Sunday, May 31, 2015

أيام دارفور(6)(مليط من الداخل) مدينة تكافح النهب والحروب والاوبئة


بدأت فور وصولى ممارسة حياتى الطبيعية وعملى، كان البيت عبارة عن غرفتان أمامهما صالة واسعة وملحق بهما صالون واسع هو الآخر يتخذ شكل غرفة كبيرة، هذه المبانى مبنية بشكل مرتفع عن الأرض حوالى المترين تقريبا، وللبيت درجات تقودك الى الفناء وهو عبارة  عن حوش واسع  أرضيته مغطاة بالرمال ، بينما أرضية المنزل الموصوف اعلاه مكسوة بطوب احمر مبلط بالأسمنت. المطبخ موجود في الحوش وهو عبارة عن غرفة صغيرة وهناك حمام داخلى للاستحمام فقط ملحق بالمنزل، بينما هناك غرفتان صغيرتان في الحوش قبالة المطبخ مبنيتان فوق بئر لقضاء الحاجة على الطريقة التقليدية.المحكمة عبارة عن مبنى صغير في وسط المدينة وهى تبعد عن المنزل مسفة قصيرة أقل من نصف الكيلو ،ليس فيها مبان تذكر، مكتب القاضي وهو قاعة صغيرة بها جزء عال مفصول بسياج حديدى خلفه تربيزة متواضعة وتلفون وكرسي وحيد للقاضى وكرسيان آخران،امام القاضى تربيزة مستديرة مخصصة للمحامين وعلى يمينه سياج حديدى آخر بداخله كنبة مخصصة لجلوس المتهمين، باقي القاعة بها كنب موضوع لجلوس النظارة .شباك المحكمة يطل مباشرة على منزل ملك قبيلة البرتى وكان آنذاك الملك الراحل/ حسين احمداى ادم  تميم . والمنزل عبارة عن قصر متواضع لكنه بالنسبة للمكان قصر فخيم واكثر مايميزه تلك القطاطى المصنوعة من القش الموجودة في فنائه وهى لفتة مقصودة تبين اعتداد اهل دارفور بتراثهم ورموزه.طبيعة القضايا في مليط قضايا متعلقة بالمعاملات التجارية( ديون) ، فالمدينة مركز حدودى بين السودان وليبيا ترد اليه البضائع من ليبيا وتخرج عبره بضائع سودانية الى ليبيا وهى منفذ للهجرة  الى ليبيا للعمل  والعودة الى السودان. وهناك قضايا جنائية معظمها جرائم نهب مسلح وقتل وحيازة غير مشروعة للأسلحة النارية مرتبطة بحوادث النهب في معظم الاحوال، وهناك بالطبع بعض نزاعات الاحوال الشخصية المتعلقة في الغالب بطلب الطلاق للغيبة والنفقات والميراث. في تلك الأيام كان ثمة حرب قبلية ضارية بين قبيلتى البرتى والميدوب قد وضعت أوزارها للتو وكان ثمة مؤتمر للصلح القبلى يجرى الإعداد له، فوجدت نفسي في قلب مؤتمر الصلح  مما أتاح لى فرصة نادرة وثمينة لمعرفة طبيعة دارفور وأهلها وأعرافهم  وأعراقهم وصراعاتهم وأسبابها

والأكثر أهمية أننى وقفت على تراث قانونى عرفى فريد عبر تلك الايام مع قادة وزعماء القبيلتين المتصارعتين والأجاويد من القبائل الأخرى، وقفت مشدوها أتعلم  منهم ما لم أتعلمه في الجامعة ولا يوجد في أى مرجع مكتوب، هى ثقافة المكان الفريدة التى يرضعها اهله مع حليب الأمهات، تلك التجربة الفريدة وماتلاها من تجارب مماثلة أهلتنى فيما بعد لأصبح واحدا من بين ستة خبراء وطنيين في شؤون دارفور طلبت منهم الحكومة نصحاً بشأن أزمة دارفور  حين تفجرت بعد ذلك بثلاثة اعوام وكانت ثمرة ذلك التكليف تقريرا و تنويرا دقيقا عن أوضاع دارفورواسبابها قدمته للحكومة تلك اللجنة التى تشرفت بعضويتها.وكانت تجربتي في دارفور خير زاد لى في روايتى ( عيون التماسيح) المعطونة في أحزان تلك لبقعة الطيبة التى عشت فيها أجمل أيام حياتى وبعض أكثرها قسوة،واعنى هنا تلك الأيام التى تفشي فيها وباء الكوليرا في مليط وحصد الارواح، فاض المستشفى الصغير بالمرضى حتى ضاق بهم وباتت المساحة الواقعة بين بيتى وبين المستشفي امتدادا لعنابره تعج بالمرضى والمرافقين، اظهر الطبيب  ومعاونيه بسالة كبيرة وهم يقفون وسط المرضى مستعينين بكمامات وتعقيم بسيط ودواء في حدود امكانات مستشفي صغير، لم يكن جائزا أن نهرب الى الفاشر في هذه الظروف ونترك من آوونا في محنتهم فبقيت وزوجتى على بعد أمتار من العدوى، ولا نأكل الا المعلبات وماتصنعه زوجتى  بالبيت وشمل ذلك حتى الرغيف، وقد شملتنا عناية الله كما شملت اهل مليط وأنقضت تلك الفترة العصيبة بسلام.

Friday, May 29, 2015

(أيام دارفور) /(5) مليط ( ملامح مدينة غارقة في الرمال)




لايتصور احد من اهلنا في شمال السودان ان تكون مليط  غارقة هى وبيوتها الطينية والتى من القش في وسط تلال من الرمال مثل ابوهشيم العزيزةوغيرها من قرى شمال السودان الواقعة في مناطق تجمع بين النيل والصحراء ، كنت اظن (مليط )مثل (الفاشر ) التى يتوسطها (رهد تندلتى) _الذى  حملت منه اسمها القديم _والذى بات يسمى حاليا (النقعة) مدينة طينية الملامح تحيطها جبال سوداء ولارمال فيها، لكننى وجدت مليط غارقة في الرمال ولها مايشبه النهر الصغير في وسطها،وهو ودايها الموازى لنهر النيل هناك، دخلنا (مليط )عبر مدخل صخرى ولكننا فوجئنا بعده ببيوت  صغيرة غارقة في الرمال، بدا ذلك انتقالا مدهشاً، وقفت العربة امام دار فسيحة انيقة مطلية من الخارج وهى مبنية فوق ربوة عالية قبالة مستشفى مليط وفي مواجهة وادى مليط ، كانت تلك الدار  هى منزل القاضي المقيم الذى سكنت فيه عامين مرا كلمح البرق، كان البيت مميزاً كأميرة بين وصيفاتها، فهو يبدو  وسط البيوت الصغيرة المحيطة به وتلال الرمال التى تحيط به من كل الجهات مثل اسد رابض في خيلاء وهو يتأمل مملكته من علَ، أمام البيت  قبالة بابه الصغير كان ثمة شجرة لالوب عملاقة فروعها اعلى من سور الدار وأعلى من سقف غرفة ملاصقة للباب هى مطبخ البيت، وهناك باب آخر كبير في الجانب الاخر من البيت جواره غرفة أخرى هى التى تحتضن بابورا صغيرا يعرف بماركته(الليستر) يستخدم في توليد الكهرباء  للبيت( فمليط ليس بها شبكة كهرباء)،وامام البيت المح صبية صغار يقودون حمير نحيلة ترفع اقدامها الصغيرة بصعوبة من الرمال وهى تئن بحمولتها من المياه المعبأة في (خروج) مصنوعةمن الجلد ، فمدينة مليط ليست بها شبكة مياه ، يشرب الناس من مصدرين للمياه( الخزان) وهى مياه المطر المحبوسة في وادى مليط بواسطة خزانها الصغير، المصدر الثانى ابار قندول عند منتصف الوادى قبالة غرونا احد احياء مليط وتقوم عربة فنطاز تتبع لشرطة الجمارك آنذاك بتوزيع تلك المياه ويشاطرها  باعة الماء من اصحاب الحمير مهمة التوزيع.كنا نسمى فنطاز الجمارك( هئية توفير المياه) على سبيل التندر، لكن عندما يغيب احمل براميل البلاستيك الزرقاء على ظهر العربة اللاندكرور واعبر الوادى الى حيث ابار قندول حيث تصطف الحمير والاغنام والسيارات والبشر  لأخذ حاجتهم من الماء، وأعود حاملا حصة لن تدوم سوى ايام قليلة ثم أعود ثانية. وكان السائق فخرى يكفينى مؤونة هذه الرحلة في أغلب الاحيان مستعينا ببعض شباب شرطة المحكمة . كان جارى الملاصق ضابطا اداريا بمحلية مليط يدعى مدين وهو من ابناء جنوب السودان المسلمين، الجار الثالث كان معلما وفنانا تشكيليا من ابناء قبيلة البرتى كبري قبائل منطقة مليط ، كان اسمه (جارا) وكان بيته الصغير بستانا اخضرا ومتحفا عامرا بالمصنوعات الفلكلورية واللوحات من رسمه وتصميمه وخطه الجميل، كان البيت مصنعا للجمال. وكان الرجل نفسه مثقفا استثنائيا يحاكى الحديقة في تنوع مواهبه ومعارفه . فقد كان رساما ومصمما وكاتبا ومؤرخا مدققا يجمع تاريخ المنطقة والقبيلة بدقة وأناة يحسد عليها. وكان صاحب مدرسة خاصة فريدة الملامح . وشيئا فشيئا بدأت اكتشف الذهب لمطمور في رمال مليط الغارقة نهاراً وليلاً في الرمال ، والغارقة ليلاً في الظلام.

Monday, May 25, 2015

أيام دارفور(4)( الطريق الى مليط)


كان الطريق موحشاً، ففي بعض اجزائه تغطس العربة وسط حشائش طويلة تزيد الوساوس والمخاوف الكامنة من خطرمغروس في مكان ما قد يبرز فجاة، كنا صامتين وهدير المحرك يبدو عاليا كهدير مظاهرة من مظاهرات الخرطوم ايام النميري، وكان الخوف من المجهول قاسما مشتركاً بين اللحظتين ،وحين برز على البعد رجلان على صهوة جمال  خفقت القلوب وجف الحلق، وحين حاذتهما العربة اكتشفنا ان الخوف متبادل، واصلنا السير، بدت معالم مليط الغارقة في قلب واديها الشهير، دخلناها من اعلى نقطة عند بوابتها لننحدر من حلة ساتى الواقعة فوق ربوة عالية مطلة على وادى مليط الذى خلده العباسي بقصيدته الشهيرة التى كتبها وهو على الربوة في حلة ساتى يتأمل الوادى الاخضر تلك المعجزة في قلب الصحراء التى تشق المنطقة من الشرق الى الغرب  حاملة الخصب والخضرة والماء الذى يختزنه خزان مليط الصغير في الخريف ليبقي سقيا للناس والحيوانات والاشجار حتى الخريف القادم.
غنى العباسي عند اعتاب الوادى نفسه:

(حيّاكِ «ملّيطُ» صوبُ العارضِ الغادي وجاد واديكِ ذا الجنّاتِ من وادِ
فكم جلوتِ لنا من منظرٍ عَجَبٍ يُشجي الخليَّ ويروي غُلّةَ الصادي
أنسَيْتِني بَرْحَ آلامي وما أخذتْ منا المطايا بإيجافٍ وإيخاد
كثبانُكِ العفرُ ما أبهى مناظرَها أُنسٌ لذي وحشةٍ، رِزقٌ لمرتاد
فباسقُ النخلِ ملءُ الطرفِ يلثم من ذيلِ السحابِ بلا كدٍّ وإجهاد
كأنه ورمالاً حوله ارتفعتْ أعلامُ جيشٍ بناها فوق أطواد
وأعينُ الماءِ تجري من جداولها صوارماً عرضوها غيرَ أعماد
والوُرْقُ تهتف والأظلالُ وارفةٌ والريحٌ تدفع ميّاداً لميّاد
لو استطعتُ لأهديتُ الخلودَ لها لو كان شيءٌ على الدنيا لإخلاد.)

كنت انشد بعضا من تلك الأبيات في سرى طول الطريق، ولم اكن أظن ان الشعر بمقدوره ان يمارس التصوير الحى بهذه الدقة، ففى قلب الصحراء برز النخيل باسقا وبرزت جنان مليط في قلب كثبان الرمال التى كانت العربة غارقة فيها وهى تزأر كاسد جريح يبحث عن مخرج ، تملكنى ذات شعور العباسي :( فكم جلوتِ لنا من منظرٍ عَجَبٍ يُشجي الخليَّ ويروي غُلّةَ الصادي) ونسيت كل  اثقالى وهواجسي ووقفت مشدوها امام مايشبه النهر الصغير والواحة في قلب الصحراء، صرخت دواخلى مثلما تصهل الخيل عند الصدام( هذه بلاد بديعة....هذه بلاد لن يسكنها شئ سوى الجمال).. ودخلت العربة مليط عبر جسر صغير تجتازه السيارات لتعبر الوادى الى الجزء الآخر من الربوة الذى ترقد فيه مليط كعروس في خدرها وأميرة فوق عرشها.

Sunday, May 24, 2015

ايام في دارفور(3)(الطريق الى مليط):



تقع مدينة مليط شمال الفاشر عاصمة ولاية شمال دافور، تبعد مسيرة ستة وخمسين كيلو مترا من الفاشر، يربطها بها طريق ترابي رملي غير مسفلت  وهو طريق متعرج  تتتخله جبال صغيرة متفرقة اشهرها جبلا (كلو) و(كلويات) عند مشارف مدينة مليط.في صباح جميل في اليوم الثانى عشر من شهر سبتمبر العام 1999 يممنا صوب مليط بعربة لاندكروزر قديمة موديل 1978 (  كانت سائدة في عربات القضائىة هناك  بسبب وعورة الطرق كنا نسميها  باللاند كرور سخرية وتندرا) وكان يقودها سائق شاب صغير في السن من ابناء مليط  يدعى فخرالدين هو سائق عربتى طوال عملى بمحكمة مليط(1999_ 2001 )، كان شابا في نهاية العشرينات ، متجهم الوجه دوما، ومعتدا بنفسه اعتدادا ظاهرا، قليل الكلام، لكنه خبير بالطريق وجيد في قيادته ،كنت متجها لمقر عملى الجديد كقاضى مقيم يتولي اعباء القضاء والنيابة وحيدا في منطقة كبيرة تمتد من حدود مدينة مليط حتى آخر نقطة في حدود ولاية شمال مع الولاية الشمالية و ليبيا،ويشمل ذلك مدينة الكومة حاضرة قبيلة الزيادية ومدينة الصياح حاضرة قبيلةالبرتى الثانية بعد مليط و مدينتا(مدو) والمالحة حاضرتا قبيلة الميدوب، وهناك مدن صغيرة وقري عديدة أخرى بالمنطقة ذات الطابع الرعوى الزراعي البسيط، وكانت منطقة مليط كلها في ذلك الزمن تتبع لمحافظة الفاشر ولم تكن قد باتت محلية مستقلة بعد.كانت فتنة دارفور الكبرى لم تشتعل بعد، ولم يكن ثمة خطر بالطريق سوى النهب المسلح الذى كان منتشرا في الطرق بين المدن. خلال اقامتنا القصيرة بالفاشر سمعنا الكثير من القصص عن حوادث النهب المسلح وسمعنا في المقابل الكثير من القصص المطمئنة  عن سلامة الطريق ، وسمعت من السائق الصموت بعض القصص عن حوادث النهب وعن ثقافة السفر دون اعلان مسبق عن مواعيده، وعن تجنب حمل العساكر بزيهم الرسمى لأنهم جاذبون لعصابات النهب، المهم توكلنا على الله وتحركنا انا وزوجتى وطبقنا الراحل معنا من شندى الى الخرطوم الفاشر مليط وشنطة ملابس متوسطة واحلام عريضة بالامن والامان وسلامة الوصول والعودة، تحركنا مع سائقنا الشاب ، كانت الأرض مغطاة ببساط اخضر جميل، الطريق خال كاننا نسافر وحدنا فيم عدا سيارات محملة بالناس والبضائع تقابلنا بصورة متقطعة حتى بلغنا منطقة تعرف ب(ام مراحيك) وهى منطقة جميلة تمثل استراحة للمسافرين وهى عامرة بمنتوجات محلية ومشروبات واطعمة. وفيها تستريح الاعصاب من توتر الطريق ووحشته  . ولن أنسي تلكما الشجرتان في الطريق بعد ام مراحيك في الطريق الى مليط  حيث تبرز امرأتان عجوزتان من العدم لتطلبا احسانا من العابرين وتتركا كثيرا من الاسئلة حول بروزهما من العدم في تلك المنطقة القاحلة بذلك العود النحيل لكل منهما .كانت الرحلة بذرة محبة اولى للمكان وأهله.

أيام دارفور (2) سيرة

عندما لامست عجلات الطائرة أرضية المدرج وركضت مثل نعامة رشيقة مسافة على المدرج قبل ان تستقر تماما ويرتفع صوت مهنئا بسلامة الوصول  تنفسنا الصعداء  وتهيأنا للخروج وكلنا شوق لمعانقة مجهول اسمه الفاشر،  لفحتنا نسائم  ساخنة على عتبات سلم الطائرة  فقد كان لايزال باقيا من حر الظهيرة بقية. جلنا بأعيننا في المطار الصغير،كانت المفاجأة بانتظارى غير بعيد، فقد كان زملاء المهنة على بكرة ابيهم في استقبالنا  عند سلم الطائرة  بمعية رئيس الجهاز القضائي آنذاك مولانا طلحة حسن طلحة ذلك الرجل الضخم الذى جعل اقامتنا هناك سهلة ورائعة بفضل قدرته في جعل الكل جسدا وعقلا واحدا ، كان ذلك  التقليد الفريد عنوانا بارزا لما هو كائن في ذلك المجتمع الصغير في تلك البقعة الساحرة.. خرجنا من المطار يومها في موكب من سيارات القضائية توجهت جميعها نحو منازل القضائية التى تقع شمال المطار وغرب استاد الفاشر، وكانت المساحة الواقعة امام تلك البيوت مكسوة بالحشائش الخضراء على امتداد البصر ولم يكن هنالك أي مبانى على الأطلاق في ذلك الزمن في تلك المنطقة سوى بيوت القضاة.كان أحد تلك البيوت معدا لاستقبالنا وهو منزل مؤثث بجميع الاحتياجات الضرورية قضينا فيه بضعة أيام قبل أن نشد الرحال من الفاشر الى مدينة مليط محطة عملى الأولى في دارفور. بالطبع لم ينته حفل الاستقبال بالمطار ، بل كان الاستقبال ممتدا ، شمل وجبة غداء جماعية وجلسة أنس وتعارف امتدت حتى ما بعد العشاء،وكان تجمعا على مستوى عائلي كبير. فيه دفء انسانا بعد السفر وهواجس كثيرة ارتبطت به. من الطرائف التى لا انساها ابدا اننى جئت حاملا معى طبقا ضخما مصنعا بمدينة شندى لالتقاط البث الفضائي  ومعه جهاز الاستقبال ظنا منى اننى لن اجد مثله بالغرب ، فوجدت أصغر القرى هنالك تعج بالاف الاطباق المستوردة  والمصنعة التى تعانق السماء مثل نسور جائعة، وانتهى طبقي العزيز بعد ذلك بسنوات هدية عند أحد المعارف بالفاشر تخلصا من عبئه بعد ان حلت محله الاطباق الصغيرة الانيقة القادمة عبر الصحراء من ليبيا.

Friday, May 22, 2015

الاتجاه غربا( ايام دارفور)

                     الاتجاه غربا( أيام دارفور )

الايام الأولى في دارفور كانت مهرجانا من الدهشة المستمرة،جئتها منقولا من ولاية نهر النيل فيما يشبه حملات الدفتردار الانتقامية، وتلك قصة طويلة لاتستحق الحكى فهى قصة النفوس المظلمة حين تحارب من تظنه عدوا، وهى سلسلة من قصص مماثلة حدثت في ذلك الزمان الذى باتت فيه الوظيفة العامة تعج بأصحاب النفوس المظلمة الذين اعترض احدهم سبيلى فنشر الشوك على دربي كما تقول اغنية قديمة محببة الي ، المهم أننى وجدت نفسي مع شريكة حياتى على متن طائرة من طائرات الخطوط الجوية السودانية متوجها الى فاشر السلطان التى سماها بعضهم ( ارض الجزاءات) وما كان يدرى انها أرض الخير والطيبة كما تقول أغنية اخرى شهيرة للكاشف،كان الزمان آواخر الخريف ، منتصف شهر سبتمبر من آخر عام في الالفية الثانية(1999)، مكثنا في مطار الخرطوم بضع ساعات بسبب غريب وهو ان الطائرة المخصصة لرحلتنا تم توجيهها للقيام برحلة اخرى تضجر اصحابها من انتظار طويل، وكان لزاما علينا انتظار ذهابها وعودتها،كنت اتفحص وجوه المسافرين كى اتعرف على العالم المجهول  الذى اتجه اليه،كانوا خليطا من ركاب متجهين الى مدينتا (الفاشر) و(نيالا ) حسب مسار الرحلة الذي يقضى بالنزول بمطار نيالا ، ثم معاودة الطيران الى الفاشر حيث تنتهى رحلتنا،لم يكن من السهل تمييز ركاب نيالا من الفاشر، وهو الأمر لذى بات ميسورا فيما بعد بالنسبة لى من خلال كثرة السفر والإقامة ومعرفة خصائص أهل كل مدينة المميزة عن الأخرى. كان هناك ركاب مثلنا لاينتمون لهذه او تلك ، بل كانت الوظيفة هى رباطهم بدارفور، ضباط شرطة، ضباط جيش، سياسيون صغار، تجار شماليون( جلابة) ، وكان هناك بعض الاجانب الذين لاتخلو منهم طائرة كما علمتنى التجارب فيما بعد،وكنت اجهل طبيعة المكان الذى كتب على ان أعيش فيه ست سنوات من اجمل سنوات عمرى واتعلق به تعلقا لامثيل له، كنت احمل صورا مشوشة وغامضة عن ذلك الجزء من وطنى،صورا مخيفة يمكن تلخيصها بكلمة واحدة هى الخوف، امى عليها رحمة الله رفعت أيديها للسماء ودعت لى دعاء طويلا وضمتنى اليها بكل الحنان  الموجود بالكون وهى تدعو لى بسلامة الوصول  والعودة، وهى تهمس في أذنى  بتجنب الدخول في أي صراعات وعداوات حتى تنقضي ايامى هناك بسلام، ولم يكن بمقدورها ان تعلم شيئا عن طيبة اهل المكان وقتها، ولكن بعد ذلك بعدة سنوات حين قيض الله لها ان تحج بيت الله الحرام بمعيتى ، وقيض لها ان تحل ضيفة ببيت آمال التجانى حفيدة الملك آدم صبي ملك الزغاوة بمدينة جدة، شهقت أمى وهمست في أذنى معتذرة عن سوء ظنها بالغرب واهله قائلة بصراحتها المعهودة( الصلاة على النبي، فعلا الما بتعرفوا تجهلوا) وظلت بعد ذلك تحكى في كل مناسبة  وبلا مناسبة عن حفيدة الزغاوة التى غيرت نظرتها الى اهل الغرب كله. المهم حلقت الطائرة أخيرا ميممة غربا،كان قائدها طيارا شهيرا انتقل بعد ذلك بسنوات الى الرفيق الأعلي في حادث تحطم طائرة، كان رجلا لطيفا مميزا،بدا رحلته بالترحيب بركابه ودعاء جميل ،وحين اقترب من مدينة نيالا كان الجو ماطرا وبديعا فدار بالطائرة شارحا المعالم الظاهرة وابرزها جبل مرة باقتدار ، ثم حط بسلام بمطار نيالا بعد دورة حوله بينت معالمه. بقيت الطائرة هناك على مدرج المطار الصغير مايكفى لنزول ركاب نيالا وركوب آخرين متجهين الى الفاشر ، من ثم عاودت التحليق نحو الفاشر من جديد، وحين اقتربت الطائرة من الفاشر بدأت في التحليق على علو منخفض مثل نسر يريد الانقضاض على فريسته، دار الطيار بطائرته وهو يمارس دور الدليل السياحى معرفا بالمكان ومستوى تحليقه ، كانت الأرض  بالاسفل بستانا أخضرا ممتدا الى ما لانهاية، البيوت صغيرة مثل علب الكبريت ، الطرق متعرجة مثل ثعابين تسعي، الأشجار والجبال مثل الأوتاد المغروسة في الأرض، اما المطار الصغير فقد بدا موحشا وقاحلا كسفينة في صحراء.