فيها ولدت في أواخر خريف في حي المزاد ثم تنقلت مع أسرتى بين احياء البيان و114ومايو ، من ثم غادرتهامرغما بسبب ظروف
عملي وظللت أتنقل في المدائن وذلك الجمال النائم يستوطن قلبي وحده ويحتله فلا أعرف لنفسى هوية غيرها أو حبيبة . ظلت تسكننى حتي بعد أن كففت عن سكناها . ظلت ذكرياتى وحياتى التي عشتها في أزقتها وحواريها هي المكون الرئيسي لشخصيتى وهي الوقود الدافع عندما تقبل الخطوب وتدلهم الدروب.
ودمدني مدينة صغيرة تكاد تكون قرية كبيرة لكنها أجمل المدن بذلك الجمال الساحر الذي يستوطنها
ليس جمال مبان أو حجارة صماء أو جمال طبيعة بكر وهو كله جمال موجود بها
ولكن الذي يميزها حقا هو جمال قلوب اهلها
ذلك النزوع الخلاق نحو التلاقح والتواصل
تلك الروح الملهمة والمبدعة لشعبها المحب الذي خرج من صلبه الشعراءوالمطربين ونجوم الساحرة المستديرة والعلماء والرسامين والكتاب والنقاد والمسرحيين والأعلاميين..
..
الطفولة في مدني لوحة بهية يحتل الخريف وبروقه ورعوده وامطاره الكثيرة والفراش الملون القسم الاكبرفيها
طفولتى كانت لوحة رائعة
تعالوا وتجولوا معى فيها.
حي( 114) الساحروآمنة بنت وهب الجميلة
عشت وأسرتى سنوات عزيزة من العمر بحي 114 او الكمبو كما يحلو لقاطنيه تسميته وهو حى يقع في القسم الجنوبي من مدني الذي يضم احياء المزاد وشندي فوق والبحوث والحلة الجديدة و114والدرجة الاولي والثانية والسكة حديد ومن معالم هذا الجزء هيئة البحوث الزراعيةوالنادي الاهلي والسوق الجديد والقسم الجنوبي وميدان الاهلي وميدان الدفاع وهوميدان الرابطة الجنوبية اقوي روابط الناشئين بمدني وميدان التضامن وميدان الشهداءوسوق المزاد وسوق الدرجةوالادارة المركزية للكهرباء والمياه ومحطة السكة حديدوالمؤسسة الفرعية للحفريات وورشتها الضخمة ومجموعة ضخمة من المدارس الابتدائيةوالثانوية العامة والعليا ابرزها مدرستي السني ومدني الثانوية العليا بنين ومدني الثانوية بنات وشدو العامةبنين والليثي العامة بنات والجزيرة ابوبكر وغيرها .يقع حي 114 في الوسط بين الحلة الجديدة والدرجة وتفصله محطة السكة حديد عن الجزء الشمالي من المدينة ويقع استاد مدني قريبا منه حيث يسمع السكان هدير الانصار داخل البيوت في المباريات الكبيرة بين الاهلي والاتحاد والاهلي والنيل.وهناك عدة روايات حول سبب التسمية فمن قائل ان البيوت عددها 114 واخر يقول انه يقع في الكيلو 114 من مشروع الجزيرة ومن قائل انه سمي تيمنا بعدد سور القرآن ولكن اقوي الروايات هي الخاصة بالكيلو 114 . جاءت امي الي مدني عروسا صغيرة مخضبةالايدي بالحنة من ابوهشيم حاضرة الرباطاب الصغيرة واستقرت الاسرة في البدء بحي المزاد حيث ولدت ثم انتقلت فيه نفسه الي منزل اخر ومن ثم انتقلت الي حي البيان بالقرب من محطة تلفزيون الجزيرة التي شيدبرجها في مطلع السبعينات وكناشهودا لذلك الانشاء من بيتنا في حي البان ومن ذلك البيت انتقلنا ذات خريف الي حي 114 الذي اقمنا فيه سبعة عشر عاما بالتمام والكمال منذ يوليو 1973 حتي العام 1990 الذي انتقلنا فيه الي اول منزل مملوك للاسرة في حي مايو مع انطلاقة منافسات كأس العالم 1990الذي شاهدناه في ذلك المنزل الفسيح. كانت ايامنا في 114 أحلي ايام حياتنا وكانت امي(آمنة بنت وهب) أمية لكنها ذات لسان عربي فصيح ينظم الكلمات شعرا كما يحتسي المرء كوبا من الماءبلا تفكير مسبق، كانت جميلة الملامح بشلوخ عريضة ووجه مكتسي بصفرة بلون الذهب اللامع وأناقة بسيطة لا ادري من اين جاءت بها وهي التي لم تر قبل ودمدني سوي ابوهشيم الغارقة في الظلام ولكنها أناقة الروح التي تطغي وتختم الوجه والشخصيةبطابعها، كنا اسرة محدودة الموارد كبيرة العدد وكان ابي عاملا صغيرا مكافحا ووحيدافقد عرف اليتم باكرا حين رحل ابوه وهو في العاشرة وترك له أما واخوات يتمسكن به تمسك الغريق بقشة فعرف العمل صغيرا واكتفي من التعليم بأوله وفك الخط والقراءة فقط وصار مراكبيا ينقل الناس بين الضفتين في ابو هشيم بمركب دوم صغيرة من ثم عرف الهجرةحتي اقصي الشرق طلبا للرزق فبلغ تسني في بلاد الحبشة مزارعا وعاملا ثم استقر به المطاف بارض الجزيرة اخيرا عاملا بالمؤسسة الفرعية للحفريات متدرجا من اسفل السلم طلبةحتي بات سائقا لكراكة يعمل علي ظهرها سحابة النهار في اراض بكر شقا للترع والقنواتالخاصة بما عرف آنذاك بمشاريع التنمية في كل بقاع الوطن الكبير: الرهد ، كنانة، ابونعامة، الكناف، مشاريع الشمالية، خشم القربة، امتداد المناقل، الجنيد......الخ.لذلك كان أبى غائبا أغلب وقته في طلب الرزق وكانت أمى كغيرها من نساء ذلك الحي الفريدمطلوبا منها القيام بدور الأب والأم معاًفي زمن لم تكن الحياة فيه سهلة ميسورة. كان الرغيف كسرة تعاس مرتين في اليوم علي الاقل وكانت النار توقد بالحطب والفحم وليس الغاز وكانت القراصة والفطير اشياء ثابتة في مائدة البيوت صباحا ومساء، ومع ذلك كانت أمي سعيدة وكانت السعادة تتقافز من بيتنا الصغير الي الشوارع كاللبلاب وكانت أمي وسط تلك البهجة اشهي وجبة حب ومحبة نتقاسمها ذكورا وإناثا في ذلك البيت الصغيرذي الغرفتين المسقوفتين بالزنك وتميزها شبابيك مغطاة بالنملي ومطلة علي الشارع .عشنا في حي نادر بتركيبته الاجتماعية الفريدة فجميع السكان هم اسر عمال ينتمون لوزارة الري ومؤسساتهاولهم ذات قصة الهجرة والكفاح والرحيل الي البعيد والغياب القسري عن الاسرة. وكان الحي عبارة عن سودان مصغر تجد فيه الشايقية حديثي القدوم من منابعهم الاصلية بلهجتهم المسكونة بالحنين والمحنة والرافضة للانحناء امام سطوةالمدن الثقافية وتجد فيه القادمين من أقصي جبال النوبة بسحنتهم الافريقية وانفتاحهم الجميل علي الاخرين وعشقهم للالوان الجريئة وتجد فيه الدناقلة برطانتهم الغامضةوطيبتهم الظاهرة واشجار النخيل والليمون التي تتبعهم اينما حلوا وتجد الجعليين وبخاصة القادمين من جهات الدامر الذين تتبعهم أينما حلوا أشجار الحنة الخضراء التي انتشرت بفضلهم في كل الحي وصارت علامة مميزة له حيث تجد في كل بيت صفا من أشجار الحنة، وتجدفيه الرباطاب وجوالات البلح الحاضرة في كل عام بعد الحصاد وهي ميزة كل القادمين من الشمال لكن الرباطاب تميزوا بذلك البلح اللذيذ(المشرق) او العجوة عند اهل الصعيدوتميزوا بصنعة السعف الذي يأتي البيوت أبيضاً جافاً يكاد يتكسر فيخرج منها علي أيدي النسوة المبدعات قففا وبروشا وسجاجيد صلاة(مصلايات) جميلة طيعة لينة تغزو سوق المدينة وتعود بالنقود علي الصانعات وكانت تلك هي حرفة الحبوبات القادمة معهن من هنالك حيث الجذور وهي سلاح لمحاربة الاعتماد علي الاخرين ووسيلة لحفظ الكبرياء وكسب الرزق ومناسبة للونسة حول فناجين الجبنة والتسامر سمرا يبدد وحشة النهار ويستعدن به جزءا من معالم قيزان رملية وقري وادعة تركنها وراءهن وجئن لاجل الاولاد والبنات المهاجرين الي الصعيدأي المدن. كنت محظوظا اذ كانت لدي جدتين مجيدتين لهذه الحرفة ولفن الحكي او الحجا( من حجوة: اي قصة) وقرض الشعر طازجا كالحليب فأحالتا طفولتي( في ذلك البيت الصغير الذي لم تدخله لمبة نايلون الا حين صرت كبيرا) الي وهج مضئ من الحكايات ترن بأذني كلما دنت ساعة النوم وتستدرجني بعيدا الي فضاءات ساحرة، واتذكرنسج( بت الحاج) حبوبتى الجميل للسعف وابتسامتها التي يغور معها خدها النحيل الي الداخل وتلتمع عيونها الصغيرة داخل النظارة ذات العدسات الكبيرة والاطار الأسود... كنت انتظر بفارغ الصبر انتهاء عملها كي ارافقها الي رحلة كانت تكريني(أي ترشوني) بالنقود كي ارافقها فيها منتظرا بيع البضاعة بسوق السعافة لأنال حظي من نقود لامعات يذبن سريعاويغبن في جوف الدكاكين كما تذوب تلك الحلوي التي اشتريها بهن في فمي ويجئني صوت بت الحاج ليلا ممثلا
هدهدة جميلة
هدهدة جميلة
النوم ... النوم.. النوم .. بكريك بالدوم
النوم النوم : النوم تعال
النوم تعال سكت الجهال
واشعر أننى اتأرجح فوق مهد مصنوع من الأزهار وثمة اياد رقيقة تهدهدني حتي انام مثل ذلك الطفل الذى القت به أمه في اليم خوفا عليه من ملك ظالم يقتل الصغار. كانت بت الحاج جدتي لأمي ضئيلة الجسم لونها أقرب الى السواد وكانت بت خادم الله جدتي لأبي وكانت الأخيرة طويلةكنخلة بيضاء اللون فضية الشعرجميلة الوجه رغم انها ضريرة الا انها كانت قادرة علي انبات اجنحة من الخيال جعلتني أحلق بها عاليا خارج حدود الغرفة الصغيرة ومجلسي عند قدميها وأمسى فارساً علي ظهر جواد طائر فوق الغابات والأشجار مردفا فاطمةالجميلة خلف ظهره.كانت أمي مليكة متوجة علي جلسات الأنس البرئيةحول الجبنة بضحكتها الخافتةالوقورة وابتسامتها المضئية ومحبتها الظاهرة للناس اهتماما واحتفاءا بهم وسؤالاوتفقدا لهم عند الغياب وكانت محبة لبيتها ولصاحب البيت الغائب غصبا عنه وكانت ايامه القليلة التي يقضيها بيننا اول كل شهر عيدا لها ولنا ينتهي سريعا بعد ان يحمل ابي ادوات اغترابه الذي يدوم حتي نهاية الشهر وكانت ادواته لحما مجففا(شرموط) وباميةجافة مسحونة(ويكة) ودقيق ذرةلصناعة الكسرة وسكرا وزيتا وشايا وسعوطا يعكف علي اعداده بنفسه فحيث يذهب لايوجد صعوط.كان الخبثاء يسمون اولاد 114( اولاد الرفاهية) والرفاهية المقصود بها تلك الايام القلائل اول كل شهر التي يأتي فيها الغائبون الياسرهم بالنقود ومؤونة الشهر ويذللوا خلالها المشاكل الاخري بما في ذلك حلاقة رؤوسالاولاد وخياطة الملابس الجديدة وشراء الاحتياجات المدرسية.كانت الامهات في ذلك الحي وذلك الزمان يتحملن مسؤولية ادارة شؤون الاسر حتي عودة الاباء ويقمن باعباءيومية كثيرة، وكنت اراقب أمي وهي تعمل بهمة في تكسير حطب العواسة بالفأس واراها وهي تقطع اللحم وتورق (الخدرة) وتبدأ في فرمها بالفرامة علي صينية الالمونيوم حتي تصيرعجينةخضراء صغيرة وهي تنشد في مدح الرسول بصوت خافت وتمازحني بمحبة بالاسم الاثيرلديها( ابو الصلح) وأراها عصرا وهي تكنس الحوش كل يوم وتنظفه بدقة وترش الماء علي( الفرناغة
اي المكان الذي به تراب قد يثير غبارا.كنت أشفق عليها من اعبائها الكثيرة فأتقدم وآخذالفأس منها لكي اكسر الحطب وتنهال ضرباتي علي الارض فتشوهها ولاتنال من الحطب شئيافتضحك أمي وتأخذ الفأس مني وتباشر العمل بنفسها وتطلب منى التركيز في القراءة بلهجةودودة لاسخرية ولاتضجر فيها. ثم تهئ مجلس القهوة وتأخذ زينتها كعادتها فهي تكن دوماً في احسن صورة وبلا تكلف سواء كانت خارجة ام بالبيت.عاشت عمرها كله متدثرة بالمحبةوداعية لها واتذكر الان رحلة الحج الاخيرة قبل رحيلها باقل من الشهرين وتلك الدهشةالمرتسمة علي وجهها وهي تنظر الي الطائفين بالكعبة من عل وقولها بصوت مخنوق باك: (قادر الله... قادر الله.. دي كلها أمة سيدنا محمد؟قادر الله) ثم سالت دموع صامتةعلي خدها واخذت في الدعاء والتضرع مترحمة بدءا علي امها ومتحسرة علي انها لم تقف مثلها هذا الموقف وذهبت دون ان تبل شوقها لزيارة الكعبة والمدينة المنورة. كان ذلك في نهاية العام 2004 وفي اول 2005 عدنا وفي الرابع عشر من مارس 2005 رحلت آمنة بنت وهب في امدرمان في صمت عن دنيانا بعيدا عن مدني الاثيرة لديها وكنت انا بعيدا عنها اذ شاءت الاقدار ان افارقها مساء الثلاثاء في ليلة اجتمع فيها شملنا بعد غياب طويل كنا حاضرين جميعا بمنزل محمد اخي الاكبر حتي احمد الذي غاب في ابوظبي منذ الثمانينات كان حاضرا هو واسرته وكنت حاضرا وكانت اخواتي حاضرات جميعهن بمعية الاحفاد الذين ملأوا البيت ضجيجا وكان ابي حاضرا كان الغائب الوحيد اخي عماد المقيم بالسعودية.. كانت جالسة في المنتصف ترنو بشرود الينا جميعا وكأن افقا بعيدا ترآئ لها فكانت صامتة علي غير العادة ومتعبة. ودعتها واستأذنتها ان يكون وداعي من هنا لانني لن اتمكن من الحضور اليها قبل سفري بعد الغد ولم اكن ادري انه الوداع الاخير. سافرت بالخميس الي الفاشر لعمل وجاءني نعيها فجر الاحد كالصاعقة. وغابت أمنة الجميلة وبقيت روحها الملهمة تمشي في الارض بين الاحياء
وجه من ذاكرة المدينة
(مكى شقى)
كان طويل القامة افريقي الملامح وكان من عجائب مدني الكثيرة يعمل بناءا ماهرا نهارا ويعمل مساء فنانا مغنيا له لونية خاصة محببة جلها اغنيات الفنان رمضان زايد التي يجيدها ويؤديها بطريقة مميزة ورائعة جعلت حفلاته ناجحة وجاذبة وجمهوره ضخما وكان ككل ئ في مدني عبر ازمنتها المختلفة موضوعا تنسج حوله اطنانا من الحكايات الصحيحة والمضاف اليها من خيال ]الرواة واشتهر بلقب الشقي فصار اسمه لايأتي الا مقرونا باللقب بلا الف ولام التعريف حتي صار معروفا في المدينة ب( مكي شقي) وهو لقب ربما يرجع الي اغنية شهيرة يردد فيها كلمة (شقا... شقا) باستمرار.صار صاحبنا معلما بارزا من معالم مدني صدح في لياليها وبات جزءا من السيرة الذاتية لكثير ممن غني لهم في ليلة العمر النفيسة في زمن كان عنوانه( مازال الليل طفلا يحبو)و(وحفلنا مستمر حتي الصباح) وكانت الحسناوات يثرن بالارض نقعا وهن يتمايلن في الساحة كسرب من الطيور الجميلة وهي تنفض ريشها بسعادة عند مورد ماء، وكان صاحبنا يمسح جبهته العريضة بمنديل ملون ويتثني برشاقة مع الموسيقي بالرغم من ضخامته ويستمر الحفل حتي شروق الشمس وفي الظهيرة يعود الفنان اكبر اسطي تعرفه المدينة فنانا من لون اخر من الفنون، كان يبني البيوت نهارا ويبني النفوس ليلا. أي نهر من الابداع والجمال والبساطة والتصالح مع الذات كان يستوطن تلك الروح الشفيفة؟
دار الزمان دورة اخري وصمت المغني ولم يعد مرغوبا فيه ولم تعد حفلات مدني تستمر حتي الصباح وباتت الحسناوات مسمرة اقدامهن وهن مسمرات بالكراسي وحين تتحرك الاقدام بعفوية مع الموسيقي يتذكرن القيود الجديدة فتتسمر الاقدام بالارض ويغني المغنون والناس يتثاءبون وهم يلتهمون الساندويتشات المقسطرة وينظرون بخبث نحو الراقصين الذين مازال فيهم شئ من زمن مات مغنوه كمدا؟؟؟؟؟
تري اين انت الان يا مكي شقي الشقي؟ هل لديك بيت يأويك في تلك المدينة التي بنيت فيها البيوت التي تأوي الناس وبنيت فيها البيوت بالغناء في حفلات اسر جديدة ولدت علي صوتك؟
هل لديك بيت يأوي كهولتك وقد انفقت شبابك في بناء البيوت والقلوب وصناعة افراح البسطاء في مدني في ذلك الزمن الذهبي الجميل؟
أميرة الثقافة
في مدني كنا نبدأ يومنا بالاناشيد المدرسية
ونهارا نتصفح الصحف
وعصرا نلعب الكرة بلا كلل
ومساء نرتاح عند اقدام الجدة ونحلق مع حجاويها
ويوم الجمعة ننتظر ركن الاطفال الذي يقدمه عمكم مختار
ثم نذهب لنشتري سوبرمان او المغامرين الخمسة او سمير او ميكي من المكتبة او الباعة الذين يفترشوا الارض عند حديقة سليمان وقيع الله
وفي باقي الاسبوع نتبادل المجلات والكتب مع الاصدقاء
باختصار
كنا في مدينة تحرض علنا علي امتلاك ناصية المعارف والثقافة
كيف لا وهي اميرة الثقافة
رماد الذاكرة
كنت صغيرا .. عند اعتاب الثانوية العامة... مفتونا بالقراءة والاشعار... لازال عودي طريا ولازلت في مرحلة اكتشاف الاشياء...كانت المعارض المدرسية مسألة رائجة في مدينتنا في ذلك الزمن الجميل...كان المعرض نشاطا ثقافيا واجتماعيا يبرز فيه الطلاب مقدراتهم ومواهبهم ويأتي المعلمون والطلاب واولياء الامور لمشاهدة ابداعات الطلاب وتشجيعهم باختصار كانت المعارض بروفات ساخنة للتحديات القادمة التي تقابل الطلاب في الحياة... واتذكر ان معارض مدارس البنات كانت تشتمل علي عرض منتجات الطالبات من عمليات التطريز وغيرها ...في معرض لمدرسة عبد الستار الثانوية العامة التقينا... براءة وفضول وعيون واسعة وثقة بالنفس ... ذلك ما جذبني... كان الرداء المدرسي مفتونا بها ويأبي ان يفارق قوامها الجميل.
في المعرض التقينا .... كانت لغة العيون طريقنا الي التعارف.... ذلك الفضول شدني بالف خيط الي تلك العيون....اتذكر الان ان شعري كان غزيرا كموضة تلك الايام واسودا صافيا لم تسرح فيه أي شعيرات بيضاء... كنا براءة تمشي علي الارض... تعارفنا وتوقفت طويلا وهي تمارس عملها المرسوم في المعرض وتشرح لي ولغيري بثقة ظاهرة بالنفس...اتذكر انها قدمت لي قطعة حلوي في لحظة خف فيها الزوار ولم يبق سوي بعض زميلاتها وبعض رفاقي الذين كانوا يرقبون في فضول حوارنا المتقطع المثير.... كانت امالا لمعت واحتلت اياما وشهورا عديدة في حياتي ... كانت تبدو دوما اكبر مني وتبدو كمن يدرك ان احلامي مستحيلة لكنها لم تقلها ابدا ... ثم دارت الحياة دورة تباعدت اللقاءات ...ثم غابت في الزحام وسقطت من جدار الذاكرة...ظلت تومض بين الحين والاخر كلما جاءت سيرة اخيها الذي كان لاعب كرة شهير...ثم غابت وتلاشي ذلك البريق الذي يحيط بالذكري وحلت محله ابتسامة رجل كبير يتذكر اوهام طفولة باكرة...
وغابت في رماد الذاكرة وغابت الامال التي احتلت جدار القلب كشهاب ومض سريعا وانطفأ
الأصدقاء شهب جميلة في حياتي
كنا ثلة من الاصدقاء.... جمعتنا اشياء.... كنا اشتاتا .... خليطا متنافرا... احياؤنا مختلفة... اعمارنا متقاربة لكنها مختلفة... مدارسنا مختلفة.... اهتماماتنا مختلفة... خالد كان مفتونابالعلوم فتنة مبكرة جعلت منه فيما بعد طبيبا متميزا واخذته منا الي بلاد تموت من البرد حيتانها.... خالد الاخر كان رساما مهووسا بالرسم..
مجدي كان مفتونا بالشعر والشعراء وسيرة العظماء....عصام كان مهووسا بالسياسة والسينما واخبار الغرام....الطيب كان محبا للسينما الهندية والغناء الهندي والتمباك والدور الثاني في السينما...انا كنت محبا لكرة القدم والشجار وقراءة الالغاز والصداقة والاصدقاء... عبد الحميد كان سوسة كتب يقرأ الكتاب في اي وقت واي مكان ....وجدتني متوزعا بينهم : مع خالد استمع للاخبار العلمية واحاول مجاراة صديقي وملاحقة عبقريته الفريدة:: مع مجدي كنت احفظ القصيدة واتبادل الدوواين والمعلومات والمقالات واكتب شعرا امزقه وشعرا اقرأه علي استحياء ...ومع عصام كنت اقضي الساعات الطوال امام الفيديو نشاهد الافلام والمسرحيات واغاني مارسيل ....وكنت اتزود منه بالمنشورات والقصائد المخيفة التي نتبادلها كالممنوعات...
كنا نسهر حتي الصباح نتحدث عن مفهوم من مفاهيم الحب والغرام...كم كانت افكارنا الخطيرة حينها ساذجة ومضحكة بمقاييس اليوم....اما الطيب فقد قادني نحو السينما الهندية وقصصها الرومانسية وببطلها الذي ينتصر دائما علي الاشرار ..علمني الطيب اسماء نجوم الشاشة الهندية وكنت احاول مجاراته وهو يغني مع دهرمندرا وشاشي كابور... كان يحفظ احداث الفيلم كما يحفظ الشاعر قصيدته الاثيرة...حتي اننا كنا نشترط عليه الايبوح باي حدث حتي لايفسد متعة المشاهدة البكر علينا...كنت اذهب وحيدا نحو عالم الكرة عالم اولاد الفريق الذين لايعرفون من تلك العوالم الاخري الا السينما الهندية.... الغريب انني كنت استحي من ذكر سيرة نشاطي الكروي في حضرة اصحابي المثقفين....دارت الايام ... وجدت كل صديق زرع في داخلي من روحه شئيا ما....
بشير الطاهرالغياب الموجع
بشير الطاهر خيرالله وجه من وجوه ودمدني .. طويلا كنخلة رقيقا وباسما طفولي الملامح.. ينتمي الي اسرة الطاهر خيرالله بحي المزاد بمدني وهي اسرة خرجت افذاذا من الرياضيين لمدينة مدني ابرزهم اخواه طارق الشهير بطارق مسلاتي الذي لعب بفريق الدفاع مدني وانضم للفريق القومي ونادي المريخ في الثمانينات والاخر جهادكان لاعبا مميزا بفريق الدفاع، برز بشير منذ الطفولة كلاعب مميز وكان من ابرز نجوم فريق المجد 114 بالرابطة الجنوبية اقوي راوبط الناشئين بمدني وصال وجال وبذ اقرانه وسطع وكان ينتظره مستقبل واعد لكنه كان مسكونا بعشق من نوع اخر فقد كان الفتي الابنوسي الطويل القامة عاشقا للبزة العسكرية مسكونا بحب الوطن وكان ابرز من بفرقة الكديت بمدرسة السني الثانوية من الطلاب وتخرج منها في العام 1983 ليذهب مباشرة الي الكلية الحربية مصنع الرجال ليتخرج منها ضابطا متميزا تنبأ له الجميع بمستقبل باهر وترك الفتي كل احلامه قبل الكلية وراء ظهره.، كانت حرب الجنوب مشتعلة وتشهد اقسي واسوأ فصولها حين غادر الفتي الي ارض العمليات الملتهبة.. كانت ودمدني تزف عريسها الجميل الي احراش الجنوب وهي تستحلف الغابة والشجر والعصافير ان تكون رحيمة بفلذة كبدها واجمل السهام في كنانتها... كن حي 114 وحي المزاد وميدان الرابطة الجنوبية جميعها شاحبة حزينة تبكي فراق بطلها وابن سرحتها الذي ياطالما صفق له المشاهدين وهو يشق الصفوف كفارس من فرسان العصور القديمة والكل يتراجع امامه كما تتراجع الاسماك الصغيرة امام موجة عاتية..... صرخت الغابة وشهقت من جمال البدر الذي حط رحاله في قلبها فردت كفيها ودثرته ورفضت اطلاق سراحه من اسرها ....... ظلت الاخبار غامضة ... لم يعرف مصير الفتي الابنوسي فارع الطول... ظلت الكلمات عديمة المعاني للقلوب التي تعاني لوعة الغياب المر هي رد غير كاف : تارة مفقود وتارة اسير........ بكت المدينة وتدثرت بالاسود وصمتت الافراح في حي 114 ردحا من الزمن ... تعلقنا بالامل الشاحب وسألنا عنه القمر والنجوم واميرات الاحلام وذكريات الطفولة والصبا ما بيننا وبينه...... لكنه استعصم بالبعد عنا ونأي... عاد العائدون وجاء السلام مبتورا وناقصا حين لم يأت عن بشير الطاهر بخبر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟كنا رفاقا في فريق المجد تقاسمنا الافراح والاحزان وزدنا عن شعارنا الصغير كانه كان يتهيأ للزود عن شعار اكبر في ميدان اخطر لا تحسم المعركة فيه صافرة حكم ونعود سالمين الي الاهل....
الرحمة لبشيرالطاهر بقدر ما اعطي في عمره القصير للاخرين من فرح ومن عطاء بلا من ولا اذي ونسأل الله ان يتقبله شهيدا وينزله مقام الصديقين والشهداء
وجه
ثغر باسم وعينان تتلامع البروق فيهما... وجه طفولي ممتلئ براءة ووداعة
انثي تتوقف عندها كل القطارات حتي التي انهكها سفر طويل وباتت قاب قوسين او ادني من التقاعد،
كانت لاتزال طفلة ترتدي زي الثانوي العام وتمارس الاكتشاف للاشياء حين زوجوها
وكانت لاتزال دون العشرين حين باتت أما لطفلين واأمرأة وحيدة مهجورة تنتظر عودة زوج استعصم بالاغتراب البعيد وعاش حياته بالطول والعرض مدمنا وسكيرا ولا مباليا بما خلفه ورائه...ظلت الوردة مستعصمة ببيت ابيها واخوتها تطاردها النظرات المشفقة والجائعة اينما حلت... ثم اكتملت الفصول بالحصول علي طلاق كان واقعا يحتاج شهادة مكتوبة من محمكة تؤكده...ظلت العصفورة بسمتها الانيق والبرئ موضع الاحترام... تركتها في مدني تمشي بين الناس ملاكا جميلا يجسد ظلم الحياة لبعض الناس.... هو وجه غاب في الزحام لكنه بقي في الاعماق يستنطق الخير والجمال
( رجل نادر المثال)
ابي رجل نادر المثال
ابي عامل اتي صغيرا من اقصي الشمال الي قلب الجزيرة
كان يتيما رحل ابوه وهو في العاشرة وتركه رجلا صغيرا وحيدا وسط اخوات
يتشبسن به كغريق يتشبث بقشة هي كل مايملك من احتمالات النجاة
عمل الصغير علي مركب دوم ينقل الناس بين الضفتين وعمل مزارعا وجاهد حتي اصبح عاملا في بلاد بعيدة
تحمل مسؤولياته ببسالة وكون حياة رائعة واسرة صغيرة كانت تقتات من عمل ينام صاحبه في الخلاء فوق كراكة شقت ترعا وقنوات واحالت اليباس خضرة في كنانة والرهد وابي نعامة والكناف والجنيد وعسلاية وامتداد المناقل والشمالية... بدأ طلبة وزياتا وبات سائقا ماهرا ومن ثم رئيس سواقين واخيرا مهندسا جربنديا(اي بالخبرة العملية)
عشنا في بيوت صغيرة لكنها ممتلئة بالدفء والمحبة واللقمة الطيبة ونعمنا بدفء جدة لاب وجدة لام وكان قدرنا ان لانري اجدادنا فقد كان جدنا لامنا هو الاخر قد رحل باكرا قبل ان نري النور... عشنا رحلة الشتاء والصيف في التنقل في كل عطلة من مدني الي ابوهشيم وبالعكس.. فقد كان ابي حريصا علي ان نعرف من اين جئنا ومن اين جاء ...كنا خمسة اولاد ذكور محمد واحمد وصلاح وعماد وعبد العظيم وثلاث بنات رائعات...كانت امي عليها رحمة الله زينة البيت وحاكمته العادلة التي تصطلي بنار الدوكة( الصاج) صباح مساء لتطعمنا الكسرة والفطيروالقراصة .. كان البيت الصغير قصرا نظيفا انيقا مرتبا برغم الضجيج وبعض فوضي الذكور.. كنا ننتظر الثلاث ايام في اخر الشهر التي يأتي فيها ابي من الخلا كما ينتظر الناس العيد نتعلق برقبته ويلاعبنا يجلجل صوته القوي في الدار فنشعر بالفخر والامان نشكو اليه جور اخوتنا الكبار ونتقدم بقائمة طلبات كثيرة صغيرة تجد حظها من الاجابةاو التنظيم في جدول الاولويات ونجد ابتسامة محبة وتشجيعا علي التعلم... ننتظر الرحلة الي الحلاق وغشوة الحلواني والنقود المعدنيات اللامعات والركض الي الدكاكين
ومشوار الرغيف والطاحونة ... كان اول الشهر مميزا حتي بفاكهته ولحم الضأن الذي كان اثيرا لدي الناس في ذلك الزمن... كان ابي ساحرا بلا طاقية... كنت انظر اليه وهو ياتي ويذهب ويرتق ثيابه بنفسه في اوقات فراغه القليلة وهو يقص اشجار الحنة حين تطول بصبر وهو يكسر حطب العواسة قطعا صغيرة حتي يهون مهمة امي في الغياب كنت اشعر بانني انتمي الي هذا الرجل العظيم وتلك المراة الباسلة اكثر من انتمايئ الي اي شئ اخر في الوجود ... من ذلك البيت المعروش بالمحبة والعطاء خرج طبيب بارع تخرج بكلية الطب جامعة الخرطوم وعمل بالسلاح الطبي حتي رتبة اللواء غرس في كل شبر شجرة محبة استلمها من ابيه سرالختم علي كرم الله الرجل العصامي برتبة فارس الكريم برتبة المشير المحب برتبة لم تعلق كتف رجل الباسل بدرجة نكران الذات
حملة انتقامية
كان يوما لا ينسي ابدا، كانوا اصدقائي واندادي واولاد فريقي بمعناه الضيق فريق كرة القدم ومعناه الواسع الحي وكانت بيننا وشائج صداقة وذكريات لكنهم في ذلك اليوم كانوا متأمرين جميعا[علي... كان ثمة خلاف صغير لكنهم اضمروا شرا فاتفقوا علي استدراجي الي السينما الدور التاني ومن ثم تصفية الحساب بعد السينما في طريق العودة احدهم سمع بالمؤامرة ولم تعجبه فأسر في أذني بنواياهم الشريرة وكان لدي الخيار في عدم الذهاب لكنني اصررت علي الذهاب قلت لنفسي (علقة تفوت ولا عار هروب يبقي) ، قبلت الدعوة وذهبت وحيدا وسط اصدقائي المتأمرين الصغار، دخلنا السينما وشاهدنا الفيلم وعدنا سويا والصمت والخطوات المثاقلة والنظرات ذات المغزي رفيقنا... حين قطعنا السكة حديد واصبحنا في مكان خال من المارة تقدمتهم وواجهتهم بتحد وصلف وقلت: انا اعرف ما تدبرون ولكنني لست جبانا وانتم لستم رجالا الرجل لايستدرج ولايغدر ... قد تقدرون علي لكنني سأخذ تاري...عم الصمت .. استفزتهم العبارات قال احدهم انا متفرج فقط ومن له حساب فليأخذه
قال ثالث انا معه من يمسه مسني وقال ثالث انا وحدي بكفيك وما داير مساعدة وقال اخر...وقال اخر... وكان شجار جماعي تحول فيه بعض المتآمرين حجازين محايدين...
نلت من خصومي ونالوا مني اكثر مما نلت... وعدت الي البيت ممزق الملابس ولكن مرفوع الرأس وبعد ذلك جهزت سيخة مجلدة بسيور البلاستيك وصرت اصطادهم واحدا واحدا صباحا وهم في الطريق الي سوق الخضار وهي رحلة اجبارية لنا جميعا كل صباح...........
ولم تتوقف حربي الانتقامية الا بصلح عريض عدنا بعده اخوانا وصارت حملتي الانتقامية ذكري مضحكة
( زهرة عند معبد ابي سنبل)
كان اسمها ازدهاروكانت أسما علي مسمي بملامحها الطفولية الرائعة، كانت براءة تمشي علي قدمين وخفة روح نادرة ابتسامة دائمة حيوية تفوق سني عمرها القليلة...طالبة بالمدرسة الثانوية لما تزال...
كان القدر يختبئ في طيات رحلة مدرسية الي خارج الحدود عن طريق النهر.. رحلة تبدأ من مدني بالبص الي الخرطوم ومن ثم بالقطار الي حلفا ومن ثم بالباخرة الي اسوان... كانت سعيدة برحلة لم نكن ندري انها الاخيرة... كانت حريصة علي ان تودع الجميع وكأن ستارة القدر قد انزاحت امام ناظريها ...ثم جاءت اخبار الباخرة عشرة رمضان كالصاعقة... تناقلت الصحف النبأ الاليم ونعت الزهرات الجميلات التي اخذها النهر الغادر وكانه كان ينتظر هذا الحشد الجميل ليختطف منهن عروساته بأثر رجعي.. تركت ازدهار صورتها الجميلة في قلوب الكل ولم تعد ابدا ... بقيت بيدي سطور قليلة كتبت فيها وداعا لصديق لم تقابله قبل السفرسطور لم تحتو علي وعد باللقاء... بقيت الورقة الصغيرة حاضرة معي بضع سنين ثم ضاعت في زحام الحياة وبقي وجه صاحبتها حيا لايموت
(انتصار) الملاك الذي عاد من حيث جاء|)
كنت احدثكم عن امي... عن رحلتها من الريف الي المدينة وعن كفاحها لتربيتنا في ظل الغياب الجبري لابي عن الدار بسبب طبيعة عمله... كنا خمسة اولاد ذكور وثلاث بنات وكنت اوسط السلسلة حيث جئت بعد ولدين وبنت ثم جاءت بعدي بنت وبعدها ولدين وكانت هناك حبة صغيرة قد انفرطت من العقد قبلان تفارق مهجع الطفولة كان اسمها انتصار وهي اختي التي جاءت قبل اخر العنقود ولكن عيونها الصغيرة الجميلة وجسدها الغض لم يقويا علي الانتصار علي حمي الملاريا التي داهمتها قبل ان يقوي عودها فظلت تبكي وترتعش وتلفظ لبن امي من جوفها علي الشراشف البيضاء التي كانت تزينها حتي رحلت كالشهقة... كشمس داهمها غيم فاطفأ نورها قبل حلول اجل المغيب.. رحلت انتصار وهي بالكاد تقف عند اعتاب عامهاالثاني....رحلت ملاكا صغيرا جاء من السماء كبرق لمع بسرعة وذهب قبل ان نتبينه ولم يعد.... ذهبت وكنت طفلا غريرا ينظر في دهشة لطقوس الرحيل دون ان يفهم شيئاسوي الخوف مما يؤلمها ... كانت اول جرح ادمي القلب ... اسماها ابي انتصارالكنها لم تنتصر فمشيئة المولي لا ترد..حملها اخي احمد بين ذراعيه وانهمرت الدموع كسيل مندفع وظل يذكرها ويبحث لها عن حياة لم تكتمل وبعد سنين عديدة حين تزوج اسمي بنته البكر انتصارا وبكي وبقيت انتصاره تمشي دون ان تدري قصة تسميتها لربما ذات يوماحكي لها او يحكي لها ابيها قصة الملاك الذي طار بعيدا وارتحل... قلت لامي بعد عدةايام ( اين انتصار ؟ هل صحيح انها لن تعود؟)
بكت امي ومسحت دمعها بثوبها وضمتني الي صدرها كأنهاتخاف ان افلت منها ثم مسحت علي شعري بيدهاوقالت لي: (انتصار عادت ملاكا كما جاءت يا ابو الصلح واذا كنت طيبا مثلها ستراهاهناك؟)
فتحت فمي لاسألهاعن(هناك) لكنها نهضت مسرعةمغلقة باب الحوار وغابت في جوف المطبخ الوسيع ذي الارضيةالترابية والشبابيك الخشبية التي بهت لونها من توالي الامطار عليها... حين لحقت بهاهناك ارسلتني لشراء شئ ما من الدكان القريب بعبارة قاطعة اعتادت استخدامها حين تريداغلاق باب الاسئلة ، نظرت اليها فاشاحت بوجهها عني فبدت لي حزينة وباكية فندمت علي سؤالي الذي سألت والذي لم اسأله ونظرت الي قطعة النقود المعدنية في يدي كأنني اراهاللمرة الاولي وركضت خارجا كالقذيفة لكنني لم اذهب الي الدكان بل تسلقت الجدار الي مخبأ طفولتي باعلي رأس البيت اي السقف وبقيت هناك طويلا.بعد ذلك بعام او عامين جاءت سهام بهية كالقمرهبة من السماء وغابت ملامح انتصار في زحام الحياة لكنها بقيت بمكان ما ومازلت ابحث عن الطريق اليها والي امي .
( الرحيل الي الكمبو)
في احدي ايام الخريف والحشائش الخضراء قد كست الارض بساطا اخضرا جميلا والمياه تجري في الارض الطينية منطلقة كأنها حامل بشري سارة يسابق الزمن ليزفها قبل ان يدركهاالاخرون عساه ينال من الرضا نصيبا وقسطا، كانت اسراب الجراد تتراقص فوق العشب كاطفال ازدحموا في حديقة.. في هذا الجو الصحو الجميل بدأت اسرتنا رحيلها من حي البيان الذي استقبلنا فيه انتصار الصغيرة وودعناها قبل ان تمشي باقدامها الصغيرةعلي الارض الي حي جديد في اطراف مدني الجنوبية يتوسط مابين حي الدرجة الذي كان حياارستقراطيا وقتها وما بين المزاد والحلة الجديدة الذان ولدا وهما يندرجا تحت الاحياء الشعبية ومازالا يحافظان علي ذات الموقع، كان لحينا الجديد مسميان فهو عنداهله ( الكمبو) لانه سكن عمالي صرف مخصص لسكني عمال وزارة الري ومؤسساتهاوله اسم اخر تعددت الروايات في شأن سبب تسميته به وهو (حي114) فمن قائل ان الحي يمثل الكيلو (114) في مشروع الجزيرة ولهذا اطلق الاسم عليه ومن قائل ان عدد المنازل المشيدة فيه يساوي هذا العدد وهذا سبب التسمية ولربما تيمنا بسور القرآن الكريم، المهم ذهبناانا واخي احمد كوفد مقدمة مع ابي الذي كان سعيدا بانه سينعتق اخيرا من قبضة الايجارواصحاب البيوت ويدخل منزلا حكوميا استحق دخوله بعرقه تحت الشمس وتجواله في السودان مع المؤسسة الفرعية للحفريات سائقا لكراكة تعمل في شق الترع والقنوات فيما عرف بمشاريع التنميةولم تكن الرحلة هينة بل كانت رحلة طويلة بدأها ابي الذي كان ولداوحيدا وسط اخوات لدي ابيه الذي رحل باكرا عن الدنيا وتركه طفلا صغيرا يلم بالكتابةوالقراءة بقدر ماجادت عليه خلوة صغيرة بديارنا الاصلية بابي هشيم وجد الصغير نفسه يكافح منذ العاشرة ليجد موقعا تحت الشمس فعمل مراكبيا ينقل الناس من الضفة الي الضفة الاخري مابين ابوهشيم والجزيرة مرو ومارس الزراعة وحصاد التمر حتي قيض الله له هجرة مبكرة الي ارض الجزيرة حيث التحق بالمؤسسة الفرعية مثل غيره ممن وفدوا منالشمال طلبة ثم زياتا ثم ترقي حتي اصبح سائقا لكراكة كانت تحتل الصدارة في تساؤلات طفولتنا واحلامها... كيف شكلها؟ كيف يقودها ابي؟ ماذا يفعل بها؟ لماذا لا يعمل بهاتحت انظارنا؟ لماذا تأخذه بعيدا؟ لماذا يغيب كثيرا؟ كانت محط فضولنا وبعض غضبنا ...في ذلك النهار الخريفي والارض مزدانة بالاخضر والمياه تغوص عميقا في احشائها كنت اتعثر خلف ابي واخي احمد الفارع الطول ونحن نشق مدني من اقصاها الي اقصاها سيرا علي الاقدام والفضول يسابق الخطو في الطريق الي البيت الذي عشت فيه سبعة عشرة عاما من عمري فيما بعد.. جئته وانا بالفصل الثالث الابتدايئ وخرجت منه بعد ان تخرجت من الجامعة وعملت محاميا عامين وانا لاازال قاطنا فيه... كان بيتا صغيرا يتكون من غرفتين اثنتين ومطبخ صغير كان اللون الاسود يغطي جداره من فرط ما أوقد الساكنين السابقين فيه النار لاجل عواسة الكسرة والقراصة، وهناك حمام صغيروادبخانة اصغروبرندة صغيرة مفتوحة من ثلاث جهات وهي ملتصقة بالغرفة الامامية، كانت تتوسط البيت شجرة قرض كبيرة تعلق قلبي بها من الوهلة الاولي اذ وعدتني اغصانها بالعاب كثيرةاقلها الطوطحانية واهمها التسلق الي الاعلي ، بالخارج كان الشارع ممتلئا بالصغارالذين يطاردون الفراش الملون والجراد ويطلقون الصرخات في جذل وسعادة وكان بعضهم يلعب الكرة علي نجيل اخضروالبعض الاخر يلعب الكرة الطائرة وقد ربطت شبكتها مابين عمود النور والسلك المشدود من قمته الي الارض... كان حيا واعدا بجمال لم المسه في حينا السابق حيث كان ابعد مكان اذهب اليه العتبة امام الباب لمراقبة الكبار وهم يلعبون كرة الشراب. وكان الوعد حق وهكذاوقعت في حب الكمبو من النظرة الاولي واليوم الاول.
( في وصف الكمبو وقاطنيه)
بعدتلك الرحلة الاولي قمنا برحلات متكررة الي بيتنا الصغير وبعد ان قمنا بقص الحشائش الخضراء الطويلةمن الحوش وعبأناها في جوالات الخيش الفارغة وحملناها خارجا بمساعدة فاقت فعلنا من ابناء الحي الودودين ، ثم قمنا باعمال الطلاء للغرفتين والبرندة التي كانت في الواجهةومارس اخي احمد هوايته المفضلة في مراجعة توصيلات الكهرباء والمصابيح واحدا تلو الاخروبينما احمد منشغل بمصابيحه وانا منشغل بالطلاء والاصدقاء الجدد غاب ابي وعاد ومعه كارو صغيرة يجرها حصان باكي العيون وكانت الكارو محملة باعواد غليظة من الخشب وشرقانيات، وقفت انظر الي العربجي العجوز وهو يحادث ابي في إلفة وهو ينقل حمولته واحدة تلو الاخري دون كلل ولا ملل وحين انتهي من تفريغ حمولته ادخل يده في جيب العراقي المتسخ واخرج علبة صغيرة منه ثم نقر عليها بطريقة مميزة وفي لمح البصر كانت السفة قد استقرت في مكان من فمه وهو يلاحقها بلسانه حتي استقرت حيث اراد ثم نفض يديه والعلبة تحت ابطه ثم تناولها واعادها حيث كانت واستدار متجها الي الخارج وابي يتبعه وهو يتحسس نقوده استعدادا للدفع.غابت الكارو وصاحبها في اخر الشارع حيث تبدو علي غير بعيد مجموعة البيوت المسماة بالدرادر والواقعة بين المزاد والكمبووهذه الدرادر شكلت مسرحا من مسارح طفولتنا البهية فقد كان سكانها معظمهم من اهالي منطقة جبال النوبة وكان بمقدورهم في ذلك الزمان ان يشكلوا في قلب الجزيرة نموذجا مصغرا للبئية التي جاؤوا منهاواتذكر بيوتهم الصغيرة المبنية في شكل دائري اقرب الي القطية منه الي البيت بلا اسوار تحدها بل كانت متناثرة كنجوم في ليل طويل كانت مطابخهم في الهواء الطلق وكان بمقدورهم ان يضعوا علي قدورهم ما يشاؤون وان يحتسوا ما يرغبون وكانت ساحة منطقتهم عصرا مهرجانا مفتوحا علي الشارع به رقصة الكمبلا وغيرها وفنون المصارعة والريش الملون والخلاخل التي ترن مع الرقص وايقاعه كانت الدرادر حياة حرة تتنفس حرية وكنا نعبرها مطمئنين الي المزاد وبالعكس في طريقنا الي طاحونة المزاد العتيقة لاجل طحن الحبوب والعودة بها دقيقا الي الامهات ، كنا نتوقف عند النقارة والرقص والمصارعة مشدودين الي تلك الطبيعة البكر الراقدة في قلب المدينة... كان سكان الدرادر عمالا للصحة يتبعون البلدية ويعملون في اعمال النظافة واعمال اخري اقلها حمل قاذورات المدينة علي الاكتاف ولكنهم كانوا يعيشون حياتهم كمن ملك الدنيا وما فيها ... فرح دائم ورقص وصراع لابراز القوة وتمسك بالجذور رغم البعد.. ساعود لهذا العالم لاحقا... المهم ان الاعواد والشرقانيات التي احضرها ابي استحالت بعد ايام قليلة راكوبة وسيعة اختلت قسما كبيرا من الحوش الخالي وصارت بمثابة المطبخ في البيت....اكتمل الرحيل في يوم من ايام شهر يوليو وكتبت نحتا علي جدار المطبخ ذلك التاريخ . واكتمل الرحيل الي الكمبو وكانت الترعة لاتزال جارية بالمياه فاصلة بين عالمين عالم الكمبو بعماله البسطاء وعالم حي الدرجة الارستقراطي الذي كان يقطنه الاثرياءوكنا صغارا جدا حين ادركنا تلك الفوارق فكان نصيب اولاد الدرجة منا كرات من الطين نكورها ونلهب بها ظهورهم من علي البعد ونولي هاربين
الدرادر ذلك المهرجان الذي أحتفي؟!
طفلا صغير ا كنت حين رأيتهم علي الرؤوس قرون بقر والصدر والظهر عاريان يلتمعان كبرق في ليلة ممطرة والريش فوق الرأس والعقود الملونة من الخرز ومن السيور البلاستيكية حول العنق وحول الايدي وذلك الشئ المثبت حول الوسط بحزام لاتعرفه رداء ام ازارا ام انه محض زينة تكتمل بها لوحة الالوان الباهرة المحيطة بذلك القوام الابنوسي اللامع... في الارجل مجموعة من الفيش تجلجل كخلخال في اقدام حسناء جميلة تتثني في مرقص امام الناظرين....كان ذلك هو المشهد الاول في حلقة المصارعة الشهيرة التي تنعقد يوميا عصرا في منطقة الدرادرويتجمع الناس من كل صوب ليشهدوها يشدهم فضول تعززه تلك الصافرة الراقصة الي تنادي الناس للمشاهدة وتكون حكما بين المتصارعين فيما عرف في ذلك الجزء من مدينة مدني بصراع النوبة.. كان مشهدا احتل الصدارة في ايام طفولتنا وذكرياتها مقترنا بمشهد اخر كان عاديا وقتها لككننا نذكره بصورة موجعة ونحاول محوه من الذاكرة .. كان ذلك مشهد هؤلاء المصارعون الموفوري الكرامة في حلبة النزال وهم يجولون المدينة حاملين علي الرؤوس قاذورات المدينة وهم يغنون ونحن نركض من امامهم خوفا بعد ان نعايرهم بالعمل الوحيد الذي كان متاحا لهم في المدينة... كلما ذكرت ذلك المشهدوقرنته بصيحات الأب فيليب عباس غبوش في باحة الجامعةحول معاملة المجتمع لاهله شعرت بشئ من العاروودت لو اني استطعت محو المشهد من ذاكرتي كما مسحه التطور من امام اعين الاجيال الجديدة...اتذكر الحلقة المتسعة واستمتاع الحاضرين بذلك الصراع الجميل الذي يستعيد به اهله بعض ما تركوا خلفهم من مباهج وكرامة في مراتع الصبا البعيدة ويبددون به قسوة المدينة واهلها عليهم... بعد ذلك بسنوات حين انمحي ذلك الحي الصغير من خارطة المدينة قسرا واختفي اهله كأنهم لم يكونوا واختفت عربات البلديةالتي كانوا يتعلقون بها ويركضون خلفها بخطواتهم القوية.. اختفوا غابوا في الزحام ولم يعرف احد اين ذهبوا ولم يشغل احد نفسه بالسؤال وحدي كنت اتذكرهم وافتقد ذلك المهرجان الجميل الذي كانوا يقيمونه في الهواء الطلق في كل يوم وافتقد صوت صافراتهم الجميلة... يا مدينتي الجميلة لم فرطت في ذلك المهرجان ؟
لم قسوت علي اجمل القادمين اليك وتركت المكان هامدا بعد ان كان يضج بالحياة؟
وجه من ودمدني الاخري(الموجعة)
لم تكن جذوره من مدني، لكنه برز في حواريها وازقتها وشوارعها وصار نجما لامعا في مجال هو عصب الحياة في المدينة التي تتنفس رياضةوتعشق المهرجانات والبطولات وساحات كرة القدم البكر التي يمارسها ناشئة واعدين... كان(ع. ق) بسمته الوسيم وشعره الكثيف كما كانت الموضة في ذلك الزمان اقرب الي الزنوج الذين نراهم في السينما في افلام شافت وسيدني بواتيه ، كان من القيادات الشبابية التي قدمتها حكومة مايوووضعت بين ايديها ادارة النشاط الشبابي وعلي وجه الخصوص نشاط روابط الناشئين فكان هو والاستاذ محمد الامين قادة محنكين لذلك النشاط المزدهر الفريدالذي كان ركيزة اساسية لنهضة مدني الكروية الباهرة في الثمانينات التي استمرت حتي مطلع التسعينات ثم بدأت الرياضة في مدني الموت البطئ المستمر حتي الان..كان الرجل رياضيا فذا واداريا فريدا شهدت له ملاعب الروابط في مدني وذلك المكتب الصغير في مركز الشباب الواقع بعد محطة السكة حديد مباشرة بحضور دائم ونشاط وافر لم يمنعه منه عمله الحكومي كمفتش تموين نشط.
كان كل اطفال مدني وشبابها يعرفونه ويعرفون الموتر الذي كان يستقله في تنقله وكان محبوبا من الجميع.
كانت نهايته فاجعة شكلت وعينا المبكر فذات صباح خريفي جاء بعد ليلة ماطرة كثيرة العواصف والرعودذهبنا خائضين الي مدرستنا الواقعة بحي الدرجة لهونا واقبلت الظهيرة حاملة النبأ: في ذلك المنزل القريب من مدرستنا جاءت عربة الشرطة وسري همس بان(ع.ق) وجد مقتولا في غرفته الخاصة في ذلك البيت الصغير في اطراف المدينة في ذلك الحي الارستقراطي العتيق، كانت تلك اول مرة نسمع فيها بكلمة قتل واول مرة تطوف في رؤوسنا الصغيرة صورة انسان قتيل، سمعنا روايات عديدة واقتربنا بخوف من المكان الذي شهد المأساة.. شاهدنا كلاب الشرطة تتشمم المكان وهي في ايدي مدربيها...راجت في المدينة قصص كثيرة ولم يمط اللثام عما حدث في ذلك البيت الذي كان المرحوم يقطنه وحيدا في تلك الليلة الماطرة ولكن المؤكد ان الرعد كان شاهدا وان السماء بكت بدموع غزيرة رجلا طيبا اعطي مجتمعه بلا حدود وجعلنا موته الفاجع نتساءل: ( كان طيبا .... لم يقتلونه؟؟؟)
وحين كبرنا ادركنا ان الطيبون وحدهم هم الذين يقتلون
ويعانون......... ايتها المدينةلم نامت عينك في تلك الليلة؟لم تمنعي الجريمة؟ام تراك اكتفيت بدمع السماء الذي سال الليل كله وقسما من الصباح؟
ود عم فاروق
في مدني شخصيات عجيبة وفريدة لايعرف عنها الناس الكثير ولكنهم وجدوا اصحابها بينهم فتقبلوهم كما هم بلا اسئلة. من هذه الشخصيات(ود عم فاروق) ذلك الفضولي الذي يفوق أشعب وسيرته.
في طفولتنا البهية وجدناه حيثما ذهبنا ذلك الرجل القصير الممتلئ الذي يرتدي شماعة كاملة من الملابس المتسخة ، كان عجيبة من عجايب مدني العديدة.. لاتفوته وليمةاو مناسبة في اي حي من احياء مدني وان كان يركز علي احياء بانت والبيان والعشير وام سويقو وودازرق و وجبرونا وهي جميعا متجاورة بصورة او اخري فمدني نفسها مثل مائدة في بيت فقير محدودة الحدود صغيرة لمن الفها في ذلك الزمان ولربما حتي الان، كان صاحبنا فضوليا له قدرة عجيبة علي ادراك اخبار المناسبات السعيدة والحزينة وكان يأتي دائما في الميعاد دقيقا كالساعة جريئا كصاحب حق سليب،لم يكن الناس يتضايقون منه بل يجلسونه مثل باقي الضيوف ويتغاضون عن أخذه لبعض الطعام في جرابه الذي لايفارقه ابداويلتفون حوله يمازحونه وهو لاه عنهم بوليمته ومخلاته .. تقبله اهل مدني كقدر لافكاك منه ولم يبحث احد عن اصله او فصله او خيوط حكايته، هكذا كان الناس في ذلك الزمن متسامحين ومطمئنين وروؤفين وبعيدين عن الخوض في سيرة الناس... مثلما ظهر فجأة اختفي ود عم فاروق من شوارع مدينتنا فجأة ولم يعرف احد اين ذهب كما لم يعرفوا من اين جاء؟
*****************************
( أبكرقروش )
راجت في مدينتنا لبعض الوقت بعض الظواهر ومنها ظاهرة بعض من تنسب اليهم اعمال خارقة للمألوف ومنهم صاحبنا أبكرقروش الذي كان مشهورا بانه ساحر يستدعي القروش من كل شيء وفي أي وقت وأتذكر انه ذات مرة أخرج ريالا من شعر أحدهم وراج في المدينة أن نقوده تلك تعود ورقا أبيضا لا قيمة له بعد فترة ، المهم شغل الرجل الناس طويلا ونسجوا حوله الاساطير الي ان شاهدناه مكبلا بالحديد وسط جوقة من العساكر قابعا داخل كومر الشرطة الرمادي العتيق وهو يبتسم ويؤمي بكلتا يديه المقيدتين للناس المتجمهرين الذين لم يكفوا عن الركض خلف العربة ومطالبة أبكر بالقروش.... غاب أبكر في جوف السجن وغابت حكاياته وبقيت بذاكرتي تلك الرهبة حين أتذكر كيف انحني وجاس في التراب بيده ثم ناولني تلك القطعة المعدنية فنظرت اليها في بلاهة وخوف ثم أسقطتها أرضا وركضت دون ان التفت الي الوراء ثانية.
تتواصل السيرة
No comments:
Post a Comment
شكرا علي المشاركة والتواصل