Monday, May 25, 2015

أيام دارفور(4)( الطريق الى مليط)


كان الطريق موحشاً، ففي بعض اجزائه تغطس العربة وسط حشائش طويلة تزيد الوساوس والمخاوف الكامنة من خطرمغروس في مكان ما قد يبرز فجاة، كنا صامتين وهدير المحرك يبدو عاليا كهدير مظاهرة من مظاهرات الخرطوم ايام النميري، وكان الخوف من المجهول قاسما مشتركاً بين اللحظتين ،وحين برز على البعد رجلان على صهوة جمال  خفقت القلوب وجف الحلق، وحين حاذتهما العربة اكتشفنا ان الخوف متبادل، واصلنا السير، بدت معالم مليط الغارقة في قلب واديها الشهير، دخلناها من اعلى نقطة عند بوابتها لننحدر من حلة ساتى الواقعة فوق ربوة عالية مطلة على وادى مليط الذى خلده العباسي بقصيدته الشهيرة التى كتبها وهو على الربوة في حلة ساتى يتأمل الوادى الاخضر تلك المعجزة في قلب الصحراء التى تشق المنطقة من الشرق الى الغرب  حاملة الخصب والخضرة والماء الذى يختزنه خزان مليط الصغير في الخريف ليبقي سقيا للناس والحيوانات والاشجار حتى الخريف القادم.
غنى العباسي عند اعتاب الوادى نفسه:

(حيّاكِ «ملّيطُ» صوبُ العارضِ الغادي وجاد واديكِ ذا الجنّاتِ من وادِ
فكم جلوتِ لنا من منظرٍ عَجَبٍ يُشجي الخليَّ ويروي غُلّةَ الصادي
أنسَيْتِني بَرْحَ آلامي وما أخذتْ منا المطايا بإيجافٍ وإيخاد
كثبانُكِ العفرُ ما أبهى مناظرَها أُنسٌ لذي وحشةٍ، رِزقٌ لمرتاد
فباسقُ النخلِ ملءُ الطرفِ يلثم من ذيلِ السحابِ بلا كدٍّ وإجهاد
كأنه ورمالاً حوله ارتفعتْ أعلامُ جيشٍ بناها فوق أطواد
وأعينُ الماءِ تجري من جداولها صوارماً عرضوها غيرَ أعماد
والوُرْقُ تهتف والأظلالُ وارفةٌ والريحٌ تدفع ميّاداً لميّاد
لو استطعتُ لأهديتُ الخلودَ لها لو كان شيءٌ على الدنيا لإخلاد.)

كنت انشد بعضا من تلك الأبيات في سرى طول الطريق، ولم اكن أظن ان الشعر بمقدوره ان يمارس التصوير الحى بهذه الدقة، ففى قلب الصحراء برز النخيل باسقا وبرزت جنان مليط في قلب كثبان الرمال التى كانت العربة غارقة فيها وهى تزأر كاسد جريح يبحث عن مخرج ، تملكنى ذات شعور العباسي :( فكم جلوتِ لنا من منظرٍ عَجَبٍ يُشجي الخليَّ ويروي غُلّةَ الصادي) ونسيت كل  اثقالى وهواجسي ووقفت مشدوها امام مايشبه النهر الصغير والواحة في قلب الصحراء، صرخت دواخلى مثلما تصهل الخيل عند الصدام( هذه بلاد بديعة....هذه بلاد لن يسكنها شئ سوى الجمال).. ودخلت العربة مليط عبر جسر صغير تجتازه السيارات لتعبر الوادى الى الجزء الآخر من الربوة الذى ترقد فيه مليط كعروس في خدرها وأميرة فوق عرشها.

No comments:

Post a Comment

شكرا علي المشاركة والتواصل