الاتجاه غربا( أيام دارفور )
الايام الأولى في
دارفور كانت مهرجانا من الدهشة المستمرة،جئتها منقولا من ولاية نهر النيل فيما
يشبه حملات الدفتردار الانتقامية، وتلك قصة طويلة لاتستحق الحكى فهى قصة النفوس
المظلمة حين تحارب من تظنه عدوا، وهى سلسلة من قصص مماثلة حدثت في ذلك الزمان الذى
باتت فيه الوظيفة العامة تعج بأصحاب النفوس المظلمة الذين اعترض احدهم سبيلى فنشر
الشوك على دربي كما تقول اغنية قديمة محببة الي ، المهم أننى وجدت نفسي مع شريكة
حياتى على متن طائرة من طائرات الخطوط الجوية السودانية متوجها الى فاشر السلطان
التى سماها بعضهم ( ارض الجزاءات) وما كان يدرى انها أرض الخير والطيبة كما تقول
أغنية اخرى شهيرة للكاشف،كان الزمان آواخر الخريف ، منتصف شهر سبتمبر من آخر عام
في الالفية الثانية(1999)، مكثنا في مطار الخرطوم بضع ساعات بسبب غريب وهو ان
الطائرة المخصصة لرحلتنا تم توجيهها للقيام برحلة اخرى تضجر اصحابها من انتظار
طويل، وكان لزاما علينا انتظار ذهابها وعودتها،كنت اتفحص وجوه المسافرين كى اتعرف
على العالم المجهول الذى اتجه اليه،كانوا
خليطا من ركاب متجهين الى مدينتا (الفاشر) و(نيالا ) حسب مسار الرحلة الذي يقضى
بالنزول بمطار نيالا ، ثم معاودة الطيران الى الفاشر حيث تنتهى رحلتنا،لم يكن من
السهل تمييز ركاب نيالا من الفاشر، وهو الأمر لذى بات ميسورا فيما بعد بالنسبة لى
من خلال كثرة السفر والإقامة ومعرفة خصائص أهل كل مدينة المميزة عن الأخرى. كان
هناك ركاب مثلنا لاينتمون لهذه او تلك ، بل كانت الوظيفة هى رباطهم بدارفور، ضباط
شرطة، ضباط جيش، سياسيون صغار، تجار شماليون( جلابة) ، وكان هناك بعض الاجانب
الذين لاتخلو منهم طائرة كما علمتنى التجارب فيما بعد،وكنت اجهل طبيعة المكان الذى
كتب على ان أعيش فيه ست سنوات من اجمل سنوات عمرى واتعلق به تعلقا لامثيل له، كنت
احمل صورا مشوشة وغامضة عن ذلك الجزء من وطنى،صورا مخيفة يمكن تلخيصها بكلمة واحدة
هى الخوف، امى عليها رحمة الله رفعت أيديها للسماء ودعت لى دعاء طويلا وضمتنى
اليها بكل الحنان الموجود بالكون وهى تدعو
لى بسلامة الوصول والعودة، وهى تهمس في
أذنى بتجنب الدخول في أي صراعات وعداوات
حتى تنقضي ايامى هناك بسلام، ولم يكن بمقدورها ان تعلم شيئا عن طيبة اهل المكان
وقتها، ولكن بعد ذلك بعدة سنوات حين قيض الله لها ان تحج بيت الله الحرام بمعيتى ،
وقيض لها ان تحل ضيفة ببيت آمال التجانى حفيدة الملك آدم صبي ملك الزغاوة بمدينة
جدة، شهقت أمى وهمست في أذنى معتذرة عن سوء ظنها بالغرب واهله قائلة بصراحتها
المعهودة( الصلاة على النبي، فعلا الما بتعرفوا تجهلوا) وظلت بعد ذلك تحكى في كل
مناسبة وبلا مناسبة عن حفيدة الزغاوة التى
غيرت نظرتها الى اهل الغرب كله. المهم حلقت الطائرة أخيرا ميممة غربا،كان قائدها
طيارا شهيرا انتقل بعد ذلك بسنوات الى الرفيق الأعلي في حادث تحطم طائرة، كان رجلا
لطيفا مميزا،بدا رحلته بالترحيب بركابه ودعاء جميل ،وحين اقترب من مدينة نيالا كان
الجو ماطرا وبديعا فدار بالطائرة شارحا المعالم الظاهرة وابرزها جبل مرة باقتدار ،
ثم حط بسلام بمطار نيالا بعد دورة حوله بينت معالمه. بقيت الطائرة هناك على مدرج
المطار الصغير مايكفى لنزول ركاب نيالا وركوب آخرين متجهين الى الفاشر ، من ثم
عاودت التحليق نحو الفاشر من جديد، وحين اقتربت الطائرة من الفاشر بدأت في التحليق
على علو منخفض مثل نسر يريد الانقضاض على فريسته، دار الطيار بطائرته وهو يمارس
دور الدليل السياحى معرفا بالمكان ومستوى تحليقه ، كانت الأرض بالاسفل بستانا أخضرا ممتدا الى ما لانهاية،
البيوت صغيرة مثل علب الكبريت ، الطرق متعرجة مثل ثعابين تسعي، الأشجار والجبال
مثل الأوتاد المغروسة في الأرض، اما المطار الصغير فقد بدا موحشا وقاحلا كسفينة في
صحراء.
تسعدنى تعليقاتكم هنا، فهى أثركم هنا مثلما كتاباتى هى خطواتى على رمال الزمان
ReplyDelete