اتذكرها بشلوخها العريضة علي خديها وعيونها الواسعة وهمتها العالية وهي تجوب المدينة سيرا علي الأقدام في أغلب الأحيان من أقصاها الي أقصاها مجاملة ومواصلة للأرحام دون أن تتأثر أناقتها بتلك المشاوير المضنية ودون أن تشكو تعباً أو تتذمر، كانت تلبس حذاء نسائياً مصنوعا من الجلد وهو الصورة النسائية للمركوب الرجالي، كان حذاؤها مميزاً ولامعا دوما ويندر أن يعلوه غبار الطريق فتبدو كأنها كانت تمشي علي الماء لا علي طرق ترابية،كانت تحمل في يدها دوما سبحة حباتها لونها خضراء فاتحةتكون ملفوفة دائما في يدها اليمني، كانت روحها عالية دوما وابتسامتها كوناً من الوسامة والطيبة والفرح الطبيعي والمحبة، كنت أحبها محبة كبيرة وزادت تلك المحبة بسبب تلك المحبة بينها وبين أمي التي كنت أقتفي أثرها في كل شئ فأحب معها من وما تحب وأمقت معها من تمقته وما تمقته، كانت حبوبة بتول صفحة فريدة في ذاكرة ودمدني وذاكرة أهلنا المنتشرين في المدينة ، كانت دوما أول الواصلين للناس في أفراحهم وأتراحهم وآخر المغادرين، وكانت دوما هي محور الأهتمام والترحيب والمثال الذي يطلب من الجميع بلوغ مداه وقمته الفريدة في التواصل والمحبة، كان بيتها الصغير في حي البيان مدني المتخذ شكل المثلث الصغير قبالة منزل اسرة فريني هو قبلة كل الأهل وهو صالة الوصول التي لابد لكل قادم الي ودمدني من الأهل أن يمر عبرها وينعم ببشاشة أهلها وكرمهم وكسرتهم التي تعاس علي الهواء مباشرة، أذكر ذلك البيت بصفائح حمامه المعلقة علي الجدران والتي لم تخل قط من الحمام الساكن فيها والمتمتع بخدمات مميزة والمطمئن لأهل الدار والمعتاد علي ضيوفهم الكثر الذين لايزعجونه أبداً، في ذلك البيت الصغير رأيت لأول مرة في حياتي التلفون الأسود ذي الأقراص التي تعلق عليها طبلة صغيرة أحيانا وتكون في أغلب الأحيان بلا طبلة، أشبعت فضولي بشأن كيفية استعمال التلفون في تلك الدار ، وكنت اقف مبهورا أراقب المرحوم صديق محمد علي ابن حبوبة بتول الذي كان يعمل بمصلحة التلفونات وهو يستخدم التلفون ويحادث أشخاصاً غير مرئيين، كنت مبهوراً بصورته علي الجدار بالأبيض والأسود داخل فريم خشبي مذهب ومكتوب أسفلها أسم أستديو مقره القاهرة، كانت الصورة تجعل من صديق شخصاً أكثر وسامة وكونها مصورة خارج السودان يعطيها بعدا آخراً وغموضاً وهيبة، كنت أحاول تخيل القاهرة وشوارعها وملامحها بلا فائدة،في تلك الدار كان اقتراب رمضان حدثا مهما، تجلب حبوبة بتول أمرأة تعمل ببراعة في مجال صناعة الابري الأبيض والأحمر ، كنت اتابع العملية من مرحلة احضار العيش وعمل الزريعة والذهاب الي الطاحونة للتدقيق حتي الكوجان للعجين واشعال النيران والعواسة علي الصاج، اتذكر تلك المرأة وهي جالسة علي بنبر صغير ارتفاعه من الأرض بضعة سنتيمترات وأمامها الصاج الموضوع فوق أربعة حجارة موزعة علي الأطراف وتحته الحطب مشتعلاً متوهجا لينتج حرارة علي سطح الصاج ليعاس الآبري علي تلك الحرارة، كان الحظب يتمرد حينا فيخرج دخانا بدل الوهج فتقوم المرأة بعملية ابدال لنوع الحطب وتستخدم الهبابة لتوليد اللهب وطرد الدخان، يتساقط عرقها غزيرا وهي تضحك وتوالي الونسة مع حاجة بتول وبناتها زهراء بت التجاني وحليوة ومن تكن حاضرة من الجارات أو الأهل، كنت أحرص علي متابعة تلك الطقوس واتحرق شوقا للحظات أكل الابري بنظام القروض مثله مثل الكسرة والفطير،اما طقوس خبيز العيد فهي عالم آخر ساحر نتابعه من الألف الي الياء ولانفوت اكل البسكويت ابتداء من الفرن البلدي ايام كان الفرن البلدي الذي ينتج الرغيف هو المكان الوحيد المتاح لانضاج الخبيز فالبيوت لم تعرف افران الكهرباء والافران المنزلية في ذلك الزمان، فكنا نحمل الصواني التي عليها البسكويت والكعك علي الرؤوس الصغيرة ونذهب الي الفرن لكي تكتمل عملية الانتاج هناك بادخال الصواني الفرن واخراجها ناضجة ومن ثم العودة بها الي البيت.كانت تلك الدار الصغيرة مصدر مسرات كثيرة وكبيرة لنا في طفولتنا الباكرة، وكانت ابتسامة حبوبة بتول اكبر مسرة بين تلك المسرات، فهي تصافح الناس مبتسمة وتمشي مبتسمة وتصلي وعلي وجهها طمأنينة وشبح ابتسامتها المضئية مختبئ في الشلوخ والعيون الواسعة،كانت صرة ثوبها دوما تنفتح عن حلوي أو نقود لشراء حلوي تمنحها للصغار، وكانت لاتنهر ولاتنادي بصوت مرتفع أبدا، ولاتذمك حتي لو كنت غارقا في خطأ فادح أو متسخ الملابس بسبب تهورك، كل ماتفعله هو ان تبتسم وتقول لك باسم امك( يا ود فلانة تعال يا الفالح ...تعال هاك اجر اشتريلك حلاوة لكن في الأول اجر غسل ايديك وغير وتعال يا المبروك...اجر يا الفالح) تفهم انك مخطئ ولكن الأمر ليس خطيرا ، نركض مسرعين مستجيبين للتصحيح اللطيف ونعود فنجدها توفي بما وعدت، تعطيك قرشك السحري فتركض صوب الدكان....كانت كونا جميلا غاب فجأة، فجأة افتقدناها وافتقدنا شلوخها المميزة وصرة ثوبها المفتوحة علي الفرح ونبرة صوتها الخفيض الذي لايزعج باعوضة لكنه يبشر بالخريف والخير، افتقدنا قرشها السحري وبسكويتها وتمرها وحلاوتها المقدمة دوما مثل ثمار شجرة ليمون مزروعة في الشارع، غاب صوتها وهي تقرأ القرآن وتدفعنا الي انتظار ذلك الزمن الذي نحفظ فيه ما يمكننا من اداء الصلاة بانتظام مثلها، بات البيت صامتا، افتقدت الطرق في المدينة خطواتها الوئيدة التي تقطعها جئية وذهابا وصلا للارحام ومحبة وتقربا......سألناهم ببراءة( أين ذهبت حبوبة بتول؟) قالوا بغموض( ذهبت الي عالم رحيم مثلها)....لم نفهم شيئا قلنا بسذاجة( هل تعود قريبا؟ هل ستحضر معها حلوي جميلة؟) كان الصمت هو الأجابة.
اللهم أرحم حبوبة بتول وطيب ثراها واجعل الجنة مثواها بقدر ما زرعت من محبة وواصلت ووصلت من أرحام.
No comments:
Post a Comment
شكرا علي المشاركة والتواصل