا حسب خبراته، وفي الصباح لم نجد أيا من القطط الصغيرة الوليدة في مكانها الذى كانت تحتله وكانت أمها التى ولدتها هنالك وظلت ساهرة عليها طيلة الفترة السابقةغير موجودة هى الأخرى، سألت عما جري ليلا، فعرفت ان هناك احتمالين: اما ان تكون قطط دخيلة قد أكلت الصغار بعد معركة مع الأم ، وإما ان تكون الأم نفسها هى الفاعلة، لم ابحث كثيرا عن حقيقة كل وجه محتمل لها هو وجه قبيح، وبات تناول الطعام صعبا لعدة ايام وانا اتخيل القطة الأم وهى تنهش بنيها، كانت القشعريرة تسري في كل جسدي ، فألوذ بالصمت.سألت نفسي والآخرين عن مدى صحة مقولة ان القطة تأكل بنيها فتعددت الاجابات وكثرت ، بعضهم يقول

أن القطة حينما ترى أن فرصة عيش أحد صغارها مستحيلة تقوم بأكله لكي تقوى على إرضاع باقي أطفالها لأنها تكون منهكة جداً بعد الولادة.. وهناك أقوال تقول أن القطة تعتقد أن هذا الصغير إن لم تأكله فسيقتلها عندما يكبر.. وهناك أقوال تقول أن القطة تأكل أول مولود لها وهو يكون أقواهم وأكثرهم حملاً للفيتامينات والعناصر المفيدة فتأكله القطة فتقوى على تربية باقي أولادها لذلك هناك مقولة تقول أن أول مولود للقطة إذا أخذته  فور ولادته وكبر فسيصبح قط قوي وكبير.  ويري البعض ان القطط لا تأكل صغارها ابدا ولكنها عند ولادتهم تبدأ الام بقطع الحبل السري للقطط المولودة باسنانها كما هو الحال عند الانسان فيتوهم البعض ان الام تأكل صغارها وهذا غير صحيح. عموما لازلت حائرا في هذا الصدد ولم اركن الي صحة أي اجابة ولم اتيقن من حقيقة ما حدث في الميز لكن الحقيقة المؤكدة ان صغار القطة اختفوا جميعا في الصباح التالي ولم يظهروا أبدا ولازال صراخهم الذي فيه شئ آدمى يرن في اذنى كما سمعته في تلك الليلة  ولازلت اتخيل القطط الصغار الجميلات في فك امهن أو في أفواه قطط ضالة شرسة انتزعتهن من حضن الأم في غيبتها أو حضورها وركضن بهن بعيدا لينهشن الاجساد الغضة..


Saturday, September 21, 2013

حدائق الذاكرة/ مشاهد صغيرة كبيرة/ صلاح الدين سر الختم على

وجه من قاع الذاكرة المتوهجة 
هل كانت تلك الفتاة تحبه؟ هل من الممكن حقاً ان يتحول الحب الخائب الي كراهية؟
هكذا لمعت الأسئلة في ذهنه حين فرغ من قراءة كتاب شيق في علم النفس، حين لمعت صورتها في ذاكرته بقوة، كانا يسكنا في ذات المدينة ولكن كل منهما ينتمي الي عالم مختلف، هي ابنة القصر المنيف وطبقة التجار المميزة في المدينة ، وهو ابن عامل بسيط ويسكن منزلا حكوميا ضغيرا في حي صغير، لم تكن جميلة، لكنها كانت مرموقة بفضل المظهر الذي صنعه الثراء وبريق اسرتها وصيتها في المدينة،لم يك ثمة مجال لالتقائهما لولا كتب الشعر وقصائد الشعراء وجنون الثورة والتغيير، كان يرتاد كل تجمع ثقافي في المدينة متأبطاً دوواين الشعر والروايات بخلاف ما يحفظه ويلقيه بصورة رائعة من شعر ممنوع، كان الزمان نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وكانت المدينة ودمدني، كانت الشوارع تتنفس شعرا وتمرداً، هي كانت مولعة بكل ذلك، كان الشعر بوابة المرور الي عالم السياسة بجنونه واحلام التغيير واحلام اقتفاء أثر الابطال الذين ترسمهم خيالات الرواة كأنهم قادمون من المريخ، ليس فيهم من قبحنا شئ، ليس فيهم من جبننا جبن، وليس فيهم من نواقص الإنسان شئ،لذلك كان يتجمل دون ان يشعر بذلك، كانت تحب زيارتهم وتحب الانفراد به برغم ان السبب المعلن للزيارات هو التواصل مع اخواته واستلاف الكتب وتبادلها، كان في المدينة في ذلك الزمن من يحتفلون بثورة اكتوبر بقراءة الشعر والاستماع اليه والي الغناء والاناشيد في دار صغيرة تدور فيها اقداح الشاي وتدور فيها الموسيقي من جهاز التسجيل وتلقي كلمات ، كان ذلك عالما صغيرا ضمهما، كان يشعر دوما انه تحت نظراتها وتحت اهتمامها أينما ذهب، وكان من عادات ذلك الزمن وشبابه الهروب من الالتزام الي ساحات الصداقة المبهمة عمدا، خاصة اذا كان الخط مشغولا قبلا أو كان الاهتمام موجودا لكنه أقل من اهتمام الآخر، لم يك نافرا منها، بل علي العكس كان يري فيها اشياء كثيرة تعجبه، لكن سقف اعجابه كان لايتخطي حدود الصداقة أبداً، لم يتخيلها يوماً حبيبة تدبج لها الرسائل برغم اعجابها بشعرها الطليق وعيونها الواسعة ونظراتها الباحثة عن شئ ما في عينيه، كان يتحاشي تلك النظرات دائما ولكنه كان لطيفا معها دائما في الوقت نفسه، ثمة اشياء كثيرة فيها تعجبه وثمة اشياء تشده الي عالمها ولكنها حين تقترب أكثر مما ينبغي يبتعد بلطف ولكن بشكل حازم، كان في اعماقه يعرف انها ليست له وانه ليس لها وانها مهما تكن لطيفة ليست هي التي خفق لها قلبه ،ظلا هكذا يلعبان لعبة توم اند جيري بطريقتهما الخاصة وظل يعرف كيف يحافظ علي تلك المساحة من المودة دون ان يتورط ودون ان يجرح شعورها بأي شكل من الأشكال،حتي كان يوم، كانت كعادتها في زيارتهم، قضت وقتا طويلا ، كان الشعر حاضرا والنكتة والضحك ، وحين غابت الشمس ونهضت لتذهب نهض كعادته ليوصلها، كانت المسافة قريبة بين البيوت ولكنهما اعتادا مواصلة حوار لم ينته بحجة التوصيل هذه،خرجا وكانت ثمة ضحكة علي الشفاه، مشيا علي مهل، كان الشارع خاليا، مدت يدها الصغيرة ولمست اصابعها كفه، سرت قشعريرة في كفه، سحبت يدها بسرعة ، عم صمت، بلع ريقه، دون ان يدري وجد يده تبحث عن يدها في الظلام ، تلاقت الاصابع المرتعشة، ضم كفها بقوة ، نظر في وجهها، كانت تنظر اليه عميقا في عينيه، ضمها اليه فجأة، احس بها قطعة من النار ترتعش، افلتها، قال كلاما لايعرفه، تمتم، همهمت هي، ساد صمت، واصلا المسير، كان صدرها يخفق بقوة ، كان محرجا ومتضايقا من نفسه، لم يقل شيئا ولم تقل شيئا حتي وصلت قرب دارها، اسرعت وغابت خلف الباب الذي اغلق خلفها. عاد هو كأنه يمشي علي الشوك، كان حانقا علي نفسه بشدة ...كيف سمح لنفسه بما فعل؟ ولماذا وانت تعرف انك لست حبيبها ولن تكون؟ هل بت وغدا من اوغاد المدينة؟ هل بت تتلاعب ببنات الناس وتستغل ضعفهن؟ ركل الحصي باقدامه وسار صامتا. حين التقيا بعد ذلك اليوم بعدة ايام، كان الهواء يعبث بشعرها، كانت بلوزتها البيضاء تهفهف وتكاد تشف عما تحتها، كان ثمة نظرة شقية في عينيها، لم تك غاضبة، لم تتحاشاه كما تصور، سلمت عليه بمودة اكبر مما كانت تفعل، كان خداها متوردان وعيونها تلتمع بشئ ما. وجد نفسه ينظر الي الأسفل ويتحاشاها، لكنه كلما رفع عينيه وجدها تبتسم. لم تنقطع عن المجئ ، لكنه ظل يتحاشي توصيلها، ظلت تبتسم. وحين حان فراق وقتي حين ولج الجامعة كانت تبتسم . وحين يعود في العطلات كانت تجئ كعادتها وظلا يليتقيان في مناسبات كثيرة، يتحدثان ويتبادلان الكتب ويقرا لها القصائد ويهديها بعض ماكتبه من شعر فطير، امتلك شجاعة توصيلها عدة مرات، كانت تسأله عن الجامعة واجوائها وبناتها .كان يرد بحذر من يمشي في حقل الغام. طفقت تحدثه عن صداقاتها الجديدة وتتحدث بشكل مثير للاهتمام عن صديق بعينه، كان يعرف بطريقة ما انها تبحث عن شئ ما، لكنه كان يلوذ بالصمت ويحرص علي عدم الافصاح عن مكنون نفسه. ثم أخذت تتغير بشكل لافت، تقابله، تسلم بفتور ، ثم تركز اهتمامها علي كل من حولها الا هو، لكنه كان يشعر ان ذلك كله موجه اليه هو دون سواه.ثم بات يسمع من الاصدقاء المشتركين كثيرا من كلامها السلبي عنه، حديثها عن غروره، عن عدم احترامه لمشاعر الغير، عن تنكره لصداقاته القديمة وعن تنصله عن قناعاته، كان كل ما يصله يفيده انها تعمل جهدها علي اغتياله معنويا، لكنه حين يلتقيها ينتابه الشك في صحة مانقل اليه، فقد كانت هي نفسها، ود متحفظ لكنه باق وظاهر، احترام ظاهر لايخلو من جفاء الغاضب من شئ ما..... تري هل كانت تحبه؟

بنت الفريق
تذكرت تلك التي كانت تعبر بفريقنا نهارا في كل يوم بزيها المدرسي الأنيق، في ذلك الزمان كانت زي بنات الثانوي العام فستانا بنيا غامقا أو فاتحا أيهما شاءت واكمامه قصيرة ( نصف كم) وتكون الأكمام بيضاء في وهناك كولا بيضاء دائرية تنسدل فوق الرقبة والصدر، الشعر يكون طليقا وفي الغالب يكون بتسريحة ذيل الحصان،اتذكر انها كانت تسرح شعرها آفرو فيعطيها ألقا خاصا مع لونها(الاخدر ) بلغة السودانيين وهو تعبير دقيق لان هناك مسافة لونية تقع في المنتصف بين اللون الأسمر والأسود هي مانسميه في السودان الاخدر والخدرة الدقاقة،كانت تمشي وحدها عائدة الي بيت اسرتها في حي المزاد ويتحتم عليها ان تعبر حي 114 (حينا) في طريق عودتها من المدرسة الواقعة بحي الدرجة، كنت امارس هجرة عكسية من حي المزاد حيث تقع مدرسة فريني العامة حيث ادرس الي حي 114 حيث نسكن، فنلتقي يوميا بلا ميعاد في نقطة التقاء دائمة نصلها في نفس الوقت هي طابونة مكرنجة في نهاية 114 وبداية المزاد، كنت انظر اليها بفضول واعجاب ، اما هي فلا تلقي بالا لذلك الصبي ابو تفة ووجه عريض الذي يرتدي زي الثانوي العام المكون من رداء كاكي وقميص مثله،كانت موضة تلك الايام هي الشعر الكثيف تأثرا بموضة الهيبز التي وفدت من بلاد الغرب ، كانت السبعينات تحتضر، وكان شعري كثيفا وكنت مفتونا بالشعر وبقصص الحب الرومانسية التي تعج بها قصص جرجي زيدان التاريخية وقصة ماجدولين واستيفن للمنفلوطي و اشعار نزار التي كانت متداولة سرا مثل الممنوعات لجرأة الطرح الذي تحتويه،حسبتها ماجدولين وظننتني متيما، تبسمت في وجهها فكشرت في وجهي، همست لها بكلمات اعجاب ساذجة وهربت من وجهها،في الايام التالية تناقصت شجاعتي بفعل ازدياد التكشيرة علي وجهها وتجنبها النظر ناحيتي، ثم حدث ما جعلني اترك لها الشارع طائعا لتهنأ به وحدها، مكره اخاكم لابطل، فقد نادتني اختي الكبري ولامتني علي كوني عاكست صديقة لها، استمعت مطرقا نحو الارض الي محاضرة طويلة عن السلوك الواجب اتباعه ، لم أقل شيئا، تركت لها الشارع تماما وغيرت مساري، وحين التقينا مرة بالصدفة نظرت في وجهي بجرأة وتبسمت، اسرعت لا ألوي علي شئ وغبت عن كل مكان تعبر فيه.... كانت ولاتزال تبتسم كلما رأتني وأطرق اطراقة المقر بذنبه الكبير....


فضفضة وحكايات من السيرة / صلاح الدين سر الختم على

بعض المدن مثل القهوة سوداء ومرة وساكنة من الخارج ولكنها جميلة نبيلة ومنعشة وصديقة من الداخل.....
وبعضها مثل الغانيات مزخرفة مبهرجة وجاذبة لكنها لاتدخل القلب أبدا... تشعر فيها بالإختناق والرغبة في الرحيل والركض بأسرع ما تستطيع....
أما الناس فهم عوالم متباينة وهم مثل الهواء ، كما يحمل الأوكسجين ، يحمل اكثر الميكروبات فتكا بالأنسان.... وقد ينعطف في اللحظة الأخيرة ويترفق بك ولايصيبك بالأذي قصداً أو عفواً.... وقد يترك الهواء الملوث كل شئ ويقصد هدفا محددا ويلتصق به ويمتص رحيق عافيته....
الناس بعضهم فيه جمال ونبل وصفات فريدة غير قابلة للتكرار
منهم من يكفي ان يحل بالمكان فترتسم الابتسامات علي الوجوه
يصبح الكل سعيدا ولطيفا وراغبا في الضحك والتبسم ولفت نظر
الشخص الفراشة
مثل هولاء في مدني مدينتنا كثر
منهم من قضي نحبه ومن ينتظر
أناس تتعلق البسمة بهاماتهم كما يتعلق القمر بالسماء
فحيث حلوا كانت البسمة
ومن الناس من تأتي معه المصائب والمتاعب والتوترات
أتذكر في مدني شخصيات كانت لاتحل بمكان الا وتحسس كل شخص عصاه أو غادر المكان...يزداد التوتر اذا كانت المناسبة حفلة عرس
فهولاء نذير شؤوم وجرس إنذار بمشاجرة جماعية قادمة
............... كان ذلك زمان....
في هذا الزمان
ظهرت صور جديدة
متسلقون كاللبلاب أنتشروا في كل مكان
اجادوا تقمص كل الادوار
وارتداء كل انواع الملابس والاكسسوار
والرقص علي كل نغم ولو كان المكان 
أطراف المقابر
هم قادرون علي التصفيق والهتاف والبكاء
والتهليل والغناء في وقت واحد
يجيدون تسديد الطعنات بلا شعور بالذنب
وينافسون العقارب في القدرة الفائقة علي اللدغ دون الظهور علي الخشبة
ويفوقون الحرباء في القدرة علي التلون
وهم
لايبكون
ولايندمون
ولا يشعرون بالندم
ولايعافون الجيفة
ولايجدون مشكلة في قضاء الحاجة في ذات الطبق الذي قدم لهم فيه الطعام.....
وهم
لايبالون
ولايهمهم علي جسد من يدقون المسامير ويمشون!!!!!!




مسرحية البشارة

اتذكر الان فجأة وبلا مقدمات أياما رائعة في مدرسة السني الثانوية الاعوام1980/1981/1982
وبالتحديد اتذكر مسرحية البشارة التي فازت مدرستنا بها بالجائزة الذهبية في الدورة المدرسية علي نطاق محافظة الجزيرة ثم علي نطاق السودان في منافسات الدورة المدرسية القومية بالابيض في نهاية عام 1981 ، المسرحية من تأليف الشاعر الاستاذ محمد محي الدين والاخراج للاستاذ الفاضل / بشير عبد الرحيم الشهير ب زمبة استاذ الفنون بالمدرسة والمسؤول عن الجانب الثقافي ونجاحات عديدة للمدرسة فيه في دورات متتابعات، مسرحية البشارة كانت بطولتها لمجموعة من زملائنا بالمدرسة علي رأسهم الاخ حاتم الذي صار تلميذا بمعهد الموسيقي فيما بعد قسم المسرح وصار مخرجا بالاذاعة والتلفزيون
وكان طالبا داخليا، وكان من نجوم المسرحية الاخ الصديق قيس حيدر الكاشف وهو قاض الان ،كان دور قيس هو فاكهة المسرحية، وكان هناك الاخ معتصم بيضاب ايضا كان له دور لاينسي وهناك آخرون سقطوا من الذاكرة، المسرحية كانت تصور صراعا يدور بين الخير والشر في قرية سودانية، كانت عملا ممتعا جمع بين قوة الموضوع وطرافة الطرح وروح المرح فيه والتشويق الشديد والديكوروالاكسسوار الذي اشتغل عليه الشهيد طه يوسف عبيد الذي كان رساما متمكنا استطاع ترجمة افكار المؤلف والمخرج الي لوحات لعبت دورا مهما في توصيل الافكار ونجاح المسرحية، وقد لايعرف الكثيرون هذه الصلة بين الشهيد طه يوسف عبيد الذي استشهد بعد عودته مع بعثة الجزيرة ظافرا بميدالية المسرح الذهبية مع مجموعة مسرحية البشارة واستشهد طه بعد اقل من اسبوع من ذلك فصدح محمد محي الدين بقصيدته الرائعة عشر لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر مصورا فيها استشهاد الفتي وحالة الوطن المحكوم بالبندقية والهراوات آنذاك، مسرحية البشارة نفسها لم تخل من مضامين سياسية تحرض علي الثورة وتنادي بالتغيير وقد بقيت في ذاكرة ذلك الجيل بصمة ثقافية لاتنسي تجسد عبقرية الشباب السوداني الذي ارادت سلطة مايو ان تلهيه بالدورات المدرسية عن قضايا الوطن فجعل من تلك الدورات تظاهرات ثقافية ووطنية كبيرة وخالدة.
ومضة إشراق

لازلت أحن الي تلك الايام البرئية، لازلت أذكر كيف تعلق قلبي بها رغم فارق السنين ، لازلت أذكر تألق عينيها الواسعتين وهي تحكي لى عن خيبتها في الحب وأنا عاجز عن الحكي لها عن تعلقي بها،لكننى كنت أعرف بطريقة ما أنها تعرف أن قلبى الصغير متعلق بها، كنت في الثانوى العام وكانت في العالي،بضع أعوام دراسية تفصل بىننا ولكن قلبى اجتاز المسافة وقفز فوق الفارق مثل لص مطارد قفز سورا طوله متران بلا أدني تردد...لازلت أذكر أسم من أوجع قلبها فقد أوجع قلبي الصغير أكثر حين أوجع قلبها....
لازال قلبى يدق حين تلمع صورتها في الذاكرة.....
بنت الدباغة التي غسلت قلبى ودبغته وختمت عليه بخاتمها.


كلب ضال وعذاب المصل

ذات صباح كنت فجرا عند موقف البصات القديم بالسوق الجديد مبتغيا اللحاق بمحاضرة الصباح الأولي بمدرج حسين فهمي بالجامعة بالخرطوم كما هي العادة
كان لمواصلات الجزيرة في ذلك الزمن بص يغادر مدني فجرا ليلحق الطلاب والموظفين من ابناء مدني الذين يأتوا لقضاء الخميس والجمعة مع ذويهم بمحاضراتهم واعمالهم، لحقت بالبص وقطعت تذكرتي واخترت موقعا مميزا عند ست الشاى الجالسة في المسافة بين مكاتب مواصلات الجزيرة بشعارها البرتقالي بالابيضومكتب المؤسسة الوطنية بشعارها الرمادي وكانت تعيش ايامها الاخيرة في تلك الايام بعد طول زهوة وسيطرة ومكانة رفيعة قضت بها علي بصات الركبي والثقة
النيسانات التي تراجع روادها بعد ظهور بصات المؤسسة، المهم شربت الشاي وباللقيمات ونهضت متجها الي البص ، وطأت أقدامي كلبا شبه ضال كان نائما تحت البص دون أن اراه فكان نصيبي عضة قلبت برنامجي رأسا علي عقب، حيث توجهت فور وصولي الخرطوم الي مركز صحي الضو حجوج بدلا عن المدرج وبدأت رحلة موجعة مع واحد وعشرين حقنة تحتم علي أخذها كاملة لانه لم يكن ميسورا لي ان اعرف اذا كان الكلب مات أم لا، فهو مجرد كلب ضال...كنت انوم واصحو خائفا من ان انبح ذات يوم، وخائفا من احتمال اضطراري لاعادة الحقن كلها اذا تخلفت عن واحدة. كانت تجربة قاسية حقا.
القطر يمشي في الاستاد
من الشخصيات الجميلة في مدني والتي تشكل حكاية جديرة بالتوقف عندها شخصية القطر المذيع الداخلي لاستاد مدني، ذلك الرجل البسيط الذكي الموهوب الذي استطاع ان يصنع من مساحة صغيرة هي المساحة التي تتيحها الاذاعة الداخلية كونا كبيرا وألقا دائماً، أسمع صوته القوي وهو يجول في مدني للترويج لمباريات الدوري مطلقا القابه الفريدة علي كل فريق من فرق مدني ( الرومان...الاتحاد .... كانون الجزيرة النهضة...سيد الاتيام...ارجنتينا يا اهلينا.. الكوماندوز الدفاع....جزيرة فيل.....الافيال...)
ثم يصدح بالالقاب الخاصة باللاعبين: الغزال الشارد عثمان الله جابو....صخرة الدفاع قاسم سنطة.......................
القطر خلق حيوية لاحدود لها في المجتمع الرياضي ومنح مهنة المذيع الداخلي بريقا لم تعرفه قبله......
والطريف ان القطر من انصار النيل الجميل لكن ذلك لايظهر ابدا في نشاطه المهني
فهو واجهة لجميع الفرق ويقدمها في تعليقاته ودعايته جميعا بشكل منصف يرضي انصارها....
هو مبدع من مدني
حكايةالرجل العنكبوتى
في مدني لكل شئ طعم مختلف ونكهة خاصة
اتذكر الان ذلك الرجل صاحب الاسم المخيف (......) الذي ارتبط بالاتجار بالبنقو في مدني
احتل حيا كاملا ، كان جزءا منه وحاكما متوجا عليه، كان حيا يتكون من فقراء يشكون الي طوب الارض قلة تعليمهم وقلة حيلتهم وهوانهم علي الناس الذين ينفرون منهم ويسمونهم بوصف يعني ضمن ما يعني حكما ابديا بالعزلة الاجتماعية
لم نر من بينهم لاعبا نابها أو مطربا صاعدا أو تاجرا يشار اليه بالبنان، ولم نر من أولادهم من رافقنا في سنين الدراسة مع ان المدارس كانت علي مرمي حجر منهم، لم نسمع بزواج لهم ولم نسمع بمن تزوج منهم ، كانوا دائرة مغلقة تماما علي نفسها، حتي أصولهم غامضة فلايعرف لهم مثل بقية أهل المدينة أصل جغرافي أو عرقي وفدوا منه، كأن الارض إنشقت عنهم بغتة أو هبطوا من السماء، فلاهم ينتمون الي قبائل الشمال المعروفة ولاهم ينتمون الي الغرب ببطونه وقبائله الكثيرة ولاهم ينتمون الي البطانة أو الجزيرة بأصولها الكثيرة، ولاهم منتسبون الي الجزيرة العربية مثل بعض القبائل، لكنهم موجودون بالمدينة والوطن كله منذ فتحنا عيوننا، لكن الفقر اختارهم ووسمهم بميسمه وحكم عليهم بمهن شاقة تتطلب جهدا عضليا وشقاءا دائما وكلها مرتبطة بالحديد، يرسفون في اعلال من الحديد بسب الفقر والجهل المتفشي والعزلة الاجتماعية ويطوعون الحديد لاجل غيرهم نظير دراهم معدودة وثمن بخس، ربما يكون صاحبنا هو الوحيد الذي لمع من بينهم وسطع هذا السطوع في تجارة غير مشروعة، كنا اطفالا صغارا نتلمس الطريق الي المدارس خائفين حين سمغنا بمصطلحات تنتمي الي ذلك العالم مثل كلمة( الخانة) وكبرنا ونحن نسمع بقصص الرجل العنكبوتي الذي يدير شبكة تشمل كل متسول في المدينة ومتسولة ويغازل بعض رجال الشرطة الفاسدين بامواله فتكون اخباريات المداهمة عنده قبل اكتمال اتخاذ القرار فيعد عدته ويقف ساخرا من التفتيش الذي لن يسفر الا عن الخيبة، كبرت الاسطورة، وكثرت محاولات تحطيمها، وبات للرجل هالة تصنع منه زعيما محليا لمافيا لاتقتل ولاتسرق ولاترعب أحدا لكنها تدير تجارتها السوداء رغم انف الحكومة وتحيل كل مخبر الي مخبر مضاد، وراجت حكايات كثيرة تنسب للرجل نشاطا خيريا واسعا وسط أهله المنعزلين المعزولين ،وكانت تلك السيرة تجد مصداقية لها كلما قدم الرجل لمحاكمة، كانت جيوش من النساء البائسات يتجمهرن حاملات اطفالا ناحلين يبدون كالاشباح في صدورهن النحيلة، لكنهن يظلن يتابعن الجلسات يوما بعد يوم حتي تنتهي ، وكانت معظمها محاكمات طاش فيها سهم الحكومة وشرطتها وخرج الرجل ببراءة عززت أسطورته وأشاعت اليأس من امكانية النيل منه، لكن لكل أول آخر، وقعت الواقعة وضبط العنكبوتي بالثابتة، وذات صباح علق علي اعواد المشنقة في سجن مدني الكبير الذي خرج منه ظافرا مرات عديدة، خرج الرجل جثة هامدة بعد تنفيذ حكم الأعدام وانهارت امبراطورية الفقراء ولايعرف أحد من صار راس خيطهم بعده وماذا جري لاولئك النسوة التاعسات.
الرواكيب الصغيرة

كان ذلك المكان مكاناً خاصاًفي طبيعته، كنت مفتونا به برغم أن الوقت الذي كنت أقضيه فيه كان دقائق وثوان عابرة فقط، لكنني كنت اتوقف دوما عند أشياء صغيرة تثير في ذهني وعقلي الطفل أسئلة كثيرة وكبيرة، كان المكان مجموعة من الرواكيب الصغيرة المصنوعة من الحطب والشوالات والبروش، كانت تلك الرواكيب تحتل ركنا قصيا في قلب مدينة ودمدني في حي الموظفين في مساحة تقع كنقطة فاصلة بين موقف الحافلات وحي الموظفين بالقرب من مباني الجوازات وأقرب الي ميز الاطباء الواقع غرب موقف الحافلات الرئيسي في سوق مدني، في تلك الرواكيب الهيمنة لنساء بعضهن شابات نسبيا وبعضهن كبيرات في السن أمتهنٌ تجارة تقليدية وهي تجارة تؤمن احتياجات النساء من الطلح والشاف والبروش والنطع والحنة والمحلبية والبخور بانواعه والمباخر والمناقد والفنادك وعدة القهوة من شرقرات(جمع شرقرق) وقدايات (جمع قداية)وفناجين واواني الجبنة نفسها المصنوعة من الألمونيوم والصفيح والفخار بما في القلايات و والجبنة نفسها والليف وغيره، وهناك روائح وعطور سودانية تصنعها النسوة باقتدار بما في ذلك الدلكة والخمرة وغير ذلك، الي جانب ذلك هناك السمن البلدي والعسل وكثير من الادوية البلدية مثل القرض والحرجل والمحريب ، وهناك القفف والهبابات وعدة الجرتق كلها وحتي هلال العريس وود الطهور المصنوع من النحاس، المهم كان سوقا فريدا عامرا بزائراته من النسوة وتاجراته ، ولم يكن يخل من العنصر الرجالي، فقد كان هناك رجال يعملون في ذلك السوق في مهمة تكسير الحطب الذي كان جزءا من بضائع السوق ويقومون بتكسير الطلح والشاف أيضا، لذلك ربطتهم بالمكان وتاجراته صلات قوية وغريبة، اتذكر احدهم كان رجلا ضخما طويلا اسنانه بارزة مصفرة وفيه شئ من التخلف، اذا ضحك اهتز المكان وارتجف من لم يسمع ضحكته من قبل، كان طفلا اذا تحدث، طيب القلب ساذجا الي حد بعيد،كان صورة مجسمة للزين كما أورده الطيب صالح في عرسه، الاخر كان قصيرا ومتحدثا لبقا وشخصية قوية آمرة، لكنهما في العمل متساويان، وفي اللقمة بعد يوم عمل طويل واثنائه شريكان دائمان، واتذكر انني شاركتهما ذات مرة الطعام الذي كان لقمة بملاح ساحن اظنه كان ملاح شرموط، كنت أجئ الي ذلك السوق مع جدتي التي كانت تزود السوق بانتاجها فقد كانت ماهرة في صناعة القفف والبروش والمصالي الصغيرة والهبابات والبروش الملونة من السعف، وكانت تشتري حاجياتها من السوق نفسه وعلي رأسها السمن البلدي. كنت أرافقها في رحلتها تلك وانتهز فرصة انشغالها بالمساومة حول ما تريد بيعه وما تريد شرائه، فاتجول في كل ركن في السوق العجيب متابعا وراصدا ومنبهرا بكل شئ....كان ذلك السوق علامة من علامات عظمة شعب السودان في ذلك الزمان، كان سوقا عفيفا لاناس عفيفين منتجين مبدعين لا يعرف الرياء اليهم سبيلا، يأكلون حلالا ويقدسون العمل ويحترمون من يعمل، ولايركضون خلف المال الحرام والكسب السريع المشبوه، كان السوق يعكس احترام المجتمع للمرأة ومكانتها فيه، فقد كانت منتجة عاملة لاتلاحقها الكشات والتهم الباطلة وسوء الظن أينما ذهبت....
نفس ذلك السوق شهدته في الابيض في سوق ابو جهل وهو سوق نسائي بحت
ونفس ذلك السوق شهدته في مليط في دارفور قبل الحرب
وشهدته في الفاشر ايضا 
وجه غاب في الزحام
(اليك في غيابك أعيد كتابة انبهاري)

مازلت اسيرا للدهشة في حضرة هذي الروح الشفيفة
التي تخترق روحي بقوة كالنسيم
كالشهقة
والزفير
أراك بخيالي كائنا من نور نبتت له أجنحة
لكنه لايطير
بل يصلي في خشوع
وكلما أطال السجود
بكي
فانفجرت الانهار والعيون

قبل خمسة عشر عاما
عرفت في مدينة ما فتاة صغيرةلم تبلغ العشرين
لكنها هائمة في ملكوت الشعر
رقيقة كفراشة
شفيفة كالبلور
خفيضة الصوت كأنها تخشي ان تجرح النسيم
تكتب شعرا يجندل من يقرأه ويشعره بالضآلة
كانت مفتونة بكتابات خجولة كنت اكتبها
ولم تدرك انني بت مفتونا بكل حرف خطته يدها
كانت أنثي فريدة في كل شئ
خفت من رقتها عليها
ومن دموعها الكثيرة التي لم أرها بعيني ولكنني سمعتها في صوتها في هاتف كان رسولا بيننا 
وخفت من أعجابي بما تكتب
وبما هي عليه من صدق في الكتابة
صدق يجعلك تخاف عليها مما هي عليه في زمن فظ
فرقتنا الدنيا
لكنها بقيت بداخلي بصوتها الخفيض وعقلها الكبير
وروحها الشفيفة
في حضرة أحرفك
انبعثت صورتها من مرقدها
تمنيت لو انك التقيتيها.......
لم أقو علي السؤال عنها أبدا
فثمة شئ ما 
يخيفني من السؤال!!!

ذكريات
كنا صغارا جدا، ولجنا الثانوي العام للتو بمدرسة فريني الثانوية العامة بحي المزاد حين اكتشفنا فجأة اننا مهمشون ومهملون ومفتري علينا من اخوتنا الكبار في حي 114 الشهير بالكمبو وبالأخص لاعبي فريق المشعل الذي كان آنذاك ممثل الحي الوحيد في الرابطة الجنوبية للناشئين التي كانت تضم فرق تنتمي الي احياء الحلة الجديدة والكمبو والمزاد وهي الرابطة التي زودت مدني وفرقها بابرز النجوم، كان فريق المشعل مكتظا بنجوم مميزين منهم احمد حربة ومحمد كورة واليسع حاج بليل وعثمان حاج بليل والمرحوم حسن شوة وعلي مرغني وازهري وحسن علوب وبهاء الدين رومينغا وآخرين، لم يك هناك متسع لنا معهم حتي في تمارين الفريق التي كان يحضرها اهل الحي كلهم فكان نصيبنا جمع الكرات فقط أو البقاء احتياطيا لاتمام النقص في التمرين، كنا نتوق للعب ونشعر ان لدينا ما نقدمه وكان من الصعب ان نقتحم تشكيلة المشعل قريبا، فقررنا تكوين فريق جديد سميناه المجد ووجدنا مساعدة من اداريين سابقين بالمشعل منهم ازهري حبيب نسي وصلاح حسن اضافة لمجهودات اول رئيس للفريق الفاتح عبد الوهاب عبد الحفيظ واول سكرتير الاخ فهمي حسن صالح، ذهبنا الي استوديو الحرية بالسوق الجديد وتصورنا وجمعنا الصور وذهبنا الي مكتب الناشئين بمركز الشباب بود ازرق حيث اكملنا اجراءات تسجيل المجد واجتمعنا ثانية في خور يشق حي 114 قبالة منزل ناس صلاح التوم وعماد التوم ابرز مهاجمي المجد فيما بعد وقررنا ان يكون الشعار اللون الاحمر بالازرق وجمعنا نقودا قليلة واشترينا ست فنايل مصرية بها مثلث في اسفل العنق من الاكشاك الواقعة بالسوق الكبير خلف مكتبة مضوي وبذلك الست كان ظهورنا الاول في الرابطة الجنوبية، كان ظهورا مبهرا حيث توالت انتصارات فريق المجد( الاولاد الصغار الذين تمردوا علي الدكة وفاتوا الكبار) وكان نصيب المشعل هزيمة نكراء برباعية منا في أول مواجهة في دوري الرابطة جعلت لقاءاتنا اللاحقة ديربي نار ينتظره الجميع، كان يقف خلف انجازات المجد مدرب مميز هو الراحل صلاح الشاذلي حارس اهلي مدني السابق واحد ابناء منطقة نوري الذين استقروا بالكمبو مع ناس خالته عليها الرحمة حاجة زكية والدة محمد عبد الغني محمد توم واخوته عبد العظيم وبكري، كان صلاح الشاذلي تلميذا نجيبا للكوتش سعد الطيب فنقل الي المجد اسلوب لعب الاهلي وطريقة الاهلي الجميلة في تناقل الكرة برشاقة الي ما لانهاية ففتن الناس بالمجد ولقبوه ببرازيل الرابطة الجنوبية، وكان من نجوم المجد الحارس ناجي حسن محمد صالح الذي بات حارس الاهلي فيما بعد وشهرته تشتش وشخصي الضعيف ايضا في حراسة المرمي ولعبت فيما بعد بفريق الثوار وهناك لاعب الوسط الرهيب محجوب كرفون الذي لعب فيما بعد للنهضة وهناك احمودي لاعب الوسط المدافع الذي لعب بالثوار ثم النيل، وهناك صلاح التوم وصلاح قيلي نجما التضامن والمرحوم عمر الجون في الحراسة ومحم زامبيا المهاجم الذي لعب بالرابطة والمهاجم بدر ترة مهاجم الاتحاد مدني الشهير وهناك المدافع ضياءالدين شجر الذي لعب بالاصلاح وعادل الثعلب الذي اصبح صخرة دفاع الاتحاد مدني
وكذلك المرحوم حسون نجم الاتحاد مدني فيما بعد وشقيقه عبد ربو والمرحوم بشير الطاهر ، كانت فرقة المجد اضافة حقيقية للرابطة الجنوبية حتي انه تصدر البطولة ومثل الرابطة في بطولة الروابط وكانت له صولات وجولات، وعلي نطاق الحي تحول التنافس الحاد مع المشعل الي محبة متبادلة واحتل الفريقان نادي الحي وتقاسماه وبات النادي شعلة من النشاط الذي يرجع الفضل فيه الي شباب الفريقين ،كانت فرق الرابطة الجنوبية كلها مميزة فهناك فريق شباب المزاد والوادي المتجاوران اللذان يضمان ابناء المزاد المتاخم للحلة الجديدة وهناك فريق نجوم المزاد ومقره منطقة نادي الدفاع وهو مصنع نجوم كبيرة منها سقد والنقر وبدر حديدة وعلم والشاعر وهناك الطلائع ومقره المزاد القديم جوار مدرسة الهوارة وهناك فريق قلب الاسد الذي تخرج منه هجو وجمال نجما الاهلي مدني وهو فريق الحلة الجديدة الوحيد حتي بروز فريق السهم الذهبي الذي اسسه النور الفلاتي ذلك الرجل المحب لكرة القدم والذي كان له دور كبير في ترقية الرياضة بمدني فذلك الفريق ابرز نجوما كبيرة منها الفاضل جبريل الشهير بالفاضل ودعة او كرشو نجم الاتحاد مدني وسبب تسميته الفاضل ودعة انه كان يلعب بجزمة بيضاء من البلاستيك اشتهرت بانها ودعة لانها تشبه الودع فعلا والفاضل رجل محترم ومحبوب اينما حل شهد الناس له بطيب المعشر وانه فلتة كروية وكذلك برز الفلتة جهاد الطاهر نجم الدفاع في فريق السهم الذهبي وهناك فريق ابناء كوري ايضا وهو فريق منطقة من مناطق الشايقية بمحلية مروي. كان دوري الروابط منجما حقيقا للنجوم واتذكر من النجوم الذين لعبنا ضدهم كابتن منتصر الزاكي والمرحوم منير استيف وفيصل بوكش الذين كانوا يلعبون في فريقي الامل والجهاد بدردق وبيننا وبينهم مواجهات دائمة وكذلك جمعة نجم النيل مدني الذي كان يلعب للثغر شندي فوق وهناك ناس نجوم جبرونا وفريق اخر كان بود ازرق يسمي البحيرية ونجوم بانت وفريق الجيل السكة حديد
....كان زمنا باهيا زاهيا، انتقلنا منه الي دوري الثالثة في مدني وكان دوري مولع نار وله جمهوره الخاص الذي لايغشي دوري الاضواء ابدا مكتفيا بنجوم الشمس الحارة، وهو جمهور طريف جدا وصاحب نكتة، لعبت في الثوار بصحبة طارق تكل وفقيري وحجزي ونورالدين عبد المجيد وكابتن حيدر حامد وحسن الطيب وحسن ضرس وعادل عثمان وابوعبيدة محمد محمود وعمر عباس الشهير بتليس واحمودي زميلي في فريق المجد 114 ويحي المهاجم اللعاب والمرحوم محمد خير الجناج الايسر المزعج للخصوم ولعب معنا عماد عبد العزيز العمدة بعد عودته من المريخ وتولي تدريب الفريق كل من المرحوم ابوليلي والمرحوم مجد الدين سنهوري وفوزي الطيب . ساهمت في صعود الفريق الي الثانية وتوقفت عن اللعب عند ولوج الجامعة عام 1983. ولازالت تربطني علاقات طيبة باهل فريق الثوار وهم اسرة جميلة مترابطة.
حين غنى وردى ومحمد الأمين في حفلة عرس

كان زواج العازف عبد الرحمن عبدالله من الاستاذة عائشة حسين شقيقة دفعتنا وصديقنا خالد حسين بحي الدرجة جوار مدرسة الليثي بنات حدثا فريدا لن تنساه ذاكرة المدينة ابدا، فالعريس كان عازفا كبيرا ومهما باوركسترا الاذاعة وهو ضمن عازفي وردي ومحمد الأمين وكان له نشاط سياسي جعله يعاني الاعتقال لفترات طويلة ، كان ذلك في عهد النميري ، وكانت العروس مضطرة للانتظار فيما يبدو، وحين خرج الرجل وقررا الزواج، كان ذلك الزواج حدثا احتشد فيه الناس من كل مكان، واحتشد الفنانين والعازفين احتشادا غير مسبوق احتفاء بالعريس، كانت ليلة العرس مظاهرة ثقافية صاخبة، كان الحدث الأكبر الذي احتل ذاكرتي وذاكرة المدينة حين صعد العملاقان محمد وردي ومحمد الأمين وصدحا لأول مرة سويا برائعة وردي نور العين ، بللت الدموع العيون وصوت محمد الأمين الغليظ القوي يجاور صوت وردي صادحا بنور العين ملبسا اياها زيا جديدا لم يألفه الناس، وردي نفسه غناها كأنه يغنيها أول مرة، أما الناس فكانوا يستمعون في خشوع من يؤدي صلاة، كانت ليلة لاتنسي أبداً.

Friday, September 20, 2013

هذه المرأة البستان / سيرة / صلاح الدين سر الختم على

أن تكتب عن شخص تعيش معه حياتك كلها ما كان موجودا فيه منها وما كان غائباعنه ، هذا شئ صعب، صعب جدا أن يكتب الرجل عن زوجته وأن تكتب المرأة عن زوجها، فتلك علاقة الأضل فيها ان تعاش ولاتروي وأن يسدل عليها ستار من الخصوصية يجعل الحديث عنها يبلغ درجة المحرمات أحيانا
ولكن الحياة جميلة يا أصدقائي والجمال فيها مشاع ومشاركته مع الاخرين يكون واجبا حينا
دون مقدمة طويلة اكتب عنها
في الجامعة التقينا
وفي الجامعة هفا قلبي
وهاتف قلبها
وبقيت الخطوط مشتعلة  عمرا
كانت زمالة
أرتقت الي صداقة
فعلاقة
ثم خطوبة
ثم زواج
ثم حياة حلوة
أسأل الله ان تمتد
والا تشوبها شائبة،
محطات كثيرة مشيناها
ومشاوير جميلة
وحوارات طويلة
وخبرات كثيرة في الحياة
قاتلنا سويا
وفرحنا سويا وبكينا سويا
وضحكنا سويا
وعرينا خبايا الف فكرة
عرفنا ذات الاصدقاء تقريبا
وكرهنا ذات الاشياء غالبا
واختلفنا في النفور من بعض الاشياء
وفي الانبهار ببعض الاشياء والناس
كنت دوما العاطفي المنفعل والمتحمس
وكانت دوما العقل الذي يخفي تحت هدوئه اكثر القلوب قدرة علي المحبة وقدرة علي الغفران
وبصيرة ثاقبة تستطيع رؤية ما تحت الاقنعة برادار خاص لايخطئ الا نادرا
عرفتها دوما منصفة في حكمها علي الناس وما سمعتها 
تتحدث عن سلبيات شخص الا وأردفتها بحديث عن محاسنه التي تعرف
وكم تراجعت عن حكمها علي شخص حين لامست جوهره عن قرب
بالرغم من الانطباع الأول السلبي
فالانطباع لايؤثر علي حكمها العادل بحق الاخرين
فهي دوما متسامحة ودوما قادرة علي التراجع عن أي موقف يتبين لها أنه خاطئ
وهي دوما تنظر للناس من جانبهم المضئ ولاتعمي عن سلبياتهم لكنها تشجع فيهم الجانب الايجابي وتتغاضي عمدا عن السلبي
ولاتحب الاراء المثبطة للهمم ولاتحب النماذج السلبية من البشر
اولئك الساخطون دوما
بل تبحث دوما عن تفاؤل يسبقه ويتبعه عمل مهما كان تافها
وهي تحب قصص النجاح
ولاتفقد الأمل حتي في نجاح نبتة في الحجر
ستحمل الماء اليها كل صباح وتنتظر زهورها التي ستتفتح بلا كلل ولاملل
وهي لاتحب التباهي
ولا المتباهين
ولكنها لاتحب القانعين بالبقاء في الحفر
وتتعلم من كل شخص يصادفها في الحياة
وأتذكر جيدا كيف خبرتني بحجم المعارف التي جنتها من تلك الفتاة الدارفورية الفقيرة القوية في الفاشر التي عملت معها في المنزل
كيف كانت مبهورة بقدراتها الفريدة في صنع الحياة 
كانت تلك الفتاة تقطع حوالي ستة او عشرة كيلو يوميا مشيا علي الاقدام من والي قريتها القريبة من الفاشر يوميا
تقضي سحابة نهارها تعمل في اعمال البيت
ووجدت وقتا لتزرع في فناء البيت خضارا وبطيخا وعلمتها كيف تزرع وكيف تتابع زرعها وعلمتها فنونا في التدبير المنزلي فكانت تجعل من كل شئ شيئا له قيمة حتي فضلات الطعام كانت توظفها لتربية الدجاج ومنها تعلمت فنو ن طبخ محلي لم تكن تعرفه
كانت معجبة بجوهر تلك المرأة التي كانت تكافح وتنافح وتمارس حياتها الزوجية وأمومتها فيما تبقي من يوم الكفاح الطويل
كانت بينها وبينها صداقة ومحبة قلما توجد بين أناس تفرقهم اشياء كثيرة لكن الانساني فيها وحبها للعمل والطموح في البشر جعل تلك الفتاة الفقيرة المكافحة أرفع منزلة عندها من كثير ممن عرفت في حياتها من المثقفات الراطنات
 بلا عمل

وكان ذلك الاعجاب يعجبني
 ومنه تعلمت 
الكثير
 وهكذا هي كانت دوما قادرة علي بناء علاقة انسانية صافية ودائمة ومباشرة لازيف فيها
في كل مكان قادتنا ظروف العمل اليه
كنت أحسدها دوما علي تلك القدرة الكامنة فيها تلك القدرة علي كسب الحب والاحترام والاصدقاء من كل طبقات المجتمع
كنت أري صداقاتي القديمة يحول بيني وبينها الترحال وارأني عاجزا عن انبات اجنحة جديدة  وأراها في كل مكان زرعت شجرة صداقة ظليلة وكسبت قلوبا وأراني مشمولا بحظها من المحبة وأري خيلها تجقلب والشكر لي
سكنا في مدني سويا في اول ايام زواجنا
فبدت مدني مع اجلال غير مدني التي أعرف
كسبت معها اصدقاء جدد ودخلت معها عوالم كانت تحت مرمي بصري ولم أراها الا معها
زادت قائمة اصدقائي
وزادت قدرتي علي التواصل وري شجرة الصداقة معها
كانت أمي امام عيني طوال عمري
وبعيون اجلال رأيتها من جديد
رأيت فيها كل ما اعجب اجلال
كأنني اراها للمرة الأولي
كانت مبهورة بصدق بلباقة أمي ودبلوماسيتها التي لاتخطئها العين في التعامل مع الناس
كانت مبهورة بطموحها وحبها للسمح علي حد قولها
كم مرة قالت لي أمك مدرسة بكل فصولها واساتذتها
وكانت تتعلم منها في كل صباح ومناسبة تضمهما جديدا
طريقتها في الطبخ
ووجباتها المفضلة
وتحفظ عباراتها الملازمة لها
ومقولاتها الأثيرة
وكانت دوما مبهورة بطلاقة لسانها وذلك الكلام المسجوع الذي ترصه رصا
حتي انها بعد رحيل أمي بسنوات كانت تذكرني بوقائع وكلمات لم اكن انا نفسي اذكرها
كانت صادقة في محبتها لأمي
وبقدر محبتي لأمي احببتها وأكبرت فيها ذلك التقدير وذلك الوفاء وتلك القدرة علي الانصاف


ورافقتني ستة سنوات في دارفور الحبيبة
عشنا في مليط الصغيرة التي كانت آمنة مطمئنة
فباتت اجلال صديقة للكل
وخرجنا من مليط بعلاقات امتدت  حتي يومنا هذا في حياتنا وكان لقدرتها الكبيرة الفريدة في بناء العلاقات واحتلال القلوب اثرا كبيرا في ذلك
وفي الفاشر كان بيتنا قبلة للجميع
وكانت صديقة الجميع
نساء عاملات ونساء بيتيات
نساء جارات بسيطات
ونساء مثقفات راطنات باللغات
ونساء مقيمات بالمعسكرات
كلهن تعلقت بهن وتعلقن بها وظل الهاتف الصغير متواصلا معهن ونحن نتنقل في المدن
الخرطوم 
بورسودان القدار
كريمة 
مروي
ظلت العلاقات مستمرة والمحبة متقدة جذوتها
وفي بورسودان مدت تعريشة العنب اعناقها الخضر وتواصلت مع نساء من بورسودان ونساء من مدن السودان كلها كن زوجات في نفس بئية عمل زوجها

وزادت ارقام التلفونات والقلوب المحبة
أحببت معها من أحبت وتواصلت معهم وتواصلوا معي وبكيت معها من رحلن من صديقات أضاءن كونها وكوني في حياتهن مثل نازك
الملائكة
التي رحلت باكرا وقد زرعت الابتسامة علي كل وجه يطوف خيالها بذاكرته
كنا نتقاسم حكايات نازك الممتلئة حياة سويا كما يتقاسم الناس ضوء القمر في ليلة مظلمة
كانت نازك فصلا تتذكره اجلال دوما مبتسمة وممتلئية بالمحبة التي ربطت قلبيهما
اجلال زوجتي الغالية اشهد الكون كله انني احبك

وانني سعيد بك
وانك اجمل حدث في حياتي

اكتب هذا الحديث والبيت خاو منك اليوم
وما اصعب ذلك علي نفسي
صحيح انه غياب مؤقت حتي الثلاثاء باذن الله حيث يلتم الشمل
لكنني اردت ان يعرف الناس
كم انت عظيمة وكم احبك
وافتقدك
صلاح الدين سر الختم
مروي
20 اكتوبر 2012

Sunday, September 15, 2013

قصتى مع المحاماة من الألف الي الياء ( 2) حكايات في دروب المحاماة

                                  

                              قصة الموكل الكاذب      
كان قصيرا، مربوع القامة، له عينان صغيرتان ماكرتان ولحية صغيرة، كثير الكلام والابتسام، كنت بطبعى أحب المرح والمرحين والبسطاء وكان ظاهريا ينتمى الي ذلك كله، فهو يعمل سائقا لعربة نقل تجارى للركاب والبضائع ، وهى عربة عتيقة من النوع المشهور في ذلك الزمن باللاندكرور برغم أنها سيارة يابانية الصنع تنتمى الى السيارات اللاندكروزر ولكن التسمية السودانية لها (اللاند كرور)  جاءت من كونها موديل قديم أكل عليه الدهر وشرب ولكنه لقوته لازال وسيلة النقل التجارى القوية المفضلة التى تخضع لتعديلات محلية كثيرة من الحدادين السودانيين فهم يتفنون في عمل إضافات تجعل من العربة ذات المقعدين حافلة صغيرة بها مقاعد متقابلة ولها سقف يقى ركابها من الشمس  واحيانا يصمم الصندوق الخلفى بحيث يكون صالح لحمل البضائع والركاب معا بجعله به ارائك خشبية على الأجناب بلا سقف ،المهم كان صاحبنا يقود سيارة من هذا النوع لها مقعدين أمامين ولها صندوق خلفى مصمم لحمل الركاب والبضائع معا وكان حسب تعبيره الدارجى ( يجازف بها رزقه) مابين مدنى والقرية أربعين الفاو ،ولكنه اثناء قيامه بعملية نقل برئية وجد نفسه متهما بارتكاب جريمة سرقة من أحد المخازن الحكومية بالاشتراك مع آخرين،كانت قصته كما رواها قصة بسيطة يمكن أن تحدث لأى إنسان شريف فيجد نفسه خلف القضبان متهما بتهمة خطيرة بلا ذنب جناه، فقد استأجره أشخاص لايعرفهم من مدينة مدنى ليحملهم الي القرية أربعين  بمقابل وقد كان العرض جيدا فلم يرفضه وقام بالنقل واستلم نقوده وأراد العودة حين طلب منه الذين استأجروه انتظارهم وأعادتهم بعد الفراغ من مشوارهم وكان الليل قد بدأ يرخى سدوله ولن يجدوا وسيلة للعودة ولن يجد هو ركابا فقرر قبول عرضهم والانتظار، وفي طريق العودة طلبوا منه التوقف علي جانب الشارع بالقرب من المخزن المسروق الذي لايعرفه،وكان هناك من ينتظر علي جانب الشارع ومعه بضاعة في جوالات رفعت بالعربة وواصلت العربة سيرها حتى بلغت مدنى، وفي الصباح التالى تم القبض عليه بواسطة الشرطة وتبين أن من كانوا علي متن عربته لصوص وان البضاعة التى حملوها عليها مسروقة من مخزن حكومى مجاور،حضر الي مكتبى في مدينة مدنى في مطلع التسعينات بتوصية من أستاذ محام أحاله الي لأن القضية بدت له أصغر من صيته الكبير من جهة ولأنه أراد مساعدتى في بداية مشواري في المحاماة بمدى ببعض القضايا والزبائن، كنت لازلت في بداية حياتى المهنىة ولازلت من ذلك النوع الساذج من المحامين الذي يصدق كل رواية تروي له ويقبل القضية بلاتمحيص في مرحلة الاستماع لرواية من يقصده ليفاجأ فيما بعد في كل جلسة بحقيقة جديدة كانت خافية عليه ويصبح مسخرة في المحكمة ومحرجا علي طول الجلسات وقد أحرق سفنه قبل أن يتفقد جيشه ويعرف علي أي أرض يقف، المهم صدقت دموع التماسيح التى ذرفها موكلى القصير المكير وتوليت قضيته وبت أسافر بصحبته لحضور جلسات المحاكمة المنعقدة بمدينة الفاو بعربته اللاندكرور وكان خط دفاعى انه كان ناقلا حسن النية ولم يكن شريكا في أي مشروع إجرامى ، بل تجرأ وهمس في أذنى انه ربما تكون قصة السرقة المزعومة مختلقة والأمر ربما يكون تغطية لفساد في المخازن ، فصادف قوله قبولا عندى، وسارت الاجراءات حتى صدر حكم ببراءة موكلى وذلك أمر طبيعى ومتوقع في ظروف القضية وما بذلت فيها من جهد مؤمنا بقضيته وبراءته، كانت المفاجأة في انتظارى حين خرجنا من مبني المحكمة متجهين صوب سيارته لنسافر الي مدينة مدنى عائدين، فرك القصير المكير يديه بفرح حقيقي وهتف بصوت عال: والله خطير يا استاذ...خطير جد....والله ماكنت قايل نفسي اطلع منها.
توقفت والتفت نحوه وانتهرته قائلا: ماكنت قايل تطلع منها؟ قصدك انك عملتها؟
ضحك بصفاقة وقال بطريقة سوقية فظة: ومال ايه؟ انت صدقت اللاكونة دي يا استاذ والله شنو؟
هتفت بكل الغضب الذي في الدنيا في وجهه أن يغرب عن وجهى هو وعربته اللعينة، وقلت له والله لو كان بمقدورى ان اتقيأ كل مليم أخذته منك لتقيأته....اغرب عن وجهى وإلا.....وقف محتارا....انتهرته بحزم فهرول نحو عربته وادار المحرك وذهب، بقيت وحدى 
مشيت مسافة كيلو متر حتى شارع الزلط ، كان الغروب مقبلا والمكان موحشا، ولم اك املك مالا وقتها، لكن الله قيض لى شاحنة تحمل بطيخااعتليت ظهرها عائدا الي مدنى والهواء يعبث بالكرافتة كأنه يضحك مني ...كنت غاضبا وحزينا وفيما بعد كانت تلك الحادثة أحد اسباب هجرتى من المحاماة الي القضاء، فقد بت أري في كل موكل شخصا وضيعا كاذبا مثل ذلك الذي جعلنى أحصل له على براءة لايستحقها.

 قصص موجعة
وجه ملائكي
كانت صاحبة وجه ملائكي ، وجه صغير جميل باسم وشعر جميل وقوام دقيق وأنف مرسوم وعينان تخترقان كل شئ حتى الحجر فيرتجف، الي ذلك كانت أنيقة لطيفة، ظهرت في مجتمع المحامين بغتة فادرات الرؤوس كعادة المحامين مع الجمال، ولم تجد صعوبة في الانتماء الي أحد المكاتب والتجول في المحاكم من أقصاها الي اقصاها باعتبارها محامية متدربة وأفسح لها وجهها الطريق فأنفتحت كل الأبواب والقلوب لها، وباتت كأنها ولدت محامية وكأن الجميع قد عرفوها عمرهم كله، ثم خفت الاهتمام بها بعد ظهور وجوه أخري جديدة، لكنها ظلت موضعا للحفاوة والإهتمام حيثما ظهرت، ثم علا همس غريب عنها ، تزايد الهمس حتى بات عالياً كطبول حرب، تبين ان صاحبة الوجه الملائكى ليست محامية ولم تدرس القانون مطلقا، لكنها احبته وعاشته وهماً جميلاً ودكت حصونه واخترقتها بلا أي مؤهلات أكاديمية سوي رغبتها في ان تكون من سدنته، وتبين انها تعانى نفسيا وانها تستحق الشفقة والرحمةأكثر مما تستحق عقابا أو احتقارا، فلملم الناس خيوط الحكاية بهدوء وأختفت صاحبة الوجه الملائكى من كل المواقع بلا وداع ولا ضجيج، ثم طواها النسيان.


                  ( الحقيقة العارية)

 هي قصة  الإحسان الذي ينقلب سيفاً بتاراً يغوص في أحشاء المحسن اليه ويمزقه إربا ،  كان شابا مرموقاً وسيماً ساحراً محبوباً من الجميع في تلك المدينة التى تشبه قرية من فرط ترابط أهلها وتشابك علاقاتهم الاجتماعية،نشأ صاحبنا في أسرة عريقة ممتدة الجذور وذات مال وصيت  وكان والده مالكا لعقارات كثيرة بالمدينة وتاجرا وقطبا كبيرا فيها، كان هو الولد الأكبر الذي لايعرف سره إلا الأم والأب،كان الأب متشوقا في بدء حياته للذريةوحين تأخر الانجاب قرر أن يتبنى لقيطاً يبدد وحدته فاختاره وأخذه ورباه ومنحه أسمه ولم يبح للناس بسره، ثم توافد الابناء والبنين من صلبه بعد ذلك وفتحوا أعينهم فوجدوا صاحبنا أخا أكبرا ناجحا ومتفوقا في دراسته ومحل محبة والديه الذين رأيا فيه فألا حسنا وابنا لم يلداه ولكن شعورهما بالابوة والأمومة تجاهه لاينتقصه ذلك أبدا، وهكذا مضت السنين وصاحبنا يعيش حياة حقيقية رائعة كانسان جميل رائع يملك أسرة ودفئها وصيتها ويجول المدينةمن أقصاها الي أقصاها مفعما بالكبرياء والكرامة ومحاطا بالمحبة أينما حط رحاله،وحين جاءت موجة الأغتراب غادر صاحبنا الوطن ميمما صوب إحدى الدول الخليجية وغاب هناك سنينا طويلة وعاد ذات مرة وتزوج زواجا أسطوريا تحدثت عنه المدينة طويلا وتمنت كل بناتها أن يكن مكان تلك السندريلا التى ظفرت به، مضت الحياة، غاب البطل في خليجه وغيب الموت أبيه الذي أوصي الأم والإخوة جميعا بأخيهم خيرا بعد ان شرح لهم الحقيقة طالبا منهم ألا يخبروه الحقيقة لانها ستحطمه ولكنه في الوقت نفسه طلب منهم ألا يقعوا في المحظور باعطائه في الأرث نصيبا لم يعطه الله له موضحا انه سجل له عقارات وخصص له أموالا تكفيه وتجعله في وضع مماثل لأوضاع أخوته واخواته وذلك في شكل وصية يجب ان تنفذ دون اعتراض منهم، كانت الصدمة قاسية عليهم لكنهم تحملوها وساعدهم غياب الأخ  المفترض بعيدا، لكنه عاد من اغترابه الطويل  حين راسله أحد أقاربه معزياً ومستنكراً توزيع التركة بشكل لايطابق الشرع وفيه ظلم له، استعان بمحام وتبين له فعلا ان نصيبه في الأرث أقل مما يستحق ولم يدرك لذلك سببا،تحدث الي أمه واخوته فحاولوا تبريره بشتى الطرق ولم يفلحوا، ولم يبوحوا له بالحقيقة فزاد صاحبنا في عناده وظل يضغط بكل السبل القانونية ليظفر بما يظنه حقه وما دري انه يحفر قبره بيده، تحت ضغط شديد منه لم يجد اخوته وامه بداً من هتك ستار الحقيقة النائمة وقذفها في وجهه عارية كما هي، فقد كانوا محاصرين بوصية الاب من جهة وبفضوله وعناده هو من جهة أخري، ولم يكن من بد مما ليس منه بد، ترنح الرجل تحت وطأة الحقيقة وأنهار كما تنهار بناية شاهقة تحت وطأة قصف صاروخي، نظر الي نفسه في المرآة فلم يجدها، نظر الي حياته كلها فلم يجدها، كانت كلها وهما وأكذوبة مثله هو، تبخر الرجل واختفي من كل مكان ومجلس ولم يعثروا له علي أثر بعدها، بقيت أسرته مغروسة في المدينة بلا هوية بعد تمزيق بطاقة هوية رب الأسرة، وبحث الأهل  المفترضين عنه في كل مكان بلاطائل، اغلقت المحكمة ملف التركة الموجعة ونامت المدينة حزينة.


Friday, September 6, 2013

قصتى مع المحاماة من الألف الي الياء (1)/ سيرة ذاتية /صلاح الدين سر الختم على


لماذا وكيف اخترت قراءة القانون والاشتغال به ؟



لا أدرى بالضبط متى بدأ حلم الاشتغال بمهنة القانون يراودنى، لكننى أعرف أن اكبر المؤثرات علي اختيارى كانت صدفة جعلت ثلاثة محامين تحت التمرين يكونوا أساتذة للانجليزية بمدرستنا الثانوية ( مدرسة السنى) بمدينة مدنى في مطلع الثمانينات، هولاء الثلاثة الذين صاروا فيما بعد من أشهر المحامين في المدينة كان لوجودهم تأثير بالغ علي أحلام التلامذة الذين كنت أحدهم،كان الفرسان الثلاثة هم الأستاذ حسن حسين حمد الذى صار فيما بعد معلمى في مهنة المحاماة، والأستاذ مرشد الدين محمد يوسف، والأستاذ صالح محمود، كان ثلاثتهم متخرجين حديثا من جامعة الخرطوم كلية القانون ويتهيأون للجلوس لإمتحان مهنة القانون وكانوا يعملون محامين تحت التدريب مع الاساتذة عبد المنعم الخضر جكنون المحامى وسيف الدولة خضر عمر المحامى وأحمد عباس المحامى(الثلاثة من أعلام المهنة في مدنى) بذات الترتيب الوارد للثلاثة،واختار الثلاثة أن يلتحقوا بوظيفة التدريس كمحطة مؤقتة الي حين الانخراط الكامل في المحاماة فتم استيعابهم الثلاثة كمعلمي لغة إنجليزية، وكان لنا نصيب معهم الثلاثة في حصة الأدب الانجليزي فقد درسنا كل واحد منهم رواية من الروايات المقررة علي طلاب الثانوى آنذاك فتعرفنا عبر التدريس علي شخصياتهم الشفيفة وبرزت أمامنا منظومة أفكار كل منهم وإطلاعه وكان ثلاثتهم ذوي ميول اشتراكية واضحة واسعى الإطلاع يتعاملون مع مهنة التدريس كرسالة انسانية وفكرية فكانت حصة الأدب الانجليزى معهم تحليقا جميلا في فضاءات فكرية وثقافية واسعة،كانت حصة الأدب الانجليزى معهم تماثل سفرا بعيدا وسياحة ممتعة في بلدان غريبة وتعرف علي ثقافات جديدة واختزان لقصص ومشاهد ومشاعر انسانية تمس شغاف قلوبنا الصغيرة برغم بعد المسافات واختلاف الثقافات واعتقد ان تلك الحصص وتلك الروايات العظيمة كانت بوابة عبرنا من خلالها الي فضاءات أوسع من فضاءاتنا ولامسنا فيها عظمة الأدب وتعلمنا فيها عشق الروايات وطرق السرد وهو أمر شكل اهتماماتنا وشخصياتنا لاحقا بشكل مؤثر. كنا ننتظر بفروغ صبر وشوق شديد حضور الاستاذ حاملا معه رائعة الكاتب الايرلندى أوسكار وايلد
(أهمية أن تكون جاداً (The Importance of Being Earnest) 
المكتوبة في 1895. وهي عامرة بالروح الساخرة وتصور النفاق الاجتماعي للطبقة الوسطى في العصر الفيكتورى حيث يحاول الابطال الظهور بشخصيات مختلفة في كل واقع مختلف،وهناك موقف ساخر من الحرب وأبطالها المرسومين في المخيلة عند بعض الناس البعيدين عن واقع الحرب القبيح. 
كانت شخصيات الاساتذة الثلاثة متباينة، فبينما كان حسن حسين صارما جدا، ينهمك في التدريس كمن يؤدئ صلاة في استغراق وتركيز ويحرص حرصا بالغا على النطق الصحيح الواضح للمفردات وشرح المغزى بطريقة مفصلة والتوقف عند معانى الكلمات الجديدةثم ينصرف بهدوء كما جاء، كان الاستاذ صالح محمود مدرسة أخري تتشابه مع الاستاذ حسن فيما سبق ، لكنه كان مسكونا بحب كبير لمسقط رأسه دارفور،فكان ينتهز كل مناسبة عابرة ليحدثنا عنها بلغة انجليزية سليمة ومشوقة ، تجعل من الحصة سياحة داخلية وخيالية معاً،كان حب الرجل لموطنه ملهما وملفتا جعلنا نتوقف عنده كثيرا،كان الرجل فخورا بجذوره بشكل رائع وفريد.أما الاستاذ مرشد الدين فقد كان ساخرا بطريقة لاتجاري وكان موجزا دوما في شرحه ولكنه يتميز بالعمق والمعلومات الغزيرة المصاحبة للشرح فهو يملك معارف خاصة تتجاوز حدود الكتاب والحصة ولكنه لايسرف فيها فيجعل فضولنا في أعلى مستوياته فيتحرك فينا حب المعرفة. هكذا كان كل منهم ملهما بطريقته الخاصة. كان حسن حسين من أبناء الجزيرة أبا وسط السودان وصالح محمود من ابناء جنوب دارفور منطقة نيالا زالنجى بينما كانت جذور مرشد الدين من مناطق كردفان. كانوا ثلاثة أقمار من الريف زينوا سماء مدينة ودمدنى بعلمهم وتميزهم وشكلوا أفقا للعديد من تلامذتهم عبر قوة المثال ودفعوهم الي رحاب مهنة القانون، لذلك لم تكن صدفة أبدا أنني اتجهت لدراسة القانون واننى حين أكملت دراسة القانون بعد ذلك بسنوات عديدة جئت فطرقت باب الأستاذ حسن حسين الذي بات من أعلام المحامين في المدينة والتحقت بمكتبه محاميا تحت التمرين ومن ثم محاميا محترفأ ونهلت من معارفه حتي بات لى مكتب محاماة خاص في عمارة كان من أبرز المحامين فيها أستاذ صالح محمود المحامي ولم يكن الأستاذ مرشد بعيدا فتلاحقت الكتوف في المحاماة بين التلميذ وتلامذة آخرون وبين معلميهم الثلاثة.ولم يكن أمرا مدهشا أن الثلاثة استقروا بالمدينة وتزوجوا فيها وبقوا بها حتى اصطادت المنافئ الاستاذان حسن حسين ومرشد الدين في نهاية التسعينات فيمما صوب الخليج بعد سنوات عامرة بالبذل والنجاحات في المحاماة في مدنى.
بين ذلك الحلم الذى شهق في مدرسة السنى الثانوية في داخلى وبين اشتغالى بالمحاماة سنوات عزيزة شهدت احداثا كثيرة لاتنسي في حياتى ، منها ماكتبت عنه مثل قصة استشهاد طه يوسف عبيد وعلاقتنا برابطة الجزيرة للاداب والفنون وبعض ملامح حياتى في ودمدنى ومنها ما لم اكتب عنه بعد وهو سنوات الجامعةالتي وجدت نفسي استعير بعض شخوصها واحداثها في راوياتى، فعلت ذلك في الرمال يافاطمة وعدت وفعلته في روايتى نيران كامنة ولكن القسم الأهم من احداث وشخوص الجامعة استعرته وحورته وجسدته في روايتي بحيرة التماسيح التي رأت النور الكترونيا تحت اسم خطوات وبصمات وستري النور ورقيا قريبا تحت مسمى بحيرة التماسيح،فقد كانت فترة الدراسة الجامعية بجامعة القاهرة الفرع خريفا ماطرا وغنيا بالاحداث والبذور الصغيرة التي باتت مشاريع عملاقة، كنت فتى نحيلا مشتعلا بالحزن والغضب والثورة وشغوفا بالشعر والقصة والرواية والتواصل مع الاخرين وأدوار البطولة، فقد كان استشهاد طه يوسف عبيد مؤثرا علي شخصيتى بشكل كبير، لذلك اندفعت الى قلب الحياة الجامعية بتهور واندفاع كبير، كانت جامعة ذلك الزمان بركاناً ثائراً وبرلمانا ثقافىا وفكرىا وسياسىا دائم البريق والتوهج
وجدت نفسى في أعلى تلك الموجات منذ الوهلة الأولى

جئت حاملا غضبى
وصاحب موقف واضح من السلطة التى قتلت صديقه ونثرت دمه فوق قميصه
جئت ومشهد قصف جنازة طه يوسف عبيد بالرصاص امام المؤسسة الفرعية للحفريات بمدنى فوق شارع الاسفلت هو المشهد المسيطر على ذاكرتى والمصاحب     
لكلمة مايو واسم النميري
(وهو مشهد تسلل غصبا عنى ووجد طريقه الي رواياتى)

لم يكن لدى خيار سوي العمل السياسى لاسقاط نظام 
جعلنا نرى الدم بدلا عن الزهور ونحن لانزال في مقتبل عمرنا
الفراش الجائل

كانت الدهشة الأولى موجودة بالطبع فقد كان الانتقال الى المرحلة الجامعية انتقالا فيه كثير من الأشياء الجديدة، ففى المراحل الدراسية السابقة كنا نأتى من البيت واليه نعود يوميا ولكن الجامعة ارتبطت بالانتقال الي مدينة كبيرة كالخرطوم والى حياة جديدة مختلفة بعيدة عن الأسرة ودفئها والى نظام تعليم يقوم على الحرية الشخصية في الحضور والمواظبة بخلاف نظام المراحل التعليمىة السابقة الذي يبدو أكثر صرامة وتقل فيه مساحات الحرية الشخصية، لكن الحرية الشخصية فى المرحلة الجامعية ترتبط بالمسؤلية الشخصية عن نتائج تلك الحرية، بالامكان الا تتابع المحاضرات وان تتغيب ولكن يجب ان تبذل جهدا أضافيا لكى لايفوتك شئ وتنجح برغم عدم المواظبة،ونفس المبدأ يسود فيما يتعلق بخياراتك الأخرى الثقافية والسياسية والاجتماعية، فالاهتمام بالأدب مثلا كان مكانه في المراحل السابقة حصة أو حصتان في الاسبوع وبعض المناسبات الثقافية والوطنية، أما الجامعة فهى مائدة عامرة بالجمعيات والروابط والفرق الثقافية والأنشطة التى أقبلنا عليها في نهم وشراهة، ولم يكن نهمنا وقفا علي حامعتنا وحدها فقد كنا نهاجر مثل أسراب الطيور الي كل الجامعات ومواقع الأنشطة الثقافية والأدبية  فلا نفوت محاضرة ولا أمسية شعرية ولامنتدى ولامسرحية أو معرض أو مهرجان ونقتنى الكتب في كل صباح بكل الطرق : استعارة وشراء ومبادلة وأختلاسا بالقراءة حيث هي في مكتباتها التجارية أو العامة أو بيوت الأصدقاء أو غرف الداخليات في الجامعات التى بها داخليات حين نغشاها في زيارات الي الأصدقاء هناك، كان نهمنا للقراءة لاينتهى أبداً وكانت مناسبة مثل احتفالات االتخريج في معهد الموسيقي والمسرح حدثا أكثر أهمية عندنا من أي حدث آخر، فكنا نركض الى مسرح قصر الشباب والأطفال لنتابع بشغف ودقة كل العروض ونتناقش عقب كل عرض حوله نقاشا لاينتهى، عرفنا داخليات جامعة الخرطوم داخلية داخلية واقتحمنا سفرات الطعام فيها مع طلابها وتقاسمنا معهم طعاما شهيا كانت تقدمه حكومة السودان لطلابها دون شعور بالغيرة أو التهميش ودون شعور منهم بأننا دخلاء، كنا لانغيب عن حدث هناك فنحن حاضرون في المعارض وحفلات الروابط والأركان السياسية والقراءات الشعرية ونقرأ صحف النشاط الحائطية قبل المعنين بها أحيانا ، وكنا منفتحين علي كلية الفنون الجميلة ونشاطاتها وخصوصا معارض التخريج وكانت ظلال الأشجار هنالك سكنا دائما لنا حيث نقضي سحابة النهار للمذاكرة أيام الامتحانات وللثرثرة والأنس في الأيام الأخرى، كنا كالطيور
والفراش نتنقل حيث شئنا وكيفما شئنا سيرا علي الأقدام قاطعين المسافات جائلين في العاصمة المثلثة من أقصاها الي أقصاها لانستخدم وسائل النقل إلا  مكرهين .   
الحنينة السكرة
جامعة القاهرة الفرع

كانت جامعة القاهرة الفرع ذات طبيعة خاصة جدا، فهى معرض دائم ومهرجان متجدد ونهر متدفق من الشباب من الجنسين ، من كل انحاء البلاد الكبيرة تجمع طلابها في حشد نادر المثال، فليس ثمة مكان أو زمان آخر قادرعلي الجمع بين ذلك المزيج الذى يشمل قادمين من كل بقعة صغيرة وكبيرة في السودان، فقد كانت الجامعة توفر فرصا كبيرة للقبول في كلياتها التى تزدحم بطلاب نظاميين وطلاب منتسبين يشملون كل الأعمار تقريبا، ولكنك تجدهم جميعا في حوش الجامعة الفسيح الذي ينطبق عليه ذلك المثل الساخر لصديقنا عادل سعيد اب جقادو وهو أحد ظرفاء الجامعة من ابناء مدنى من جيلنا فقد كان يقول كلما نظرنا الي ارتال البشر من الطلاب الذين تعج بهم ساحة الجامعة الضيقة المسماة الحوش ( صحى النفوس كان اتطايبت السرير بشيل المية والحوش بشيل من غير حساب)، كان ذلك تلخيصا ساخرا لحالة ذلك الحوش الممتلئ بالجميلات الخائفات من غباره علي تسريحاتهن واناقتهن وهو ممتلئ باصدقاء لهم كتاحة تسبقهم اكثر خطرا من ريح العتويت في طوكرالشرق الشهيرة بكتاحتها الفريدة،كانت جامعة غريبة في كل شئ، بائعات الطعمية وسلطة الأسود بجوار حوائط بيوت الاشلاق المحيطة بالجامعة وهن مقنطرات علي بنابر وهيطة وحولهن قفف من السعف وحلل من الألمونيوم تحتوى علي الأطعمة التى تباع للطلبة والطالبات الذين يقبلون عليها في طمأنينة كانت هي سمة ذاك الزمان الذي كان أمانه في نقاء القلوب وطهرها، باعة السجاير والحلوى ومناديل الورق داخل الجامعة وأشهرهم ابو دقن الذى لايفوت صلاة في مسجد الجامعة الصغير ويرتزق من بيع السجاير والاقلام والمناديل واللبان ولم ينج من تصنيفات السياسة التي نسجت حولها روايات مشوشة حول علاقة مزعومة له بالأمن تارة وتارة بفصيل سياسي بعينه ،  من المعالم مكتب البريد الذي يحتل زاوية في الجامعة يتحلق حولها الطلاب وهو محاصر دوما بالاركان السياسية الملتهبة التي تبدأ بجمع صغير ثم تمسي مظاهرة حاشدة يلتف حولها المنتمون واللا منتمون والعابرون وحتى ضيوف الجامعة ليشاهدوا عروضا حية في فنون الجدال السياسي ونماذج عملية لكيفية مسح الأرض بالخصم والحط من قدره ثم التصدى لهجوم مضاد يمارس فيه الممسوح به الأرض مسحا مماثلا للمتحدث وجماعته بالأرض، كان صراعا للديكة بكل ماتعنى الكلمة من معنى، صراعا لايستسلم فيه طرف ولايكف فيه المتعاركان عن اطلاق قنابل الكلام الموجهة للاخر ، وفي بعض الاحيان يتعدى الأمر قنابل الكلام الى ما هو اخطر وأكبر،وفي قلب هذا الضجيح هناك حالمون وحالمات ينتحون أركانا قصية وينسجون عالما ورديا لاينتمى الي مركب الضجيج الذي يجلسون في قلبه، تجدهم يجلسون ساعات طوال يتهامسون ويبتسمون ويحتسون العصير من الكافتيريا المزدحمة علي مهل وبتلذذ
وينسلون بين الفينة والاخري للحصول علي شاي أحمر لايغيب عن الجلسات وحين تعلو اصوات مكرفونات الجدال علي همسهم يخرجون من الحوش ويذهبون الي حوش كلية التجارة أو يحتمون بسلم الاداب الذى اشتهر بكونه ملاذا للعشاق والصداقات البرئية والهاربين من الغبار والضجيج وفي وقت الامتحانات مكانا مميزا للمذاكرة. كانت للجامعة وجوه أخري عديدة، هناك معارض الروابط الأقليمية التى تعج بها الجامعة فهى تحيل الجامعة بصيواناتها الكثيرة الي معرض دائم يعكس ملامح تلك الأماكن القصية والقريبة التي جاء منها الطلاب وتتبارى الروابط في ابراز مايميز مناطقها من تاريخ وجغرافيا وفلكلور وفنون وفنانين، فتتحول الجامعة في مواسم استقبال الطلاب الجدد الي مهرجان قومي للثقافات، يوما يحتل النوبيون برطانتهم الجميلة وجرجارهم ورقصاتهم المميزة المشهد، ويوما تتحول الجامعة الي طنابير شايقية ملئية بالحنين ، ويوما يتفنن أهل الشرق في عرض ملامحهم الفنية المميزة، ويوما ينبرى أهل مدنى فتصدح اصوات ابوعركى وود الأمين وصديق متولى وصديق سرحان، ثم يحتل أهل كوستى المشهد بابداع يميزهم وتتوالى الايام والليالي الثقافية والمعارض ، ثم تأتى دورة لمعارض الكتاب والندوات الثقافية والدينية، تبدو الجامعة سوق عكاظ كبير في ناحية المنتدى الادبى وجماعة الجو الرطب وعشاق الحلمنتيش، ثم تخطف الصحف الحائطية للجماعات السياسية في الجامعة الأبصار بمانشيتاتها الصارخة

ومعارضتها المعلنة للسلطة في بلد صامت خارج أسوار الجامعة، كان أولئك الذين يحررون تلك الصحف الجرئية يبدون أشخاصا ساحرين قادمين من كواكب بعيدة بجرأة فعلهم وعباراتهم، هكذا وقفت في وسط ذلك الحوش صغيرا ضئيلا مندهشا وباحثا عن موطئ قدم في بحر متلاطم الأمواج، خائفا ذهبت أبحث عن رابطة ابناء مدنى عساها  تبدد شعورا بالغربة والضآلة وقلة الحيلة أعترانى.

رابطة ودمدنى بالفرع عالم ساحر
كانت رابطة مدنى بالجامعة خلية نحل  ونجمة كبيرة في سماء الجامعة، كانوا في استقبالنا بحفاوة ظاهرة تمارس في الجامعة مع البرالمة سنويا، لكنها حفاوة تختلف عن غيرها في كونها حفاوة نابعة من القلب وفي كونها امتداد لعلاقات سابقة علي الجامعة بين ابناء الرابطة، قد تكون علاقة قربى أو جيرة حي أو زمالة دراسة في مرحلة سابقة أو علاقة رياضية أو حتى سياسية أو ثقافية، لذلك كانت الرابطة بيتا يشعر فيه المرء بالإلفة ويذوب سريعا في سكانه الذين يعرف الكثير منهم سلفا وثمة الف باب ونافذة تنفتح بينه وبين من لم يعرفهم قبلا، فالقواسم المشتركة كثيرة جدا،عن نفسي فقد اندمجت في مجتمع الرابطة ووجدت نفسي علي الفور، قابلت الاخت رجاء حسن هاشم التى كانت بكلية التجارة وهي من بنات الدرجة وكنت اعرفها قبل الجامعة بحكم الجوار وبحكم زمالتها في الدراسة مع اختي الكبرى وباتت فيما بعد سكرتيرا عاما للرابطة وعملت نائبا لها في احدى الدورات، وكانت هناك ايضا الراحلة ثورة عبود بنت المزاد  التي كانت بكلية الاداب وكانت هناك معرفة سابقة علي المستوى الأسرى، وكان هناك الاخ الفاتح خضر الكاشف المحامى وكان من قادة الرابطة وكان بالسنة الاخيرة بكلية الحقوق وهناك الاخ  الصديق ابراهيم تاج الدين حمد النيل الذى كان ابرز سكرتير رياضي للرابطة لعدة دورات والاخ عصمت محمد يوسف امين مال الرابطة  وكانا بكلية الحقوق وبلجنة الرابطة وهناك الاخ عادل الباهى  والاخ عبد العزيز محمد احمد والاخ عبد الله خالد   من ابناء دردق الذى شغل منصب السكرتير العام للرابطة والاخ خالد عبد الوهاب من ابناء جزيرة الفيل وهناك الاخت فوزية من ام سنط  والاخت منى ادريس من بانت ومجدى برير من الدرجة وقائمة طويلة من الاسماء اللامعة التي عايشناها في الرابطة، فتحوا لنا قلوبهم من الوهلة الأولى وبت من أول سنة سكرتيرا اجتماعيا بالرابطة وفيما بعد سكرتيرا عاما بعد تخرج من وجدناهم امامنا بالرابطة.كانت رابطة مدنى مجتمعا جميلا قائما علي المحبة والترابط دونما اعتبار للاختلافات السياسية وغيرها، لذلك كان العمل فيها يشكل واحة في هجير لافح، كان تركيز الجميع علي مايقوى الصلات بين الاعضاء وعلى ما يقدمونه من برامج لمجتمع المدينة التى جاؤوا الي الجامعة منها فكان جل النشاط في العطلات في مدنى. واتذكر أن أول التحديات التى واجهتنا كانت كيفية الحصول على موافقة الفنان الكبير ابو عركى علي الغناء في حفل الرابطة لاستقبال الطلاب الجدد الذين كنت أحدهم ، كانت المشكلة ان اعضاء الرابطة في دورة سابقة خلقوا جفوة مع الفنان المرهف عندما اتفقوا معه ولكنهم لم يلتزموا ولم يعتذروا له، فبات الطريق مفروشا بالأشواك، لكننا لم نيأس اصطحبنا معنا الأخ سلمان محمد احمد عضو الرابطة وقريب الفنان ابو عركى وذهبنا الي الفنان الكبير الذى استقبلنا ببشاشة وسماحة ووافق علي الحفل مجانا دون قيد أو شرط، ولازلت اتذكر كيف انتظرت الجامعة كلها ذلك الحفل الفريد الذى كان في الهواء الطلق في الشارع الواقع بين حوش الجامعة الرئيسي ودار الاتحاد، واتذكر كيف افترش ابناء رابطة كوستى المحبين لعركى الأرض أمام المسرح(  (منهم اتذكرزكي منصور المحامى وعبدالسلام ابو ادريس ونجاة وصلاح عبد الله وود الرضى  ) وأتذكركيف غنى الطلاب مع أبو عركى (ياتحفة حواء ياروح ادم ياست الكل)، وغنوا معه( مرة ناحت في المدينة الحمامات الحزينة قامت ادتا من حنانا)، كان أبوعركي يغني وعروقه نافرة كحصان يركض في مقدمة السباق وعرقه يغطي جسده اللامع وعيونه تلمع وكان الناس سكارى بخمر الأغنيات وكنا سكارى بما حققنا من نجاح ساحق وباهر. كان يوما لاينسي ابداً.كان الدرس الأول الذى خرجت به من تلك التجربة هو أهمية أن تكون دوما جزءا من كل وان تقبل علي الناس بلا هواجس مسبقة فعندها تذوب كل الهواجس التى تسكنهم تجاهك،أبو عركى ضرب مثالا في الولاء لمسقط الرأس والتعامل الراقى مع أبناء مدينته، كان بسيطاً وحازماً وعفيفاً حين قال عن نفسي أنا متبرع بالحفل لكننى لا أستطيع اجبار العازفين على التبرع، عليكم فقط ترحيلهم وتخصيص ما يرضيهم،وكان عازفيه عند حسن ظننا بهم حين جاروه في التبرع تقديرا له ولكوننا طلاباً، كانت تجربة جميلة حقاً،والجميل ان مبدعى المدينة كانوا دوما عند حسن الظن بهم وهم يزينون حفلات الرابطة سنويا بالمجان أو فئات رمزية جداً، ومن تجارب الرابطة الفريدة في تمويل أنشطتها اننا ذات مرة سافرنا الي مدينة كوستى حيث كانت السينما هناك تعرض فيلما هنديا لعدة ايام لصالح رابطة مدنى وكان فرسان التجربة الأخوة عصمت محمد يوسف وعبد الله خالد. ومن الأنشطة الجميلة للرابطة حفل التخريج للخريجين الذى كان ينظم بمدينة مدنى بطابور للخريجين يجوب المدينة قبالة المسرح وشارع النيل وحفل تخريج بمسرح الجزيرة تحشد له الأسر في منظر جميل وأجواء احتفالية وانسانية رائعة ولن أنسي ماحييت تخريجنا ودموع والدة زميلينا سيف الفاضل وعبدالله الفاضل المحاميان فيما بعد تلك السيدة المكافحة النبيلة التى كانت أما للجميع. كان عملنا بلجنة الرابطة قد أتاح لنا فرصة القيام بتخريج من قبلنا ومعايشة تجربة تخريج الآخرين لنا. كان مهرجانا جميلا في الحالتين.
ولازلت اتذكر تلك المدحة المحورةعلي يد اخونا عادل اب جقادو لتصبح نشيد الوداع الرسمي للجامعة في أوساط الطلاب الخريجين: 
الجامعة مابتدوم
 ياحليل فرع الخرطوم
من جيتا داب برلوم 
في حوشا حايم حوم
نخلط بنات بالكوم
في تجارة والعلوم
وسلم الحقوق
ياحليل فرع الخرطوم
الجامعة ما بتدوم
يا حليل سلم الاداب
وقعادنا جنب الباب
يا حليل ود العباس
الشايو يزبط الراس
والجامعة ما بتدوم
ياحليل فرع الخرطوم.

النشاط السياسي في الجامعة
كانت الجامعة في ذلك الزمان تجسيد حي لتناقضات المجتمع السودانى، ففي حين كانت الأفواه مكممة خارج الجامعة والصحف والأحزاب وكافة أنواع النشاط السياسي محظورة خارج أسوار الجامعة فيما عدا نشاط الحزب الحاكم الاتحاد الاشتراكي السودانى وتنظيماته الفئوية، كانت الجامعة تموج بنشاط سياسي فعال تشارك فيه كل القوى السياسية المحظورة خارج الجامعة بقسط وافر وفعال يتمثل في الندوات والأركان السياسية اليومية والصحف الحائطية الناطقة بأسم الاحزاب والجماعات السياسية المختلفة التي كانت تتنافس تنافسا محموما من أجل استمالة الطلاب اليها والي برامجها ورؤاها ومرشحيها في انتخابات اتحاد الطلاب السنوية وانتخابات الروابط الاقليمية نفسها لم تنج من أثار ذلك الصراع، كانت الحياة السياسية الصاخبة داخل الجامعة بمثابة صدمة قوية تواجه الطلاب القادمين من لجة الصمت المفروض خارج أسوار الجامعات  الي هذا البحر الصخاب داخل الجامعات، بالنسبة لى لم يكن هناك صدمة فقد تلقيت صدمة أكبر في وقت مبكر حين أغتالت سلطة مايو رفيقي في الدراسة الثانوية  وكشرت عن أنيابها في مواجهة مظاهرات طلابية وشعبية مسالمة في يناير 1982 في مدينة مدنى وسال الدم الطاهر وبلل قميصي فولجت طائعا في بحر السياسة معاديا لسلطة مايو وواقفا بجانب كل من يبشر باقتلاعها ويسعي له، جئت الجامعة وأنا جزء من الفعل السياسي ولست مجرد متفرج عليه، فكنت من السنة الأولى خطيبا سياسيا معارضا يخلط الشعر الثورى المقاوم بافكار ترسم جنة حالمة وطريقا للخلاص من طغمة مايو، كان غضبي الخاص ونيرانى الكامنة بداخلى أقوي من صغر سنى وقلة تجربتى فاندفعت في بحر السياسة الصخاب مستعينا بالشعر المقاوم الذي احفظه وبغضبى الخاص الذى يشد من عضدى ويقوى حجتى ويعطيها مصداقية يشعر بها من يستمع الى كلماتى التى تخرج من الأعماق حيث صورة طه ودمه النازف فوق الأسفلت وصورة والده يوسف عبيد وهو ممسك بقوائم السرير الذي يضم جثمان ابنه بعد سقوطه في وسط شارع الأسفلت والرصاص منهمر والكل منبطح ارضا وذلك الشيخ ممسك بالسرير الذى قاطع الرصاص رحلته الي المقبرة . كان ذلك المشهد يدفعنى دوما في قلب لجة السياسة ونشاطها مهما روادتنى نفسى الي حياة وادعة فقد كنت أتوق دوما الى اجواء جامعية عادية لا تأثير للسياسة عليها  كما كانت حياتى قبلاولكن السيف سبق العزل ولم يعد ثمة مجال للتراجع، فقد صنفت نفسي فصنفنى الاخرون وحكم على القدر حكما لايرد.ولامجال للتراجع, ليس سوى ان تريد أنت فارس هذا الزمان الوحيد كما قال "أمل دنقل.

لم يكن الطريق طريقى ، لكنه بات كذلك،كانت الجامعة حين ولجناها ممتلئة بلافتات كثيرة تنادى بأطلاق سراح المناضل فلان والمناضل علان وأخرى مبهمة تطالب بأطلاق سراح المعتقلين السياسين دون إيراد أسماء، وكان للجامعة نجومها في مجال السياسة مثلما كان لها نجوم في مجالات أخرى، ولعل أبرز نجوم ذلك الزمن كانوا ( ياسر عرمان وعادل فيصل وأبوبكر محمد أبكر وعبدالله كوبيل ومجدى محمد أحمد وعادل عبد العاطى وهدى عبد الحميد ) من الجبهة الديمقراطية، و(بيرم وجودة وحاتم بيرسي والمرحوم سرى وعمر عبدالله ) من الناصريين ، و(نادر السمانى ومحمد عبد الجليل) من جبهة كفاح الطلبةحزب البعث ،و( محمد عثمان الفاضلابى ومحمدعكاشة ) من الحزب الاتحادى الديمقراطى ، و(مكين ويوسف وصديق الأنصارى) من حزب الأمة وكان للاتجاه الأسلامى وجوه بارزة كثيرة منها( أبوبكر دينق الجاك ووفاء جعفر وعبدالهادى  وعثمان الكباشي ومعتصم الفادنى وعمر نمر وعادل عبد الرحمن والأخوين                      بلل (حسن وحسين  )  كان هناك تنظيم المؤتمر الوطنى الأفريقي
anc
  وهو خاص بطلاب جنوب السودان وأبرز قياداته (قيري رايمندو/ وجون كلمنت ، وجيمس الالا دينق، وجورج أنقير، وجورج لادو، والبينو وزكريا وميانق وافات)  وهناك مؤتمر الطلاب المستقلين وابرز قياداته  المرحوم محمد الهزيل حاج حسن والاخ محمد زين وحتى الاتحاد الاشتراكى كان له قيادة معروفة ممثلة في عبد السلام حمزة، وكان هناك تنظيم الاخوان الجمهوريين ومن أبرزهم خالد بابكر. وكان هناك تنظيم للاخوان المسلمين جناح صادق عبد الله عبد الماجد وتنظيم لجماعة أنصار السنة المحمدية. أما أنا فقد كنت بتأثير أصدقائي في مدنى وحدث استشهاد طه يوسف عبيد قد انخرطت في الجبهة الديمقراطية منذ العام الأخير في المرحلة الثانوية، كان الشعر صاحب تأثير كبير في اختيارى فقد كانت دوواين الشعر الثوري لشعراء المقاومة الفلسطسنيةلاتفارق اصدقائي وبت مدمنا للشعر والمقاومة وكانت أشعار محجوب شريف عالما جميلا جذبنى كالمنوم مغناطيسيا الي عوالم الثورة والشهداء والحنين الي الأمهات 

والتغنى بالمستقبل ، كنت مفتونا بمحجوب شريف حد اننى كنت افتتح خطابتى بإشعاره وبها اختتم  وكان البرنامج السياسي الذى نبشر به خليطا من تصوراتنا البرئية عما يجب ان يكون عليه الكون حولنا وخليطا من غضب شخصى وغبينة شخصية وخليطا من أحلام الشعراء، لذلك اعترف الان اننى كنت ابيع بدون مقابل لزملاء الدراسة حلما طوباويا غير قابل للتحقيق ولكننى كنت أظن وأؤمن وقتها بقابليته للتحقيق وأراه طريقا وحيدا للخلاص وأركل كل ماعداه، كان العمل السري نفسه مغامرة تستهوي من هم في سننا بالغموض الذى يحيط بكل شئ والأعمال الخارقة التى تنسب لرجال غامضين نراهم مختفين ومحلقين مثل سوبرمان والوطواط في عوالم خفية بقدرات خفية، كنا خارجين من عوالم الغاز المغامرين الخمسة وسمير وميكى والوطواط وسوبرمان اللذان يعيشان مثل ابطالنا الغامضين حياتين واحدة علنية يتسترون فيها خلف شخصية ساذجة وأخرى سرية يمارسون فيها دورا خفيا في انقاذ العالم من الشرور والأشرار، وهكذا بالضبط كانت نظرتنا للعمل السرى في زمن مايو عندما دخلنا الجامعة،أردنا ان نكون جزءا من رجال خارقون يمارسون مهمة نبيلة هى تغيير العالم الي الافضل، لذلك كان شيئا مشوقا ان نكون اعضاء في جماعة سرية نحمل فيها اسماء مستعارة اغلبها لها علاقة بالسير المبهرة التي قرأناها وسمعنا بها عن شعراء وقادة ثوريون مثل جيفارا والشفيع وعبدالخالق المشهور بالرفيق راشد ومثل  الشاعربابلو نيرودا وسلفادورالليندى الرئيس     التشيلي التقدمى المنتخب الذى ازاحه انقلاب امريكي قاده الجنرال بينوشيت وقاتل الرجل الانقلابيون حتى آخر طلقة وقتل والشاعر التركى ناظم حكمت ،كان عالما فانتازيا مبهرا ذلك الذي وجدنا انفسنا في قلبه، فاندفعنا بحماس الي قلب المظاهرات والاركان الملتهبة ومعارك الانتخابات الطلابية التى نتخيل انها ستغير الكون باكمله نتيجتها، وكانت كتابة الجريدة الحائطية ولصقها بالجامعة مغامرة مثيرة الفصول تجعل صورتنا كرجال خارقين تبدو أقرب الي الحقيقة، وكان مرور بعض زملائنا الذين يظنون انهم كوادر سرية غير معروفة في الجامعة أمام الصحيفة المعلقة  وتوقفهم عندها للقراءة ببراءة مفتعلة وهم من حرورها وشاركوا في كتابتها حدثا يشعرنا بأننا نملك مفاتيح الأسرار 
ويجعلنا نحس بخطورتنا وخطورة مهمتنا التى نباشرها سرا وعلنا.


أتذكر طاقم تحرير صحيفة الشرارة صوت الجبهة الديمقراطية بالجامعة في ذلك الزمان والتى اشتهرت بعبارة ثابتة بها تقول( ومن الشرارة يندلع اللهيب)، كانوا خليطا متنافرا منسجما، أحدهم حلفاوى يسمي محمد فتحى محمد جبارة نحيل العود حتى انك تخشي عليه من أي ريح مهما صغرت فهى قد تتلاعب به كما تللاعب بورقة صغيرة، لكنه كان صبورا جلدا يعمل بلاكلل ساعات طوال في أي وضع و أي مكان في كتابة الجريدة الحائطية باقلام الشينى الملونة بخط جميل مقروء، وهناك نحيف آخر من ابناء كوستى يسمي عبد السلام كان فنانا في الخطوط وصاحب شخصية ساخرة وساحرة ونكتة حاضرة وروح عالية لايعرف الغضب أو الانفعال طريقا اليها، وهناك ثالث يتميز بعلاقته القوية بالتدخين والحكايات أثناء عمله وهو قبطى  ظريف يسمي فرانسوا  تراه دوما مرتديا بنطلون الجينز ونظارته الطبية علي وجهه وسيجارته لاتفارق يده ، كنا نسميه القسيس  وكان مخزن حكايات لاينضب حتى اننى استطيع الجزم انه لو حضر زمان القنوات الفضائية لكان لوحده انجح قناة قادرة علي جذب انظار وآذان المستمعين اليها، كانت كل ثانية معه عبارة عن نكتة وكل موقف يسرده عبارة عن حكاية مشوقة الفصول وكان دوما مركز اهتمام واستماع الحاضرين، كان صبورا هو الآخر وفنانا في التنسيق الفنى واستخراج العناوين الجاذبة والمثيرة، كانت له لازمة لطيفة جدا فهو لايورد أسم احد الاصدقاء الا كاملا متبوعا باسم الاب ماعدا اسم صديق واحد اشتهر بيننا باسم كامل الحلبي بسبب لونه فكان يقول أسمه مجردا ، كان هناك عوض الله الحلفاوى البدين نوعا ما، وهو رجل ضاحك دوما كطفل واذا قابلته في الجامعة يوما فلن يخطر علي بالك أبدا أن  صاحب هذا الوجه الضاحك منخرط في أي نشاط من أي نوع سوي الضحك وربما الملاكمة ، وكان هناك شخص آخر نحيف قصير القامة لكنه مثل ابو الدقيق في سرعة انفعاله ومثل النحلة في لسعة تعليقاته الساخرة ولعل ذلك كان سبب شهرته باسم (على الوجيه)  وهو علي ابكر الحصان الضاحك دوما 
الذى تزوج فيما بعد زميلة دراسة ومشاوير ذات ملامح آسيوية وهى خرطومية فأطلق عليها الاصدقاء أسم أوشين بطلة المسلسل الشهير بسبب ملامحها الآسيوية، علي هذا حكاية شيقة الفصول  وكان لنا معه وفي بيتهم باركويت ذكريات جميلة وضحكات طاولت عنان السماء واجتماعات ظننا لسذاجتنا انها قد تغير العالم أو علي الأقل وطننا لكنها مضت مثل دخان السجائر العالق المصاحب لها ولم تترك إلا الذكريات المتعلقة بها وبمن كانوا فيها وبعض ما جرى هنا أو هناك،تفرقنا أيدى سبأ وبتنا حين نلتقى بعد غياب السنين نلتقي لقاءات عامرة ببعض الدفء الذى مضى ولكن بلا أحلام وبلا شرارة يندلع منها لهيب ،لم يبق لنا شئ سوى المحبة فقط لذلك الزمان البرئ الذى كنا فيه في كوكب من الأحلام ندور وندور، لم أكن أملك أي موهبة فيما يتعلق بالخط والكتابة بالقلم الشينى ولكننى كنت ولازلت عاشقا لكتابة النصوص من أي نوع فوجدت نفسي محررا مهمته كتابة مسودته والدفع بها للخبراء لإخراجها في ثوب قشيب ، وهكذا عرفتهم وبت جزءا من عالمهم المثير، لا أدرى أين غابوا الآن في الزحام لكن ليس هناك على حد علمى من اشتغل منهم بالصحافة سوى فرانسوا لوقت قصير وفي مهام ادارية، أما انا فاشتغلت بالصحافة حينا مستفيدا من تجربة التحرير المبكرة التى يجب أن أقول اننى بدأتها منذ الثانوى قبل ولوج الجامعة حيث كنا نصدر صحيفة حائطية بمدرسة السنى  الثانوية بمدنى وهي صحيفة ذات طابع ثقافى عام، وقبل ذلك كنت اشارك في صحيفة نادي حي 114 الحائطية . 
وجوه كثيرة تطرق أبواب القلب والذاكرة هنا وتتزاحم علي مسرح الأحداث باحثة عن موطئ قدم،وجه يرتدى صاحبه نظارات طبية تقليدية الإطار ويرسم الجدية دوما علي محياه ودوما يحمل كتابا ذو عنوان معقد ومثير وغامض فهو عاشق للقراءة وغارق حتى أذنيه في القراءة في كل فروع المعرفة فهو طالب حقوق لكنه مغرم بالفلسفة وكتبها ذات المصطلحات الغامضة والمخيفة وهو مغرم بالاقتصاد السياسي ونظرياته وشروحاتها ، ومغرم بالروايات والأشعار وسير المفكرين واالفلاسفة
كان صاحب مصطلحات تتكرر في مناقشاته كثيرا
فتجعل البعض ينزوى جانبا ثم ينسحب خوفا من إبراز جهله 
أما صاحب الوجه فقد كان في الحقيقة حالما كبيرا
وجائعا كبيرا الي المعرفة ومرهفا الي حد انك تخاف عليه من النسيم
فيما بعد أدخلته تلك الرهافة في أزمات أخذت من وقته كثيرا حتى استطاع تجاوزها
كان دوما زهرة تعلم انها ضعيفة فتحيط نفسها بالأشواك
كان دوما طفلا كبيرا يكسو وجهه بقناع الكبار حتي لايتم ضبطه متلبسا بطفولته
كان فيه شبه أدركته مؤخرا من أبطال رواية أوسكار وايلد

(أهمية أن تكون جاداً (The Importance of Being Earnest)  
من حيث محاولة الظهور بمظهر مغاير للحقيقة
وكانت تلك المحاولة دلالة نبل وليس العكس
يا الله كم تترابط الأشياء في الحياة إذا تمعنا فيها جيدا
فلم يضع جهد اساتذتنا الذين درسونا الأدب الانجليزى هباءا منثورا
بل بقيت كلماتهم في القلب والذاكرة
وأضاءت لنا كثيرا من ظلام الحياة