Wednesday, December 18, 2013

الرجل المائدة ( فريد محمود خليفة)

كان الرجل علما من أعلام المدينة، طبيبا ناجحا ومشهورا ينحدر من أسرة تعتبر من أعلام المدينة ورموزها وبيوتها العريقة والثرية،كان شخصية مرحة خفيفة الظل واجتماعية من الدرجة الأولى، تدرج فى سلم الوظائف الإدارية حتى بلغ قمتها، مديرا عاما للصحة فى زمن لم يعرف فيه السودان الوزارات الولائية وكان مدير الأدارة هو قمة الهرم فى الأقليم، لمع نجمه وازداد تواضعا على تواضعه وزاد ت محبة الناس له، ماطرق بابه صاحب حاجة أو رجاء وعاد خائباً،ماتنمر على أحد ولاتذمر أو شك من كثرة الأضياف فى بيته،ولاغابت ابتسامته الجميلة عن المحيا ولا غاب صاحبها عن فرح أو كره فى دروب المدينة الكثيرة، حتى أدركه معاش كان مبكرا بالنسبة للمستظلين به من الهجير، لكنه كان عاديا وطبيعيا بالنسبة اليه والى سنوات خدمته الطويلة، تقبل الأمر برحابة صدره المعهودة وانتقل من بيت حكومى كبير الى بيت صغير جميل بناه فى حى شعبى عمدا، فقد كان يحب الفقراء والبسطاء وكان يعلم بطريقة ما أنهم هم أسرته وأهله، كان بعيد النظر، فقد هجر اولاده الوطن وغابوا فى بلاد تموت من البرد حيتانها، ولم يبق معه أحد سوى طباخ عجوز ظل يتنقل معه أينما ذهب،كان بيته الصغير واسعافى الحقيقة، مبنيا بطريقة مختلفة من البيوت الأخرى، غرفه متعددة، وكان البيت مزدحما بالبرادات( الثلاجات ديب فريزر) وكانت عامرة بالخيرات، كان البيت الكبير خاويا ، الا منه هو وطباخه، لكنه كان مفتوحا دائما للضيوف من الأهل والجيران، لم يكن البيت يخلو، كانت تلك رغبة صاحب البيت، أن يكون بيته مفتوحا ومكتظا والأ يخلو عند الوجبات من ضيوف،كان مائدة مفتوحة، وضجيجا فرحا، كان يحب الكوتشينة، ويحب الأنس،  فلم يخل البيت من الكوتشينة التى جمعت أهل الفريق من مختلف الأعمار، ولم تخل الدار منهم وكان صاحب الدار بشوشا فرحا بهم كطفل عثر على لعبته الأثيرة، كان مستشارا وطبيبا مجانيا للجميع ويدا تعين سرا وعلنا من يحتاج العون ومن يطرق بابه،كانت السيارة الفخمة فى الخدمة وعلى أهبة الاستعداد، وكان صاحبها صديقا للجميع، كنت أحرص على التواصل معه دوما،صباحى يبدأ به وأنا فى طريقي للعمل تقع عينى على سيارته المرسيدس السماوية الجميلة، وفى الأمسيات اكون ضمن كوكبة الاصدقاء معه، كان عونا وسندا لى في بداية حياتى المهنية بشكل سيظل دوما موضع امتنانى، كان الرجل حديقة مليئة بالقناديل والزهور
حتى كان يوم
انطفأ فيه مصباح

وغابت مائدة الرجل
وبقيت سيرته
تمشي فى شوارع المدينة
مبتسمة كصاحبها
بيد أنها
حزينة. فقد رحل الرجل المائدة، البشوش، الطيب، الضاحك، الكريم، الشهم، المتواضع
الدكتور فريد محمود خليفة. اللهم أرحم فريد محمود خليفة وأكرم نزله وتجاوز عن سئياته ان كان مسئيا وتقبل منه والحقه بالصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.
صلاح الدين سر الختم على
مروى 
18 ديسمبر 2013

Thursday, November 7, 2013

بيت النخلة / سيرة/ صلاح الدين سر الختم على

كان بيتا صغيرا مكونا من غرفتين فقط ومطبخ صغير وحمام، بيتا حكوميا في حى عمالي صغير في طرف مدينة وادمد نى الجنوبى  اشتهر وعرف باسم 114 أو الكمبو ،كان الحى يتكون من مجموعة من البيوت المبنية بطريقة واحدة  ومنقسمة الي نوعين يسمى الأول (الفرادى) وهو على شاكلة ما وصفناه اعلاه من حيث عدد الغرف، وهناك نوع ثانى يسمى( الدبل ) وهو أكبر قليلا يتكون من غرفتين مفتوحتين علي بعضهما وتتوسطهما برندة داخلية وملحق بهما حمام داخلي وهناك صالون كبير ومعه حمام خارجى وهناك غرفة كبيرة تعتبر مطبخا، والى جانب ذلك فان الحمام مميز عن حمامات الفرادى بالبئر الخاصة به، بينما الفرادى كان يقتقد الي تلك الميزة ويعمل بنظام الجرادل الحديدية التى كان عمال البلدية يحملونها على الرؤوس حين تمتلئ ويفرغوها فى عربة خاصة بها ترميها بعيدا، كان ذلك زمنا قبيحا رأينا فيه بعضنا يحمل فضلات بعضنا على رأسه في منظر مهين مذل، وقد اختفت تلك الصورة القبيحة في السبعينات واصبحت لكل البيوت آبار ملحقة بها، نعود الي بيتنا الصغير ذاك فقد كان يتميز بوجود نخلة باسقة فيه تشكل عنوانه ووصفه وتفصح عن سمتين مهمتين من سمات أهله، فقد كان صاحب البيت العم محمد محمود مزارعا قدم من أقصي الشمال حيث ؟أهله الدناقلة ليشتغل بوزارة الرى في مدنى في المهنة التى يجيدها وهى الزراعة  وكانت بصمته ظاهرة في بيته الصغير بشكل واضح وكانت النخلة بمثابة اعلان عن هويته الشمالية وعن بئيته الأصلية وأشواقه الدائمة اليها، كانت زوجته فاطنة ساتى هى الأخري معلما من معالم الحى ورمزا مجسما لثقافتها النوبية فظلت تستخدم رطانتها كأنها لم تغادر أرض اجدادها وظلت تتحدث العربية بالقدر الذي يعينها علي التفاهم البسيط مع من حولها وظلت تؤنث المذكر وتذكر المؤنث غير عابئة بالنحويين والمعترضين ، وظل وجهها يتألق ورطانتها تملأ المكان كلما وجدت من أهلها من يجيدها،ومع ذلك الاعتزاز بالجذور دخلت فاطنة ساتى قلوب الجميع بلغة أخري لغة عالمية لاتكتب لكنها تعاش وتحس وتربط بين القلوب ( المحبة) فقد كانت كريمة محبة للصغار والكبار وبيتها مفتوحا للجميع و كان بالبيت شجرة ليمون مثمرة هى ملك للجميع وكانت النخلة ظلا للجميع مع انها في قلب البيت ، كان الصغار يحبون البيت  الخالي من الصغار وصاحبته وكانت النسوة يهرولن كل ظهيرة وصباح الي أم الجميع التى ماتخلفت عن عيادة مريض وتهنئية بمناسبة سعيدة ومواساة ساعة حزن كان لفاطنة ساتى وزوجها اسرة مميزة ، بنتها الكبرى حواء بيضاء البشرة ذات أنف فرعونى جميل وعيون واسعةوهى مرحة محبة للتسامر مع الجميع  وحين تجدها وسط اولادها لاتكاد تميزها عنهم في خفة دمها ومرحها وانطلاقها معهم كأنها واحدة منهم وكان زوج حواء العم محجوب دنقلاويا هو الآخر يبدو أكبرمنها كثيرا لكنهما حين يضحكان تشعر انهما رفيقا دراسة، كانت بنتها الثانية خديجة متزوجة ايضا وغير مقيمة معها لكنها مثل حواء لاتغيب هى وصغارها عن بيت الأم العظيمة،ولديها بنت تدعى سعاد كانت موظفة مرموقة تقيم معها حتى تزوجت هى الاخرى، اما الاولاد فكانا قمرين هما بابكر الذي طوي الدراسة بنجاح حتى تخرج صيدليا ناجحا من جامعة الخرطوم وامسى دكتورا ومحاضرا في كليته ذاتها وبات شريكا في مصنع دواء كبير بالخرطوم حتى اختاره الله الي جواره في ريعان شبابه تاركا من خلدوا اسمه واسم ابيه، الاخر (ختم) درس الجامعة هو الاخر بجمهورية مصر وعاد ليستقر بوطنه ويؤسس أسرة، في ذلك الزمان حين فتحنا عيوننا كان البيت الصغير يعج باهله وأهلهم وكان بابكر وختم من اولاد الفريق الذين كانوا يكافحون لاجل اكمال التعليم ولهما صلات واسعة وصداقات، كان البيت الصغير عامرا دوما بالاصدقاء والأهل والاحفاد، كانت سلوي ابنة حواء الكبري زهرة من زهرات الكمبو بمحياها الجميل ووجهها الباسم الطيب وقد جاء من تقدم لها وتزوجت علي عجل كمن يسابق قدرا كامنا متربصا وغابت الزهرة علي عجل وتركت في قلوب الجميع جرحا داميا لكنها تركت لهم منها  أثرا طيبا،مرت السنين وغيب الموت بعض أهل البيت الصغير وغيبت الحياة وتقلباتها البعض في بيوت بعيدة وبقيت تلك النخلة باسقة تنظر الي الجميع من عل حتى غابت عن بصرى. لكنها بقيت بشرفة الذاكرة باسقة بهية تحمل في اعلاها ملامح الجد محمد محمود الأصيلة ووجه فاطنة ساتى المميز.
صلاح الدين سر الختم على
السابع من نوفمبر 2013

Thursday, October 31, 2013

صور من البومات الذاكرة ( حياتى عبر بعض من عرفتهم)

                                       
 صورة أولي   / ودود الابتسامة   (  اسامة عثمان  )
وجه باسم ونظرات واثقة وشخص تشعر منذ الوهلة الأولي بالامان في حضرته وانك تعرفه منذ الميلاد، جذوره تنحدر من محافظة المتمة فهو سليل بيت عريق هنالك وخاله كان رجل اعمال عصامي شهير احتل مساحة كبيرة من ذاكرة المجتمع السودانى ردحا من الزمن حين برزت مملكته الاقتصادية الصغيرة للوجود وتناقل الناس خيوط قصة نجاحه بمحبة في السبعينات كأنها قصة نجاح كل واحد منهم، ومن المؤثرات الكبيرة في شخصية أسامة كونه من ابناء امدرمان حيث حبا ونما ، في جامعة القاهرة الفرع عرفته وقابلته أول مرة، كان قد سبقنا في دخول الجامعة قبل عدة سنوات ولكنه زاملنا منذ بداية دخولنا وحتى تخرجنا كأنه ولج الجامعة معنا بسبب كونه درس كليتى التجارة والقانون في ذات الجامعة  وكان من ناشطى الجبهة الديمقراطية غير المعروفين الا للمقربين منه ، فهو شخصية لاتحب الظهور ولا الأضواء، وجدت نفسي ذات نهار أمام رجل مبتسم ابتسامة عريضة صافحنى بمودة وحيانى تحية صديق قديم وهو ينادينى باسمي كاملا كعادته التى لم يتركها قط، كنت قد سمعت عنه كثيرا من أصدقاءمشتركين كانت الابتسامة تعلو وجوههم كلما ذكروا الأسم ( اسامة الظافر) وهو اسم الشهرة الذي عرفناه به، عرفت حين التقيته سبب الابتسام فقد بت كلما تذكرته علت الابتسامة وجهى،  كان شخصا لطيفا ومحبا للمرح بشكل ملفت ، كل حكاية عنده تبدأ بضحكة وتنتهى بضحكة أخري وكل شخص عنده موضوع حكايات مرحة بسيطة ولكنها تستدعى الف ابتسامة، وحين يتحدث تشعر ان صدره امتلأ بالهواء وحين يضحك تشعر ان غيمة سارة قد احتلت المكان،كان له فضل انتشار مجموعة من الالقاب علي عدد كبير من الاصدقاء فهو صاحب مصطلح ولقب ( العنقريب) الذي وزعناه بكرم حاتمى علي مجموعة كبيرة من الاصدقاء ، كانت البداية عنده حين كان يقول عن الصديق محجوب اسناوي( محجوب العنقريب) ثم اتسع اللقب فشمل كل صديق وبات من الشائع ان يسبق اسم كل صديق لقب العنقريب ومن اكثر من التصق بهم اللقب الاخ باشا من اولاد عطبرة حتى ظن الكثيرين انه لقب حصري له، وكان هو من اطلق لقب (سمبو) علي الاخ حيدر الذي طغى علي اسمه لقب آخر هو( حيدر الشرعي) وكان السبب انقسام حدث في تنظيم الجبهة الديمقراطية وكان هناك فريق يطلق عليه القيادة الشرعية وفريق يسمى المنقسمين وفي هذا الجو اطلق اللقب علي (حيدر) ، وكان هناك لقب آخر الصق بالاخ (علي البوب) فبتنا حتى يومنا هذا لانعرف له اسما سواه ( علي البوب) وكان اسامة هو مصدر اللقب أما (علي الوجيه) فلا أدري ان كان مبتكر اللقب هو أم الاخ فرانسوا ، لكن المؤكد ان لقب القسيس الذي الصق بفرانسوا كان مصدره اسامة وتناقله الناس عنه حتى بات شارة رسمية للقس حتى اختفي بعد هجرته خارج البلاد، اسامة كون من الوسامة واللطف يستقبل الناس بحكايات لاتنتهى فهو مخزن حكايات وأسرار ولكنه ليس ثرثارا، بل في طبعه ميل للتواصل ولديه دوما حكاية مشوقة في كل موضوع يفتح. عرفته دائما عفيفا عن تلطيخ أو تشويه صورة الآخرين، فهو يلوذ بالصمت حين يصير الحوار فيه ملمح أو شئ من ذلك. ربما لهذا السبب ظل دوما موضع احترام ومحبة الجميع. وكان زواجه هو وقرينته السيدة غادة عوض شوقي حدثا مهما في حياتنا فقد عرفناه وعرفناها وتمنيناها له وتمنيناه لها فقد كنا شهودا علي أيام التفتح الأولي لتلك الشجرة التي ربطت بين جامعتين كان تربط بين شبابهما روابط ثقافية وسياسية واجتماعية عديدة فجاء زواج بنت جامعة الخرطوم بهذا الفراعي الجميل تتويجا لعلاقات جميلة بين ابناء الجامعتين في ذلك الزمان. واسامة رياضي أصيل عرفته مدينة بورتسودان وهلالها في النصف الاخير من الثمانينات وحتى التسعينات عضوا نشطا بادارة نادي هلال الساحل وقمرا من اقماره. وفي منتصف التسعينات التقيت اسامة في مسقط رأسه المتمة حيث كنت قاضيها وحل بها لحضور مناسبة زواج هنالك فالتقينا واستعدنا ذكريات الجامعة وكنت قبل ذلك قد حللت ضيفا بمنزله ببورتسودان في عام 1991 حين حللت هناك في رحلة عمل عاجلة. وهكذا التقينا في مدن الوطن الجميلة( الخرطوم ثم بورتسودان ثم المتمة) . ومرة أخري التقينا في بورتسودان حين جئتها قاضيا في العام 2006 ،وذات يوم جئت امدرمان لعزاء فوجدت العزاء ملاصقا لمنزل اسرة اسامة وكان العزاء يخص أهل زوجتى. وهكذا السودان تجد فيه الف خيط يربطك بمن تعرف ومن تحب.





صورة رقم  2


ابراهيم عبد الرحيم ابراهيم شاويش الشهير باللقب   (بوب)
شاب سوداني بسيط وعميق من ابناءمنطقة جنوب كردفان محافظة الرشاد منطقة ابو كرشولا وتيري حيث مسقط رأس ابيه واجداده ولكن الفتي الاسمر الجميل ولد في بيت صغير من بيوت اللاماب وفتح عينيه علي الحياة هنالك في ذلك البيت الصغير الكبير بالمحبة بين افراده والقيم المستوطنة بأهله، الفتي شب هنا وقلبه مثل كل اهل السودان متعلق بالجذور التي ظل يقطع الطرق اليها بلا كلل في سنواته الثلاثين ولكن محبته للجذور لم تمنعه من الانفتاح علي حياته في عاصمة وطنه حيث شب وترعرع محبا للناس ودودا خدوما مكافحا من اجل لقمة العيش منذ الطفولةومحبا للموسيقي بشكل مميز حبا لم يقف عند الاستماع والتذوق   بل شمل العزف علي الات موسيقية مثل الجيتار والبيانو،اكمل دراسته الثانوية بمدرسة علي السيد بالصحافة واكتفي بتلك الشهادة السودانية، لكن طموحه فيما يتعلق بالموسيقي بقي يعانق حدود السماء فانخرط بمركز شباب السجانة ليتعلم العزف علي البيانو ويجود عزفه علي الجيتار، كان يقضي سحابة نهاره متنقلا في اعمال شاقة لكسب العيش فهو خراط ماهر وسباك ماهر وخبير في توصيلات الكهرباء وهو يباشر اعمال صيانة واعمال يدوية مختلفة فالرجل مصنع مواهب لايستعصي عليه شئ وله خيال علمي واسع يجعله قادرا علي ابتكار الحلول والمعالجات ببراعة تثير دهشة كل من يكلفه بعمل، وهو يهتم دوما بتحقيق النتيجة المرجوة منه اكثر من اهتمامه بالنقود والعائد، رجلا بشوشا كثير الابتسام قليل الكلام حاضر ا دوما ولايرفض لجيرانه ومعارفه طلبا حتي ولو كانت تلك هي المرة الاولي التي يباشر فيها ما كلف به
وكان طموحه كبيرا فهو ينتظم في دراسة منتظمة لتحسين لغته الانجليزية باستمرار مستعينا باخيه الاكبر هشام المتخصص في تلك اللغة
جمعتني بابراهيم واسرته الجيرة حين سكنت حي اللاماب وكان من حسن حظي انهم جيراني بالحيطة
جيران لاتسمع منهم الا ضحكات صافية تعانق السماء حين يجتمعون في حوش المنزل الملاصق لحائطي وكأنهم يتسامرون علي ضوء القمر في قلب الخرطوم الغارقة في الاضواء
كانت اصواتهم وضحكاتهم تجذبني الي ايام جميلة عشتها في حي 114 حيث نشأت حيث الكل يعرف الكل بالاسم والكنية وحيث الدخول بلا استئذان والضحكات تعانق السماء
والجيران جيران
والوجوه صافية
والمودةهي الخيط الرابط
كنت اتوق
دوما الي الانضمام الي ذلك السمر البرئ
وهكذا عرفت بوب ووالده الشيخ الذي تراه دوما في طريقه الي ومن المسجد عند الآذان وعند الفروغ من الصلاة
رجل ضئيل البنية
طويلا
حين يبتسم يغدو وجهه وجه طفل هو وحه ابراهيم نفسه فابراهيم دون اولاده يشبهه شبها جما حتي في محبته للصلاة
ففي يوم رحيله الفاجع افتقدته النسوة
وتساءلن عنه فوجدنه منهمكا في صلاة خاشعة
وكان ذلك قبل الرحيل المر ربما بدقائق
هل تري كان القلب يدري انها الصلاة الاخيرة؟
كان صديقي
وجاري
كنت اهرع اليه في الكبيرة والصغيرة طالبا عونه
فيجئ هاشا باشا كجندي تلقي امرا من قائده
ولايغادرني الا والصعب بات سهلا
والمتعطل
هدر بالحياة
كنت استمتع بمجاذبته اطراف الحديث
فقد كانت له طريقته الفريدة في عرض الاشياء وسردها
كانت حكاياته خليطا من حياته اليومية
وما يصادف فيها من انواع البشر
القساة الذين يجعلونه يعمل كثور في ساقية ثم يجحدونه ويلقون اليه دراهم قليلة لاتتناسب وجهده لالشئ الا كونه لم يفرض شروطه ولم يساوم مسبقا عندما كانت حاجتهم رعناء
لكنه كان يضيف دوما للحكاية
حكايات جميلة عن اناس طيبين
يعطونك ما تستحق واكثر منه ويفيضون عليك كلاما طيبا
واعتذارا
كان يري هولاء ملائكة تستحق الحياة لاجلهم غفران كل شئ لنقيضهم
وكانت احلامه تتسلل بين سطور الحكاية بطريقة أو اخري
كان مثقفا ثقافة عالية تجعلك تشعر بالخجل كونك طلبت منه اداء عمل صغير لايتناسب وتلك الثقافة وتلك الاحلام
لكنه كان متصالحا مع ذاته بشكل مدهش
وحين يتحدث عن جذوره يتوهج وهو يصف الطبيعة والحياة والناس
كنت اتمني دوما ان اراه وهو يعزف او يغني
كنت اتمني لو اننا كنا في ذات السن حتي نرتاد الاماكن نفسها ونتحدث سويا عن احلامنا بلا حواجز كالتي نسجتها الحياة بيني وبينه
انا القاضي وهو العامل
انا الكبير وهو الصغير
وثمة تفاهات اخري تنتصب
كنت قادرا علي تجاوز ذلك  كله حتي اعرف هذا الانسان الجميل نادر المثال واتطفل علي احلامه واحصل علي سر تلك الابتسامة الصافية الدائمة وتلك القدرة علي رؤية الجميل والتغاضي عن القبح طوعا
هو كان قادرا لكن ادبه كان يمنعه من تجاوز خطوط مرسومة
بوب عاش حياته ببساطة ومضي في هدوء ، كانت احلامه بسيطة وعظيمة: ان يعرف اللغة الانجليزية باجادة تمكنه من الالمام بفن الموسيقي ومعاني اغاني احبها كثيرا، وكان يحب العزف والموسيقي لانه يحبها وليس لاي سبب آخر، لم يكن يريد ان يصبح مشهورا او ثريا، كان معجبا بحياته كما هي وراغبا في تزيينها بما يحب، كان يحب الزراعة وبالذات الزهور والموسيقي والناس،لم يهتم كثيرا بالفقر والغني
انا متأكد من ان نباتاته التي غرسها في ذلك البيت الصغير تفتقده وتشتاقه مثل الناس
.....................................................
في يوم الرحيل خرج ابراهيم بشعره المضفر
ووجهه الباسم
وقبل الوداع طلبت منه الوالدة
أن يأكل شيئا لكنه رفض
قال انه ليس جائعا
صب عطرا في يدها بلا مناسبة
وودعها
وخرج
ماكانت تدرك ان تلك الرائحة هي ما سيبقي او لايبقي منه
كان علي موعد مع صديق يعمل في نقل المياه بعربة مخصصة لذلك الغرض
كان الصديق متجها الي حي الانقاذ
طلب منه مرافقته ففعل
فهو لايرفض طلبا
انجزا العمل
تناولا القهوة والشاي
وانسحب ابراهيم فصلي صلاته الاخيرة
وصعد في العربة
ثم دفعته شهامة للنزول ليساعد صديقه في الرجوع خلفا
عند النزول تعثر
الرجل الشهاب
وسقط
وداسته العربة
نهض واقفا
نهوضا اخيرا ثم هوي كنخلة وقبل الارض للمرة الاخيرة
صعدته روحه الطيبة الي السماء
واتجهت احلامه
الي الارض
لتبذر بذورا لاتموت
ولاتكف عن التجدد
والتكاثر
كما اراد لحياته
القصيرة
ان تمتد
بهذ اللوحة الاخيرة
التي جسدت حياة كلها بذل وعطاء
بسخاء
حتي
آخر رمق
وتلقت أمه النبأ برباطة جأش غريبة
ظلت تطرق البيوت لتخبر الناس بنفسها بعبارة ملتبسة
...قالوا ابراهيم مات
وتحكي عن عطره في يدها الذي مافات

وتغالب الدمعات
.................
مضيت وحدك ياصديقي
مضيت وحدك
ولن يكون وجهك الطيب حاضرا في مقبل الاعياد
لن تطرق الباب بعد الصلاة مباشرة
لتهنئ بالعيد
ولن
اسافر مطمئنا ككل مرة استودعك فيها بيتي
لن اسمع صوتك تنادي صلاح الصغير
وربما لن اسمع ضحكات اهل بيك الصافية الي حين
لكن
ياصديقي
احلامك ستبقي
تحلق كحمامة
وابتسامتك
تبقي
علما وشارة
لرجل
نادر المثال
لك الرحمة
وأسال الله ان يغفر لك ويرحمك
ويغسلك من الذنوب
ويتقبلك مع الصديقين والشهداء
وداعا صديقي ابراهيم بوب
صلاح الدين سر الختم علي
كريمة
العاشر من مارس 2012





صورة رقم 3
لويجى الحصان الأسود النبيل

‏30 يوليو، 2012‏، الساعة ‏10:48 مساءً‏
رحل في هذه الظهيرة بالقاهرة رجل نبيل رجل قل أن يجود الزمان بمثله ،
رحل عن الفانية صديقي

وزميلي القاضي السوداني من أصل جنوبي / لويجي جون نيجاك الامين العام السابق لرابطة اهل الهلال ببورتسودان الهلالي الغيور والمخلص والعاشق للهلال ، القاضي العالم والشجاع والنزيه والحازم الذي لايخاف في الحق لومة لائم ، عرفته مدينة بورتسودان فتي تربي في سمومها وحرها وكابد معاناة أهلها في سنوات الدراسة ، وعرفته قاضيا متميزا عطر ساحات محاكمها بعلمه الغزير واحكامه التي لاتنسي وتواضعه الجم مع الصغير والكبير، عرفوه ودودا في حزم وحازما في طيبة ورصانة وسمو خلق، وعرفه زملائه باحثا عن المعرفة بشغف ومتفانيا في عمله باخلاص ووحدويا لايشق له غبار، بقي حيث نبت ونما يحمل محبة لاحدود لها لجذوره واعتزازا كبيرا باصله الشلكاوي ، لكن سودانيته كانت الأعلي بين انتماءاته،كان يتمزق وهو يري الوطن يمضي نحو التمزق والانفصال ، ولكن أمله في انتصار الوحدة لم يخبو أبدا، حتي كان ذلك اليوم المشؤوم الذي انتصرت فيه ارادة الانفصال، حزن الرجل حزن الحراز، وبقي متمسكا بأمل آخذ في التلاشي حتي أفاق ذات يوم ليجد نفسه أجنبيا حيث حبا ونما وصار قاضيا ملء السمع والبصر، أصبح صبح كئيب فوجد لويجي جون نيجاك الشلكاوي السوداني أبا عن جد والراكض حافيا في بورتسودان في صباه ولم يشفع له عرق بذله لكي يتعلم واشواك مشي فوقه لكي يتميز، وجد نفسه أجنبيا لايشفع له جواز سوداني وجنسية وبطاقة شخصية وبطاقة قضاء مكتسبات بالعرق والتاريخ والجغرافيا والقانون، بات أجنبيا وسقطت عنه ولاية القضاء ، فقد كل أوراق الهوية المكتسبة وبات جنوبيا أجنبيا مقيما بصفة مؤقتة،جون واخيه واخته اولاده المولودين ببورسودان باتوا اجانبا وكذلك وميري زوجته السودانية أبا عن جد باتت أجنبية، رحل لويجي مرغما الي الجنوب ملاذه الباقي أو ما تبقي له من وطن كبير، ترك اسرته الصغيرة بامدرمان وسافر مرغما بأمر سرطان الساسة السودانيين، وهناك كان سرطان آخر يتربص بالفتي الأبنوسي، تسلل السرطان الي كبده والي ظهره رافضا الرحيل كما تسلل سرطان الساسة الي جسد الوطن النحيل ونهشه، نهش السرطان لويجي، اربعة اشهر كان عمر رحلته مع المرض اللعين وحلقت روحه في سماء القاهرة في الظهيرة بعد غيبوبة أمتدت ولم يعرف خلالها أخبار الوطن واخبار معشوقه الهلال، بكت الاسود في الغابات وبكت صقور شاهين في البحر الأحمر وبكت القماري في الشمال.....سكت المغني....نعاه الناعي للرفاق المتوزعين علي مدن الوطن بالتساوي ، كان صوت ميري وهي تبكي وتطلب الدعاء له هو الأعلي، كانت حبيسة بامدرمان كونها اجنبية لاتملك وثيقة سفر تصلح للسماح لها بالخروج من الوطن لملازمة رفيق عمرها وووالد صغارها في رحلته الاخيرة، بخل الوطن عليها بوثيقة سفر وهوية، هي جنوبية مع وقف التنفيذ وسودانية فيما سلف قبل المذبحة مذبحة الانفصال السياسي الذي لم ير عذاب البشر ولم يراع مشاعرهم ولم يحفظ حقوقهم الانسانية المكتسبة، رحل لويجي وحيدا، وبقيت ميري تبكي في امدرمان وطنا ورجلا وطن....وبقينا عاجزين حتي عن الصراخ.............
اللعنة علي من فعل هذا ببني وطني
كان تلميذي وكان صديقي
وكان اخي كان بيته بيتي وبيتي بيته
وتوسد قلبي وتوسدت قلبه الكبير
جمعنا العمل ببورتسودان
وجمعنا عشق الهلال والعمل برابطة اهل الهلال
وجمعنا حب كرة القدم وحب مهنة القانون
كان قلبا كبيراوانسانا جميلا
واكبر خرخار جميل في فريق الصنداي الذي جمع ثلة من عشاق كرة القدم المتقاعدين ببورتسودان

كان يلبس الازرق دوما ولايرضي الا بالانتصار
كانت ميري زوجته وجون ابنه الاكبرورزق بولد آخر وبنت لم أراها فقد فرقتنا السبل
حتي جاءني الخبر كالصاعقة نهار اليوم
في شكل استغاثة مفزوعة من ميري عبر الاسلاك تقول ان لويجي يحتاج دعاءكم
وانني لا استطيع ان اكون جواره في محنته لانني بت أجنبية
وبعد أقل من الساعتين من الاستغاثة جاء نعيه كالصاعقة
وتناقلت الهواتف الباكية خبر رحيل الرجل النبيل
نم هانئا ياصديقي
نم هانئا أيها النسر المحلق
نم هانئاأيها السوداني النبيل الذي لن تنزع سودانيته سرطانات سياسية بليدة
ولاسرطانات جلبها الساسة لاجساد معافاة قصدا
نم هانئا أيها الشهيد
نم في تراب الجنوب
فهو جزء أصيل من وطنك الكبير
ودع ميري وجون واخيه واخته في أمدرمان سادةسودانيون لايعترفون بالحدود المصنوعة المصطنعة
نامي هانئة ميري في ضفة النيل الابيض وأرسلي سلامك الي لويجي عبر مائه الرقراق
لويجي أخي قل لاعاش من يفصلنا
قل لاعاش من يمنع جون من أرض حبا فوقها هو وأبيه ونميا.....
صلاح الدين سرالختم علي
الولاية الشمالية
مروي30/يوليو/ 2012



صورة رقم 4

(عبد الحفيظ علي عثمان)
سقوط شجرة في النهر
تبكيك القماري في ابوهشيم، تنوح بأعلي صوتها يا عبد الحفيظ
تبكي الفنجري، اخو البنات، الحر،تبكي الفهم والرأي والكلام الدر،
كان صباح البارحة الرابع والعشرين من يونيو صباحا أسودا وحزينا، كان فنجان القهوة مرا وأسودا أكثر من المعتاد، كان التلفون نذير شؤم حين حمل الي نعي ( عبد الحفيظ علي عثمان) رحل عبد الحفيظ ياصلاح، قالها أخي عبد العظيم ودموعه تجري عبر الاسلاك والفضاء في الصحاري الواقعة بين مروي والخرطوم، كان يبكي كطفل وتحنقه العبرات، قلت دون وعي ودون تفكير: عبد الحفيظ!!قال بصوت خافت وحاسم  عبد الحفيظ ياصلاح، كانت المفاجأة أنه كان يصارع السرطان الخبيث منذ زمن وكنت آخر من يعلم، كنت القاه متوردا بالحياة متوقد الذهن يناقشني بذات الحيوية وذات الجمال والسلام الداخلي كأنه يحيا الي الأبد، كأنه لايشكو علة ولا ألم،كان يحاورني حول الرمال يافاطمة وحكايات أبوهشيم الحبيسة في الصدور، يحكي فيضحك مع كلمة ويضئ وجهه الشبيه برمال ابو هشيم حيث حبا ونما وخرج الي العالم شجرة باسقة وعلم غزير وروح متوثبة للخير عامرة بالمحبة، ماغيرته سنوات الدراسة بأعتي جامعات البلاد، جامعة الخرطوم، ما غيره منصب كبير أحتله بوزارة المالية، ولاهزته الخطوب، رحل محجوب  شقيقه باكرا بعد معاناة مع المرض، لم تهتز الشجرة ولم تتيبس العروق، رحل محمد البدوي جمال الدين ابن عمته ذلك المعلم الفريد الذي خلدت سيرته في رواية الرمال يافاطمةممثلا في الطيب ود محمود، ولم يهتز عبد الحفيظ وظل صامدا مثل جبال ام سرح وشجر الطندب فيها واشجار النخيل والدوم في وجه الرياح والتصحر والرمال،قبل ذلك رحل والده علي عثمان تلك الشخصية الأسطورية التي استعرتها من الحياة وكتبتها محبة في الرمال يافاطمة، علي عثمان هو راوي ابو هشيم وزينتها وترزيها وصانع الجمال فيها بالنكتة الحاضرة والكلمة اللطيفة والروح المتوهجة والحب للناس،بتلك الشجرة المباركة كان البشاري وهو من أشهر مناطق ابوهشيم مضئيا ككوكب دري يوقد من شجرة مباركة، كانت وابور علي عثمان حاملة الخصب للارض وكانت زراعته مخضرة دوما مثل صاحبها،وكان محجوب وعبد الحفيظ وجمال واخواتهم بدورا وامهات حسن وأمونة  تتوسطهن أمهن فاطمة بت بابكر ذات الملامح الطيبة والقلب الكبير عليها رحمة الله، كانو جميعا ثريات في بهو أنيق وكانوا مثل الماء الذي تجلبه بابور علي عثمان حاملين الخصب حيثما حلوا،رحلت حاجة فاطمة في مطلع يونيو قبل اسابيع ولحق بها عبد الحفيظ قبيل نهايته، كأنما اراد اللحاق بها محبة وتدلها في أم مكافحة صبورة أو قل كأنه انتظر رحيلها حتي لايعذبها رحيله، كانت تدعو الله علنا أن يكون رحيلها قبل رحيله وكان عبد الحفيظ يدعو الله ان يكون رحيله  بعدها ليس زهدا في حياتها بل خوفا عليها من حزنها عليه ، وأرادت ارادة المولي ان تستجيب لكليهما فرحلت هي أولا ولحق بها هو ،اللهم تقبلهم جميعا قبولا حسن وأجعل الجنة مثواهم،، ثمة حكايات معلقة ياعبد الحفيظ لم نكملها، ثمة أشعار موروثة لم أنقلها عنك كما وعدتني، ولم أر علي عثمان الصغير الحفيد، لم يتشبع بحكاياتك عن جده ولم يقبض منك شيئا بعد، من يقلها لي يا عبد الحفيظ مثلما كنت تقولها: ياخال. مذكرا أياي كعادة أهلنا الرباطاب بموقعي في شجرةالنسب، بينما كنت أنت في شجرة الحياة أبا للجميع وصديقا للجميع وأكبر نخلات أبو هشيم وأطولها وأجودها تمرا وأكرمها جودا وعطاء،رحيلك هو حقا سقوط شجرة في النهرشجرة تحمل بذوراتكفي لغرس الخير والخصب في كل الكرة الأرضيةشجرة
في كل سنبلة منهامائة حبة،**(وهل يموت الذي كان يحيا وكأن الحياة أبدوكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد)نم هانئيا عبد الحفيظ، نم هانئيا قرير العين، فما هزمك السرطان يوم تسلل الي الجسد النحيل ولكنه هو الذي انهزم، وما مات من كان في قلوب الناس يحيا للأبد،نم هانئيا أيها النسر الطليق نم هانئياففي ***البشاري تتناقل سيرتك القماري وتحملك الجداول خصبا لايموت

صلاح الدين سر الختم علي
25 / يونيو/ 2012


صورة رقم( 5)
الراحل خالد جبرالله سيد احمد
(خالد جبر الله بالحب عشت وبالحب تحيا في القلوب مبتسما)

خالد جبرالله سيدأحمد شاب سوداني جميل بسيط يجيد أشياء عديدة أبرزها دخول القلوب والسكني فيها مرة واحدة والي الابد، رجل من الصعب ان تلتقيه مرة ولاتبحث عنه بعدها في كل مكان لتستزيد من ذلك النهر المتدفق محبة وطيبة ولطفا لاحدود له
هذه الصورة المرفقة هي طقسه الوحيد المتجدد فخالد في كل مناخاته مبتسم ضاحك ناثر للفرح والأمل والبهجة حيثما حل، أسرة عمنا الراحل جبرالله سيد أحمد من الأسر الفريدة في مدينة مدني ، الأب جبرالله سيدأحمد موظف البوستة الأنيق والسياسي المحنك الذي اختار مع شقيقه الراحل محمد سيد أحمد الحزب الشيوعي والعمل السياسي طريقا رسم ملامح حياة الاسرة بأكملها وأثر في اختياراتها ومصائرها فلم ينج أحد في تلك الأسرة من سوسة السياسة ومن دروبها الموحشة لمن يختار النضال السياسي طريقا لحياته، الأم ام الحسن او أم الجميع بوجهها السوداني الجميل الباسم دوما وشعرها الثوري وحفظها لكل اشعار محجوب شريف هي بحد ذاتها لوحة مقاومة وصمود أخذ منها خالد تلك الابتسامة الدائمة فام الحسن لاتعرف العبوس أبدا ولاتعرف الاحباط او التبشير به دوما مبتسمة هاشة باشة أطال الله في عمرها، العم جبرالله وجد نفسه خارج دائرة العمل السياسي في السبغينات تحديدا اواخرها  واختار مثل اخرين مكرها خيار الاغتراب لكي يستطيع القيام باعباء اسرته المكونة من ولدين هما عصام وخالد وبنتان هما أمال وناهد، توجه المناضل القديم الي السعودية تاركا الاسرة في بيت ايجار في الدرجة مدني والجميع لايزالوا في مقاعد الدراسة، عدا امال التي ولجت كلية الطب  في1976 تقريبا،في هذا الوقت بدأت علاقتي بالاسرة تتوطد بروابط عديدة مشتركة منها زمالة مدرسة جمعت اختي بناهد وزمالة اخري جمعت خالد جبرالله باحمد اخي الاكبر في المدرسة ثم اضطر الاثنان لقطع الدراسة مؤقتا للعمل في شركة مواصلات الجزيرة وجمعتني بعصام صداقة مبكرة بدأت وتوطدت بسبب اهتمامات مشتركة رياضية وادبية وباتت صحوبية جميلة أثرت علي مجمل حياتي، عرفت خالد جبرالله الأنيق الباسم في تلك الدار الصغيرة في حي الدرجة بمدني وكان أكثر مايلفت اليه تلك الشبكة الواسعة من الصداقات التي يملكها، كان مدهشا فشبكته الاجتماعية في ذلك الزمان البكر كانت أوسع من الفيس بوك وتضم كل طوائف البشر من سيد الدكان الي ود الجيران الي صاحب المكتبة الي الكورنجية الي رواد السينما وعشاقها الي محيط الاسرة واصدقاء اخيه واخواته وابناء عمه
وعندما التحق بالعمل بشركة مواصلات الجزيرة توسعت الشبكة فطبيعة العمل وهي الضيافة البرية في بصات الشركة الأنيقة جعلت منه وهو النجم من نجوم مجتمع مدني نجما اوسع صلاتا وعلاقات ، شاب أنيق مهذب ودود لطيف باسم يلبس نظارة طبية ولايكف عن الابتسام وتقديم الخدمات للجميع في كل ظرف ومكان،وعندما يكون هناك بارتي او لمة اجتماعية من اي نوع حزينةأو سعيدة يكون هو النجم الذي يتسابق الجميع الي القرب منه فحيث كان خالد جبرالله كانت الشمس نهارا وكان القمر ليلا والنجوم، كان محبوبا بشكل مذهل تعرفه وتحسه في كل مكان وصدفة تجمعك به، كان الأثير عند كبار السن في كل البيوت فهو البسيط المتواضع الودود حسن الاصغاء القادر علي المواساة والقادر علي التفهم وموضع الثقة، انقضت سنين خدمته في مواصلات الجزيرة سريعا وتوجه خالد  الي اوربا الشرقية للدراسة حيث عاش حياة مشرقة جميلة وعاد منها نفس الشخص كأنه لم يغادر السودان يوما، عاد حاملا شهادة رفيعة في الهندسة وعمل بشركة اجنبية بمدني وعرفته المدينة بعربة ذات ملامح باسمة تجول المدينة من اقصاها الي اقصاها حاملة المحبةولاشئ غيرها، كانت ام الحسن قد اوشكت ان تكون وحيدة او باتت كذلك حين عاد اليها خالد، فعصام بات بالخرطوم بعد التخرج ثم غادر الوطن وناهد كانت قد استقرت بالخرطوم منذ سنين وكذلك امال التي غادرت السودان في مطلع التسعينات وبقيت ام الحسن وحيدة فجاء خالد بردا وسلاما عليها، بات البيت قبلة للجيران الذين اجتمعوا علي حبه كما لم يجتمعوا من قبل، جال خالد في المدينة مواصلا كل الاصدقاءوالاهل، زارعا الابتسامةوالمودة
حتي غادر الوطن  الي الخليج حيث داهمه المرض اللعين وأخذ يزوي كشمعة في صمت حتي تسرب شعاعه ورحل مثل الشمس علي عجل،كانت رحلة قاسية مع المرض ، لم يتسن لنا ان نكون الي جانبه فيها، لكنني كنت واثقا انه غادرالدنيا وهو يبتسم هازئا بالموت كعادتهه، خالد جبرالله
تشهد مدينتك الجميلة مدني
انك زرعت حبا وجمالا حيث حللت
ولم تزرع كراهية ولم تعتد علي أحد
نم هانئاً
نم مبتسما فكل من يتذكرك يبتسم.
صلاح  سر الختم علي
اليوم ‏18 فبراير، 2012‏، الساعة ‏12:14 صباحاً

مباشرة بعد مشاهدة صورة خالد جبرالله في صفحتي الشخصية بعد ان انزلها عصام جبرالله






صورة رقم (6)
الراحل ابو الحسن مدنى


ابو الحسن مدني وداعا أيها الرسام الجميل
(سقوط نخلة في النهر وجبل في البحر)


25 فبراير، 2012‏، الساعة ‏06:25 مساءً‏
اليوم الخامس والعشرين من فبراير العام 2012 يوم أسود في تاريخ الوطن السوداني، اليوم ترجل فارس نبيل آخر من صهوة جواد الحياة بعد أعوام من المعارك من أجل الانسان السوداني، رحل رجل عظيم، رحل شعاع ضوء عند الأصيل، رحل رجل صنعته تجميل المدن ونثر الجمال حيثما حل، رحل طفل كبير جميل أسمه ابو الحسن مدني، فنان رسم بدمه وبريشته وبفكره الوقاد السودان كما لم يرسمه أحد، رجل يرسم في الهواء الطلق، يرسم في واجهات المطاعم والمقاهي والشوارع والمدارس والمسارح ودورانات الحركة، حيث تلفت في بورتسودان تجد له أثر ولوحة ناطقة بملامح الانسان السوداني مغموسة في قهوة الشرق المرة الجميلة، ابو الحسن مدني كل الجمال والجمال هو، لم يتخرج من كلية فنون ، لكنه برع في الرسم بشكل لايجاري ولايضاهي، لو وجدت لوحته في الصين تعرف انها رسم ابو الحسن مدني فبصمته واضحة وقدرته علي رسم الاشخاص والمشاهد تفوق براعة عدسة المصور، هو رجل التفاصيل الجميلة،  
هو ذاكرة السودان البصرية الرهيبة، والله لو كان نزار امير الشعر العربي الحديث فابو الحسن مدني أمير امراء الرسم العربي الحديث  و عرفت رسوماته قبل ان اعرفه، أسرتني لوحاته وتلك الطبيعة الخلابة فيها وذلك الشجن وتلك السحنة السودانية في الوجوه الناطقة وتلك التفاصيل السودانية مابين الضفائر وووجوه الأطفال الشقية ولمة الاهل في حنة العرس والمشاط وعواسة الكسرة ومشهد بيع البطيخ عند اوشيري قرب العقبة في بورسودان مرورا بالخيل والابل والبحر وسواكن المعطونة في التاريخ وتلك الوجوه لنساء البجة المتخيلات خيالا فريدا، لوحات ابو الحسن مدني لوحات فريدة نادرة في كل شئ، لست رساما ولاناقدا متخصصا لكنني اعرف ان هذه لوحات ساحرة خالدة لها قيمة فنية عالية جدا وكنت اقول في حياته لو كان السودان يعرف قيمة مايملك لصار ابو الحسن مدني ومتحفه في بورتسودان التي احبها ولون شوارعها بريشته متحفا عالميا لايقل عن متحف اللوفر واي متحف عالمي، ابو الحسن مدني ذاكرة أمة ترفض ان تمسح او تهمش، ابو الحسن مدني ضمير شعب لاتدفنه اكوام الرمال والمجاعات ، ابو الحسن مدني صرخة الطبيعة البكر في وجه الزيف، ابو الحسن مدني ذلك الانسان البسيط العظيم الذي قضي عمره راجلا عاملا بيده وعرقه حتي آخر لحظة في حياته ظل يجمل الامكنة برسوماته ويمضي بلا أجر ولاضجيج ولاوزراة ولاوسام ولابحث عن شهرة او مقابل، ضاحكا كطفل ، صافيا كنهر، رائعا كلوحاته، يستقبلك بالبشر كله، يقبل كل تكليف كطفل صغير وينتظر رأيك في عمله كتلميذ وهو المعلم، هو بوابة من بوابات السودان ، ركن من اركانه، نخلة من نخلاته هوت في النيل، جبل من جبال بحره الاحمر ذاب في البحر حاملا خصب النيل  الي بلاد ليس فيها نيل وطمي، هو رجل جعل من الحربة بالونا ومن الدرقة دفا ومن عثمان دقنة وجها ناطقا بثورته وعذاباته ، هو رجل أخرج المرأة البجاوية من خدرها وجعلها ترتاد العالم وتصنع الدهشة اينما وقعت عليها عين، هل مثلي بقادر ان يكتب عنك يا استاذي، هل مثلي بقادر علي ان يبلغ قمة جبلك التي بلغتها واسترحت فوقهاكما يستريح طفل علي صدر أمه،ابو الحسن مدني هو من صمم ورسم لوحة غلاف روايتي الرمال يافاطمة، تلك اللوحة التي اتخذتها خلفية لصفحتي الخاصة، وكنت أزمع الاستعانة به لتصميم لوحة روايتي الجديدة نيران كامنة، لكن الموت كان أسرع ونعاه الناعي اليوم، كنت في مروي في احضان التاريخ حين رن الهاتف وجاءني صوت الاخ طارق بركة دامعا وحزينا يعزيني في فقدي فهل تري كان ذلك صدفة ان تتلقي خبر وفاة رجل صنع تاريخا لشعب في حضن حضارة تليدة هي حضارة نبتة؟، رحل ابو الحسن مدني أحد اهم رسامي السودان ان لم يكن أبرزهم، رحل رائد الواقعية في التشكيل السوداني مخلفا فراغا يحدثه رحيل شمس وقمر عن كون، رحل المبدع الكبير ابو الحسن مدني اليوم في عروس البحر حيث عاش حياته الحافلة بالبذل والعطاء والابداع، جمعنا منتدي اصداف للاداب والفنون معه ومع جمع من اخوته التشكيلين ببورتسودان ولفيف من مثقفي البحر الاحمر، سعدنا بصحبته وطالعنا اعماله وشهدنا ولادة بعضها،قمت بنشر كثير من اعماله والتعريف بها في الشبكة العنكبوتية لايماني بانه رجل لم يلق ما يستحقه من اهتمام ورواج وظللت أسميه بيكاسو السودان ولكنني اليوم اقول رحل ابو الحسن مدني اعظم رسامي السودان الذي يتشرف بيكاسو بمقارنته به ومقارنة اعماله به رحل ناثر العطر والمسك والجمال نم هانئا ايها الفنان نم هانئا ايها الرسام نم هانئا ايها المقاتل بالريشةوالألوان نم هانئا ايها الجميل اللهم ارحم ابو الحسن مدني واحسن اليه بقدر ما اعطي لشعبه    

 صلاح الدين سر الختم علي
روائي وقاص

ورئيس ومؤسس منتدي أصداف للاداب والفنون ببورتسودان


25/ فبراير/ 2012

صورة رقم (7)


أنين السواقي وأضو اء الروح
(سعاد نور الهدي كنة قصة البنت النبيلة) في الزمن القبيح


مازلت اعتقل اللحظة عند ذاك الزمان واحن الي تلك الوجوه النبيلة وتلك الايام..حكايات كثيرة عن شباب بسيط جميل حالم بوطن فسيح جمعته محبة كبيرة وبحث جميل عن ما هو جميل في الاخر...كانت الثانيةوسط احلامهم واحزانهم تساوي عمرا...فكيف تبهت تلك التفاصيل وتلك الاضواء الجميلة الصادرة من قلوب رجال ونساء صغار كبار عامرين بكل ماهو فريد...هل تعرفون سعاد نور الهدي مثلا؟ هي غزالة سودانية عاشت بصمت وكافحت ببسالة وماتت في ريعان الصبا بشرف يساوي الاستشهاد كانت رفيقتنا في جامعة القاهرة وتخرجت من كلية الحقوق وناضلت حد انها باعت الخضار لتعيش بشرف... هي أمراة اخري من نور ومصابيح وهي زوجة الصديق الحاج وراق ورفيقة حياة صعبةوصاحبة تضحيات جسام.....
سعاد عليها رحمة الله تستحق ان تدرس سيرتها للتلامذة...ذلك الصمود..تلك البساطة...ذلك الوجه الملائكي الذي تعلوه نظارة طبية...تلك الابتسامة الصافية ...اتذكرها كانها امامي...اتذكر فرحة طفلها الصغير بالبيض وهو يركض في سعادة معلنا للجميع: عملوا
لينا بيض!!! فرحة ابن مناضل ومناضلة عاش ودفع ثمن خيارات ابويه...
كان الحاج وراق مختفيا يمارس حياة قاسية وكانت سعاد  
الام والاب في البيت الذي فتح مع معاناة الاختفاء وتنقل ربه
معرفتنا بسعاد انا واجلال زوجتي لم تكن مجرد معرفة كانت
جامعة القاهرة شاهدا علي علاقتنا انا واجلال وشاهدا علي علاقة سعاد والحاج
عشنا تفاصيل انسانية كثيرة في الجامعة
عشنا ضجيج الجامعةوزخمها واحداثها المتلاحقة
وتوتراتها
ولحظات الاسترخاء والانشطة الثقافية والكورالات
وكانت سعاد واجلال واخريات كثر شريكات في كورال جامعي تغني باناشيد  وطنيةواغنيات  حالمات
بما في ذلك نشيد الجهادية الحلبونا شدو جمالهم وجونا جهدية الاورطية
جهديةوسيف وراية
الي اخر النشيد
اتذكرهن بثياب بيضاء وهن يغنين بحماس من ملك الدنيا وحقق الاحلام واتذكر كيف كنا نتفاعل مع كورال رابطة ارهاص للاداب والفنون التي اضاءت سماء الجامعة
   كانت سعاد في وسطهن متألقة أنيقة بطولها الفارع وعيون واسعة  ووجه لاينسي فهو بوابة مسكونة بالحنين وانين السواقي مجمل بأضواء الروح التي تعطيه هالة نورانية
كانت سعاد قصيدة جميلة من
أروع قصائد  والدها الشاعر الشايقي نور الهدي كنة
اكثر مايميزها البساطة والمرح
وتلك السمات السودانية فيها
البساطة
الثقة في الاخرين
حسن الظن
الدائم
حتي عندما اضطربت الاجواء في الجامعة بين الفرق السياسية المختلفة وأطل العنف برأسه كانت سعاد لاتأخذ الامر علي محمل جد بل تنظر اليه كمزحة مضحكةوتتعامل مع الاخرين بمثاليةوحسن ظن ولطف لاحدود لهما
فقد كانت بطبيعة خاصة فيها قادرة علي تجاوز الخارج الفظ وملامسة الانساني المشترك في الناس
سرعان ما أنقضت سنوات الجامعة
خرجنا للحياة
وكنا حضورا في زفاف بهيج زفت فيه سعاد الي الحاج وراق بدار المعلم جوار الجامعة حيث نبت الحب في قلبيهما وكنا شهودا عليه
واتذكر الان ورقة صغيرة ارسلها معها الحاج الينا
ليلة زفافنا انا واجلال
اعتذر عن الحضور
فلم يكن متاحا له ذلك
لكنه لم ينس ان يرسل وصفة سحرية قائلا ان الزواج قوته في القدرة علي الاحتمال والتفهم
سخرية الاقدار كانت ان لقاء الحاج بزوجته بات جريمة تستوجب استدعائها وخضوعها  لاسئلة كثيرة عن مكانه
عاشت حياة قاسية
تعرضت الي الابتزاز
ولكن لم تلن لها قناة
وظل تمارس حياتها سرا
وتلهث خلف ما يسد الرمق جهرا ببسالة مصارع ثيران اعزل في قفص ممتلئ بالثيران الهائجةوالثعابين
لم تلن لها قناة.
وتحملت اقدارها بجلد
شحب وجهها
واختفي قسم كبير من الاناقة خلف رائحة الشقا
لكن نورها الذي بداخلها لم يموت
حتي لاقت ربها
كانت صاحبة اكبر ابتسامة رضا
ولم تشك حالها ابدا
كانت تحكي وتضحك كأنها تشاهد فيلما كوميديا

كانت أمرأة تجسد عظمة أمة وشعب
كانت أمرأة
من نور
وصمود
وزهور
وأروع قصيدة كتبها ابوها
سلام عليك سعاد نور الهدي
سلام عليك وحب اليك وشوق اليك
وقبعات ترتفع احتراما لك
ولترقد روحك بسلام
لترقد روحك بسلام
   أيتها النبيلة الجميلة
صلاح الدين سر الختم علي

‏22 سبتمبر، 2011‏، الساعة ‏12:32 صباحاً‏




Monday, October 21, 2013

أمى شمعة في الظلام أنت (سيرة) صلاح الدين سر الختم على

أحن اليك يا أمى حنينا ماج في صدري، كم احتاج حكمتك وقدرتك الفريدة علي تجاوز الصغائر والنفاذ الي جوهر الاشياء، كم أحن الي صوت المطر وهو يهطل بغزارة ونحن محبوسون في تلك البرندة الصغيرة في بيتنا بحي مايو وانت تهمهمين حامدة الله وشاكرة سرا وجهرا، كنا بجوارك كعصافير صغيرة تلوذ بأمها وتختبئ في جناحيها من المطر وكل انواع الخطر، تزداد الأمطار ضراوة فيتملكنا الخوف أكثر ونقترب منك فترتسم الابتسامة علي وجهك الوضئ المضئ ، تنقطع الكهرباء، يظلم المكان فيضئيه وجهك ويتملكنا خوف من الظلام يبدده صوتك الدافئ، نضحك مع كلماتك ويعود الدفء، ينقلب المشهد الي ضده تماما، نتباري في الضحك وسرد الحكايات وخطف كرة الحديث من الاخرين، ننسي الظلام والمطر والخوف ويحلو السمر بلاقمر في السماء ولكن قمر الأرض أجمل ولسانه ينثر شهداً وعطراً، كانت تعرف كيف توزع علينا الإهتمام بالتساوى والقسط ابتداء من توزيع الألقاب فأنا ( ابو الصلح الكلامو سمح) وعبد العظيم ( عظوم الخاتى اللوم) واقبال (قبولة السمح قولا) وامال هى (أمولة) وعماد هو( العمدة) وسهام هى( سهومة) ، ثم توزع علينا انصاتها وردودها الحاضرة علي ضجيجنا الكثير وأسئلتنا التى لاتنتهى حتى يصمت نقيق الضفادع ويخفت صوت المطر تدريجيا ويستغيث الظلام منا بادارة الكهرباء فيبق النور علي حين غرة فنهب صارخين بصوت واحد
الكهرباء جات 
الكهرباء جات
ونركض صوب الحوش الوسيع لنتفقده  ونهرول الي الغرفة الأماميةلنرى ماذا فعل بها المطر ، وربما تسللنا الي الشارع لنتفقده ونتفقد الجيران ثم نعود علي عجل لنقف بجوارك وانت تعدين الشاي باللقيمات علي عجل ليسكت جوعنا وشعورنا بالبرد، تلك الابتسامة الفرحة علي جبهتك وفمك من أين تجئ دائما هكذا بذات الاتساع والفرح ؟!
نحتسي الشاي ونحن متحلقون حولك مثلما يتحلق المريدون حول شيخهم 
وأنت توزعين الابتسامات علينا بالقسط، واللقيمات الصغيرة تهاجرمن الصحن الي الأفواه الصغيرة والأيدى تلمع بزيت تساقط عليها من اللقيمات
والابتسامة علي وجهك لاتموت، اختلس اليك النظر خلسة واتساءل متى تأكل أمى شيئا؟! هل تفعل كل الأمهات هذا؟ هل يظلن العمر كله يطعمن ولايأكلن ، يغسلن الأجساد الصغيرة ويكنسن الحيشان الوسيعة بمكانس السعف القاسية علي الأيدي في الهجير بلا كلل ولاملل ، ويمسحن دموع من يبكى ويغثن المستنجد بهن مهما كان سبب الاستغاثة تافها أو جللاً، يغسلن الأوانى والملابس في كل صباح وظهيرة، يواجهن نيران العواسة علي الصاج ويخرجن طرقات الكسرة الجميلة وهن يبتسمن وعرقهن الطاهر يقبل الأرض بلا إنقطاع؟! وحين يجأرن بشكوي أو يبكين لايجدن مثلنا من يمسح دمعهن ويغثهن، كنت اتساءل دوما متى تأكلين أماه؟! وكيف تكون الحياة لو كنت لست بها؟
الآن أواجه الاجابة علي سؤالى، وحيدا، وانت حمامة بيضاء حلقت نحو السماء، المطر والرعد والظلام والصمت يحاصرنى
أبحث عنك
فيجيبنى العدم

Sunday, October 20, 2013

صدمات موجعة في الحياة ( من السيرة) صلاح الدين سر الختم على

 من الاشياء القاسية في الحياة  ان تضطر اضطرارا للتخلى عن تصوراتك الجميلة الحمقاء عن الآخرين
وجه الجمال اننا كلما احببنا شخصا أو شيئا جملناه بمحبتنا حتى رفعناه الي مراتب سامية وعالية لم يبلغها هو في الحقيقة أبدا لكن محبتنا له ورغبتنا في رؤيته في أسمى وأعلى موقع هى التى تصنع ذلك
ووجه السذاجة هو اننا ندرك متأخرا جدا ان ليس كل مايلمع ذهباً
وليس كل من نحبه في مستوى ظننا فيه بالضرورة
لكننا للأسف ندرك ذلك دائما متأخرا جدا ، بعد ان نكون قد مشينا بقلبنا فوق الشوك والجمر  وأدميناه وأوجعناه
حدث ذلك معى كثيرا جدا
لا أدعى اننى ملاك صغير أو اننى بلا عيوب ولكن أستطيع القول بلا تردد انه ليس من عيوبى أو محاسنى سوء الظن بالاخرين
واستطيع القول أننى اندفع بكل مشاعرى تجاه من احببت وصادقت ومن حسبته ذهبا
لكن أقسي تجاربى هذه كانت انقلابا كاملا في حياتى
فقد أفقت يوما والعالم الجميل الذي بنيته في خيالى وعشته وهما جميلا لايأتيه الباطل من بين يديه أو من فوقه أو من تحته
أفقت فوجدته سرابا كاذبا
وخيالا بعيدا
كان صرحا من خيال فهوى
وكان بيتا من رمال ابتلعته موجة واحدة من موجات البحر
وكان حلوى ذائبة مثل تلك التى نسميها ( حلاوة قطن) ذابت في فم صغير ولم يبق إلا 
طعمها وصورتها في الذاكرة
لا استطيع الكتابة الا رمزا للأسف
فما أقسي الحقيقة حين تجرح وتدمى وتفضح من نحبهم ومن أنفقنا العمر في تجميل صورتهم وعبادة أصنامهم وصنعها والترويج لها
ما أصعب أن يكون المرء مثل تلك المرأة الخرقاء بمكة التى كلما أحسنت غزلها نقضته من بعد احكام وقوة (التى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا}
لم يكن غزلى عهدا 
ولكنه كان ظنا حسنا
وأمنيات ذرتها الرياح وبعثرتها كيفما أتفق
               كنت أصنع وهمى وأصدق ماصنعت وأعيش فيه
                فيأتى طفل صغير وبشكة دبوس صغيرة
           ينفجر منطاد الوهم وتسفر الحقيقة عن وجه قبيح عار
                     لامساحيق تجمله
           ولا مصابيح العالم كله بقادرة علي محو ظلمته
            ياصديقي فلتكن الحقيقة عارية
ولتكن الحقيقة جثة باردة
ولتكن الحقيقة لطمة علي الوجه
وبصقة علي الوجه
ولكنها لن تكون أبدا
في قبح الزيف
ولا فى وضاعة كاذب صغير أو كبير
ولا فى دناءةمن يبيعون الوهم والأكاذيب
ويسحقون القلوب بلا أدنى شعور بالذنب
ينامون علي عروش منهوبة
ويشربون بجماجم مثقوبة برصاص قناصتهم
ويأكلون لحم من صافحوه في الظهيرة مساء
ويفعلون كل قبيح سرأ
ويتجملون بكل جميل علناً
ليس بحثا عن الجمال
ولكن بحث الذئاب عن التستر خلف وجوه الحملان
قبل الهجوم علي القطعان
ومثل إختباء الثعلب وسط الدجاج قبل الإنقضاض عليه
هم ليسوا هم أبدا
بسماتهم مزيفة
كلماتهم منمقة مجوفة
عطورهم دماء
صلاتهم رياء
وصالهم خداع
خصامهم فجور
بيوتهم قبور
زهورهم مسروقة
صدقهم محال
وكذبهم كثير
وكرمهم ستار

نماذج  موجعة
 بيت الأخطبوط وبنات أفكاره
كانت بنت الجيران أو من في حكمهم تقريبا إن شئنا الدقة، تنحدر من أسرة فقيرة وليس لها حظ من مال أو علم
كان اعتماد الأسرة منذ أن فتحت عينها علي الغير

فالأب رحل باكرا وترك تركة ثقيلة وبيت صغير مكتظ في مدينة صغيرة
تولى الأقارب تحمل التركة
ونشأت صاحبتنا هناك في ذلك البيت الصغير المفتوح بالهبات
وعينها علي أمان مفقود وخزانة تنفتح فتخرجها من بيت العنكبوت أو فلنقل الأخطبوط إكراما للعنكبوت وتنزيها له عن التشبه بهن وقد سجل التاريخ له موقفه مع سيد البشرية ونبيها الكريم في الغار
فهن الي الأخطبوط أقرب منهن الي العنكبوت
كانت تلك بعض أحلامهن التى تقاسمنها في ليالي الشتاء الطويلة
التى مرت عليهن في بيت الأخطبوط
فالكبري استخدمت مهارات الأخطبوط و ظفرت برجل مال له حظ من المال ولاحظ من العلم له
ولكن أسمه الكبير الذي يرن كطبل بات نافذة انفتحت أمامهن ليصطدن بالأسم الكبير أسماكا أكبر كما فعلن حين اصطدن الأول بصيت يملكه أحد الأقارب
كن يملكن قدرة غريبة على أن يبدون كأميرات وهن بنات الحطاب
وكن يملكن قدرة غريبة علي الإحاطة بالصيد البرئ إحاطة السوار بالمعصم
وعزله عن محيطه الأسري والاجتماعى كما يفعل الأخطبوط بعد اختراق ذلك المحيط والتودد لمن فيه في المرحلة  الأولى وكسب ودهم وسحر البابهم الي حين
ومن ثم تبدا رحلة عزل الضحية عن محيطه
فلايعود الصيد يعرف أهلا سواهن ولا أصدقاء سواهن
ولايعطى أذنه وخزانته لغيرهن
وكلما كان مطيعا
كان حصاره يتم احكامه أكثر
وكان القضاء علي شبكة الأهل من طرفه واصدقائه غير المرغوب فيهم يزداد شراسة وضرواة
هكذا اختارت هى ضحيتها
وهكذا اشتغلن سويا عليه
حتى بات عجينة طيعة
وسجين مؤبد لافكاك منه لديهن
نما 
وزادت عزلته
وسكناه في بيت الأخطبوط
فبات كالمنبت لا أرضا قطع
ولاظهرا أبقي
(المنبت: هو الذي يواصل السير مواصلة مستمرة، ثم يكون من آثار مواصلته أنه يسير مثلا خمسة أيام ما أراح نفسه ولا أراح جمله. ففي هذه الخمسة قد يسير ويقطع، يقطع مسيرة خمسة عشر يومًا في خمسة أيام، ثم يبرك به جمله ويهزل وينقطع به، فينقطع في برية يعني صحراء، فلا هو الذي رفق ببعيره حتى يوصله ولو بعد عشرين يومًا، ولا هو الذي قطع الأرض كلها، بل برك به بعيره في برية؛ وذلك لأنه كلف نفسه، وكلف بعيره فسار عليه حتى أهزله.
هذا يسمى المنبت؛ لا أرضا قطع لا قطع الأرض كلها التي هي مسيرة شهر، ولا أبقى ظهره؛ يعني: رفق بظهره أي: ببعيره الذي يركب على ظهره. تسمى الرواحل ظهرا. أما إذا سار برفق؛ فإنه يصل ولو بعد مدة طويلة.)
وان كان المنبت يصل في خاتمة المطاف، فان صاحبنا لايصل أبدا الي مكان
يظل ضرعا يدر اللبن علي بنات بيت الأخطبوط حتى يصيبه الهزال والضعف فيرمينه رمية الكلاب.



Thursday, October 3, 2013

بورتسودان الدموع والغمام (3) رجل نادر المثال

 في ذلك اليوم نهضت باكرا  فقد كنت انتظر شمس الصباح في شوق كي اذهب لمقابلة رئيسي الجديد واستلام عملى في بورتسودان محطة عملي الجديدة، كنت اعرف بحكم التجربة والتنقل الكثير سيناريو المقابلة ، لم تعد هناك رهبة كتلك الرهبة الأولي ، ولم يعد هناك تهيب للمقابلة، وكنت اعرف بالخبرة ماذا سافعل وماذا ساقول وما الذي ينبغي الا أقول، لذلك لم يكن الترقب بسبب شئ مما تقدم، بل كنت اريد تجاوز تلك اللحظات واستلام عملي والاندماج فيه حتى يزول ذلك الاحساس الملازم باننى قد انتزعت من حياة احببتها الي مكان ليس في حاجة الي ولست في حاجة لاضافته الي حصيلتي من المدن والأمكنة، كنت اعرف ان كل سأم وضجر وقلق يذيبه شئ واحد فقط هو الاندماج في العمل، لذلك كنت متلهفا الي تجاوز ايام السكون وحمى الفواصل،دلفت الي ذلك المبنى العتيق غريب الهيئة في الصباح ، وقفت كثيرا امام المبني الذي يبدو مرقعا كجبة الدرويش ففيه جزء عتيق يشكل أصل المبنى ، وهناك جزء يشبه مبانى السجون بجداره العالي الخالي من النوافذ ويبدو مضافا للمبنى لكنه قبيح المعمار ويبدو مشيدا كيفما اتفق ، اكثر شئ مثير للدهشة في مبنى رئاسة الجهاز القضائي لولاية البحر الاحمر القديم هو كون سلم المبني يواجه القادمين مباشرة معطيا إياهم ظهره بدلا من ان يكون منبسطا أمامهم، فيبدو اقرب الي مدخل سرداب منه الي سلم لمبني من طابقين (ارضي وأول فقط)، ارتقيت درجات السلم فاصابني وضعه المقلوب بالدوار والغثيان ، ثم انحرفت ناحية اليمين حيث مكتب رئيس الجهاز القضائي مولانا جعفر اركا أبوطاهر والذى تعرفت به في وقت سابق ابان فعاليات اليوبيل الذهبي للقضاء السودانى في العام 2005 بالخرطوم حيث كنت اعمل بالمكتب الفني للمحكمة العليا وكنت عضوا بلجنة اليوبيل ومسؤولا عن معارض الاجهزة القضائية المقامة بدار القضاء بالخرطوم علي شرف المناسبة، خلال تلك الايام الجميلة عرفت الرجل عن قرب فلمست فيه انسانا بسيطا متواضعا ودودا ومرحا وكريما  ولم يكن يخطر علي بالي ابدا ادنى احتمال للانتقال الي بورتسودان والعمل مع الرجل سنوات كما حدث بعد عدة أشهر من تلك الايام ، وكان للرجل فضل لن انساه ، فقد سبقنى مؤلفي الوجيز في دعاوي قسمة الإفراز والإجبار علي البيع الي بورتسودان بمبادرة كريمة منه حين اشتري كمية منه ووزعها علي القضاة هنالك ، فكان الكتاب سابقا لصاحبه في ولوج عروس البحر الأحمر والإقامة في قلوب وعقول زملاء المهنة هنالك،دلفت الي مكتب السكرتارية وكان مكتبا متواضعا ككل المكان وتهيأت نفسيا لدخول مكتب أكثر تواضعا، وبالفعل لم ابق في الانتظار ودخلت الي مكتب واسع نوعا ما ، أثاثه من الخشب الموسكى وثمة زهور صناعية في المنتصف تقول ملامحها من بعيد انها صناعية لاروح فيها ولارائحة وتبدو في المكان الخطأ ولاتتناسب مع الجو العام للمكتب الذي يشي بالوقار والقدم، كان مولانا جعفر بجلابية بيضاء ناصعة ونظارة سوداء علي العيون ووجه باسم قد نهض من كرسيه ولم ينتظر بمكانه كما يفعل الروساء بل تقدم نحوي ببشر وترحاب وقابلني في منتصف الطريق بابتسامة واسعة تميز الرجل ولاتغيب عن صفحة وجهه الا نادرا، صافحني بحرارة كما يصافح المرء صديقا قديماً ، وقال مباشرة بعد السلام معاتبا( مابينا مالك يازول ؟ معقولة تخلي الشغل عشان جايبنك لينا؟) لم يكن لدى ما اقوله ، فاطرقت وتجاوز هو الأمر سريعا وشرع في الترحاب من جديد مؤكدا لى باننى سيطيب لى المقام هنا كثيرا وانهم قادرون علي مسح الصورة التي في خيالي عن بورتسودان، كان يتحدث بلطف وعلي وجهه ابتسامة تتسع كلما تحدث لكنه كان صادقا في عتابه بشأن عدم ترحيبي بنقلي الي بورتسودان، ذاب الجليد شعرت في التو والحين أننى نزلت بلدا طيبا وسط أناس طيبون، كانت مقابلة ذكرتنى طعم البطيخ في الصيف في مدنى ايام الطفولة، كانت اجمل هدية يمكن ان ينالها طفل في مدنى في هجير الصيف شقة بطيخة حمراء حلوة  تنزل في جوفه بردا وسلاما، واتذكر جيدا اننا كنا نفترش الارض في موقف اللواري في مدنى في الهجير ونتقاسم البطيخة التي نشتريها بنقود قليلة وكل بما ناله منها فرح وسعيد، كنا وقتها نعمل في الاجازة كى نوفر مصاريف الدراسة واحتياجاتنا من كراسات وشنط وغيرها، وكان عملنا غالبا في الهجير وكان البطيخ استراحة محارب نحظى بها، كانت مقابلتي للرجل تماثل ذلك الشعور الجميل  الذي يخلفه البطيخ في الصيف، المهم اننى دخلت ذلك المكتب وخرجت منه شخصا آخرا مقبلا بحماس علي واقع جديد بدت بشائره مبشرة بالخير فقد علمتنى التجارب ان بيئة العمل الصالحة ترتبط دوما برب العمل الصالح الذى يؤثر ايجابا في كل من حوله  والعكس صحيح بالطبع ،كان الرجل بحق هبة من السماء بقلبه الكبير الذي اتسع لجميع زملائه وبساطته وتواضعه وأدبه الجم وروحه المرحة وانسانيته المتدفقة التي جعلت كل من حوله يحاول أن يحذو حذوه في احترام الاخرين والمساواة بينهم في المودة والاهتمام والتواصل والزيارات في البيوت والمكاتب  والتفهم الكبير لظروفهم والتفاعل معها دون ان يدفعهم للسؤال أو الطلب، طيلة فترة عملنا مع الرجل لم نسمع من تذمر من تمييزه لفلان أو علان ولم نسمع صوته يعلو في وجه مرؤس أو زميل ولم يعد من طرق بابه خائبا ولم تسمع شماله بما فعلت يمينه، وهناك الكثير مما يعرف ولايقال من كريم خصاله وسجاياه ، وحسبه انه لم يفتح بابا لوشاية أو نميمة ولم يعامل مرؤوس بالانطباعات او الاراء المسبقة وكان دوما خط الدفاع الاول عن مصالح المسؤول عنهم ولم نعرف عنه تدخلا في عمل او تأثيرا بأي شكل علي مجري العدالة أو حطا من قدر أي قاض أو عامل،لذلك نال الرجل محبة الجميع وثقتهم وتفانيهم في العمل إكراما لمن أكرمهم وسهر علي حقوقهم وعلي توفير بئية صالحة لعملهم، كان العمل يسير بتناغم بديع  كفرقة موسيقية متمكنة من عملها وكان الجميع إخوة وأحبة يتنافسون في تجويد العمل فقط ، وفي عهد الرجل شهدت بورتسودان تغييرا كبيرا في حقل العدالة تمثل في هدم ذلك المبنى القديم الكئيب ونشوء قصر جميل للعدالة في مكانه، قصر فخم يليق بالقضاء ومكانته وبورتسودان وجمالها، كان الرجل شريكا فاعلا مع قادة السلطة القضائية في قيام ذلك الصرح ونال شهادة لاتنسي من رئيس القضاء السابق حين تحدث في حفل الافتتاح عن جهوده،  و أتذكر الان تلك الدموع الصادقة التى زرفناها سرا وعلانية حين حان وقت فراق ذلك الرجل نادر المثال حين واتته فرصة انتداب خارج البلاد وكان علينا ان ننتظر قادما آخرا من المجهول لاندري كيف يكون وماذا سيفعل بجمهورية أركا المثالية، هل يعمل فيها هدما وتفكيكا ؟ هل يحيل بساتينها الخضراء وأجوائها الصحية إلي خراب وسموم  أم يكون كما نرغب ونشتهي امتدادا لذلك الثوب الأبيض الناصع؟طارت طائرة وحطت بجعفر اركا ابوطاهر في الخليج وبتنا يتامى علي رصيف الايام ، ثم مالبثنا ان تفرقنا أيدي سبأ من بعده ،طالنا سيف النقل ولم يبق الا نذر يسير، وبقيت ذكريات تلك الايام وخلاصتها محبة دائمة تربط بيننا مهما تفرقنا وتواصل دائم وحنين دائم اليها، اما بورتسودان، فاظنها لاتزال تبحث عن فارسها الهمام ابن سنكات الشفيف الانسان جعفر اركا ابو طاهر وتلعن الخليج والمحار والدولار والزمن. اطال الله عمر الرجل الذي سكن قلوبنا جميعا بلا استئذان والي الابد. 

Saturday, September 28, 2013

فهمى صالح الرجل الصالح نجمة في سماء بعيدة ( ملامح من السيرة)

فهمى صالح الرجل الصالح نجمة في سماء بعيدة

فتحنا عيوننا في حى 114 الحبيب وتعلمنا في ازقته الصغيرة وبيوته المعروشة بالمحبة اشياء كثيرة نبيلة وغالية ، كنا فقراء ابناء فقراء، بسطاء ابناء بسطاء، اغلب امهاتنا أميات وكذلك الاباء المتعلم فيهم يفك الخط بالكاد، لكن بمقدور المرء ان يجزم باننا حظينا باجمل واروع وافضل بيئة اجتماعية يمكن أن يحظى بها اطفال وشباب، كانت بيئة طاهرة ونظيفة ومملؤة بالحب والمحبة، كان الكبار كلهم اخوانا واباءا والأمهات كلهن أمهات للكل والأخوات محل تقدير واحترام ،تربينا علي الثقة المتبادلة وعلي الأخوة الصادقة والرجولة والشهامة والكرم والإيثار والتعاون،كانت بيوت الرذيلة علي مرمى حجر منا وكان اولاد الفريق متعففين وعلي خلق ودين، وكانت بيوت الخمور علي قارعة الطريق وكان الحى معافى، كان فهمى نجمة بعيدة متميزة، شاب بدين نوعا ما ولكنه ضاحك بشوش نشط خفيف الحركة لايغيب عن أي نشاط او مبادرة أو مباراة أو تمرين لفريق الأهلي مدنى عشقه الكبير وعن تمارين فرق الحي 114، كان منزلهم يتبع جغرافيا لحى الحلة الجديدة ولكن بوابته الفاتحة علي بيوت 114 فتحت قلوب أهل البيت علي حب الكمبو وأهله فباتوا جزءا لايتجزأ من الكمبو، بات فهمي واسرته كلها ينتمون انتماءا كاملا للكمبو ولايعرفون حيا غيره برغم احتفاظهم بعلاقات طيبة مع اهل الحلة الجديدة جعلت منهم قنطرة ربطت بين اهل الحيين المتجاورين، لم يلعب فهمى الكرة ابدا، ربما بسبب بدانته، ولكنه كان عاشقا لكرةالقدم ونشاطها الاداري لم تعرف المدينة والمنطقة الجنوبية مثيلا له في ذلك العطاء والوفاء الا قلة نادرة توشحت بها مدينة مدنى في ذلك الزمان الجميل ، لمعوا مثل شهب جاءت من السماء فاضأت الكون برهة من الزمان ثم غابت وتركت الناس في شوق اليها، ولعل المقام مقام ذكر لتلك الاسماء: عبدة مالك ومحجوب فضل وصلاح الشاذلى وازهري حبيب نسي وصلاح حسن والنور الفلاتي وبابكر بتاع فريق الوادى وجيرانه ناس الصايم والاستاذ بتاع فريق الوادي وناس يسين بتاع نجوم المزاد في الرابطة الجنوبية وهناك ناس عبد الله سرالختم في التضامن وناس مجدالدين وابوليلي في الثوار وناس الشاعر في الاصلاح وناس الكوارتة وغيرهم ممن سقطوا من الذاكرة ولكنهم يبقوا في ذاكرة المدينة نجوما بعيدة قامت علي اكتافها نهضة مدنى الكروية، لم ينهبوا مال شعب ولم يكونوا اثرياء ثراءا مشبوها ولم يكونوا يطالبون بديون علي الاندية ولم يعرف احد كيف انفقوا عليها، لكنهم كانوا جميعا شموعا تحترق لاجل الاخرين ويفعلون ما يفعلون كالشهداء يموتون في صمت بلا انتظار للثمار، كان فهمي احد اولئك النبلاء الذين جاد بهم الزمان علي اهل السودان فاعطوا بلا كلل وعملوا بلا أمل اقاموا علي سفر وفارقوا علي عجل، ومضوا كالاحلام ، كالشهب، كامطار الخريف، تمضي الي جوف الارض وتغيب فيه فتخرج خيرا عميما للاخرين، كان فهمى بابتسامة دائمة وعقل مرتب هو من أشرف علي ادارة فريق المجد 114 منذ التأسيس وحتى ذهاب المجد الي العدم الذي جاء منه، كان اداريا فذا وهماما وملما بقواعد ادارة نشاط الناشئين ولبقا وصارما في التعامل مع اللاعبين وقد كنت أحدهم لفترة طويلة،لم تصدر عنه يوما لفظة نابية، لم يوجه اساءة للاعب أو خصم أو حكم أو اداري أو مشجع، كان كل جهده وفكره منصبا علي شؤون الفريق، تسجيلاته وصحتها وخطوطه وتقويتها ونشاطه وانتظامه وانتصاره بالطرق المشروعة، لذلك كانت سمعة فريق المجد دوما فوق كل الشبهات ولم يرتبط اسم المجد بشغب أو اعتداء علي حكم أو سوء سلوك من أي نوع، وكان لفهمى ورفاقه في الادارة وعلي رأسهم الاخ الفاتح عبد الوهاب رئيس فريق المجد دور كبير في ذلك السجل الناصع لفريق جاء من العدم وبات في زمن وجيز من عمالقة الرابطة الجنوبية وهى اقوي رابطة في مدنى انذآك، كان فهمى صديقا للاعبي الفريق جميعا بلا تفرقة أو تمييز وكان حاضرا دوما في النادي حيث كان عاشقا للضمنة ولاعبا ماهرا له صولات وجولات فيها مع الريح ابوالريح والمرحوم صلاح التلب مدافع المجد والاخ يوسف الله جابو والاخ صلاح حسن سعيد، جمعتنا بفهمي ذكريات كثيرة منها رحلتنا الي مدينة الابيض واستقبالنا لناس الابيض في النادى حين ردوا الينا الزيارة، فقد كان نجما في المناسبتين، وكانت لنا رحلة اخري الي سنار ورحلة رابعة الي الخرطوم الامتداد، كانت ذكريات جميلة، كانت لفهمي مداعبات خاصة مع زامبيا وفرفر والاخ ناجى تشتش والاخ عادل محمد مختار الثعلب ومحجوب كرفون لاعب الوسط الرهيب بفريق المجد، اما علاقته بالاخ عماد كسبرة وعماد الدنكوج ومحمد احمد الرشيد باكات الفريق فقد كانت علاقة خاصة قوامها مداعبات متبادلة. لا اذكر للاخ فهمي مشكلة مع احد في مجتمع المجد ابدا، غير انه لم يرض انتقالي الي فريق الثوار دون الحصول علي موافقة ادارة المجد، فترت علاقته بي ولكن سرعان ماعادت المياه الي مجاريها وظلت الابتسامة دوما علي ذلك الوجه الطيب حتى اضطرتنى ظروف عملي للغياب طويلا عن مدنى، جتي كان لقائي الاخير به في مدينة كريمة حين جاء مع محبوبه الاهلي في العام 2011 لمباراة في التأهيلي امام الجبل كريمة، كنت بالاستاد اثناء المباراة حين اقبل نحوى شخص نحيف بدت ملامحه مألوفة لكننى لم اعرفه فهمس مبتسما( انا فهمي ياحارس.....انا فهمى) تقالدنا بحرارة وكان يهمس( انا ما جانى سرطان ياحارس، قربت اروح فيها وربك كتب لي عمر) كان لقاءا مؤثرا جدا وقصيرا جدا ، واخيرا جاء نعيه كالصاعقة.. رحل الرجل الذي زرع الكمبو بالابتسامة وكان من ابرز صناع مجد المجد فيه، كان خريفا كريما في كل شئ، كان ابا واخا وصديقا ونجما في سماء بعيدة
وكعادته في كل شئ كان فهمى باسلا في صراعه مع مرض السرطان اللعين الذي استوطن بدنه ولكنه لم يتمكن من هزيمة روحه
ظل الرجل يقاوم ببسالة حتى نهض من المرض في نهوض مدهش وباشر حياته بضعة اشهر وفعل كل مايحبه ورافق فريق الاهلي في رحلات مهمة للعودة للممتاز وعاش معه فرحة العودة لموقعه ثم زوت الشجرة الخضراء وماتت واقفة ورحل الرجل رحيلا فاجعا الي عالم ارحب وارحم
اللهم ارحم فهمى صالح واجعل الجنة مثواه مع الصديقين والشهداء

Thursday, September 26, 2013

بورتسودان الدموع والغمام أو(البكاء في البدء سرا وفي الختام علنا)/ سيرة ذاتية/ صلاح الدين سر الختم على

لم يكن القدوم الي مدينة بورتسودان اختيارا، كان شيئا صنعته الصدفة والظروف والأقدار
وكنت كارها لذلك الانتقال من الخرطوم التى ولجتها بعد سنوات من الطواف في الأطراف
قادما من دارفور بعد ستة سنوات قضيتها هناك، لم يدم وجودى بالخرطوم طويلا حين فوجئت ذات ظهيرة حارقة في شهر مايو 2006 بخبر نقلي الي بورتسودان، أسودت الدنيا في وجهى وشعرت بغضب كبير وغبن حتى اننى فكرت في الاستقالة من العمل وشرعت في ذلك فقوبل طلبى بالرفض وكان ذلك من حسن حظى،جئت الي بورتسودان كمن ألقي به في جوف السجن ،وكنت طوال الطريق أفكر في السيناريوهات المحتملة ولم يكن من بينها أبدا ما جري وتحقق في أرض الواقع ، جئتها بدموع صامتة وخرجت منها بعد أربع سنوات بدموع علنية صادقة، بكيت من القدوم اليها سرا ، فابكتنى عليها علناًعند الرحيل القسرى عنها، بحساب السنين هى اربع سنوات ، وبحساب الحياة والخوة والصداقة والجمال البشري في تلك الأرواح التى عشت بين اصحابها هى حياة كاملة، حياة لايريد من يعشها ان تأتى لها نهاية أبدا، كان أول من التقيته عند قدومى الي المدينة شاب رائع عميق صار فيما بعد صديقي وعرفت فيه صورة رائعة لما هو عليه انسان هذه المدينة ذلكم هو الشاب مأمون عبد الله مسعود طلق المحيا دائم الابتسام لبق الحديث ودود وكريم تشعر للوهلة الأولى في حضرته انك عرفته طوال عمرك، كنت بالفعل قد سمعت عنه قبل مجيئى الي بورتسودان من صديق مشترك أوصاه خيرا بى وأوصانى بدخول المدينة من بوابته ، فاكتشفت لاحقا انه أحد بوابات المدينة بالفعل، كان آخر عهدى ببورتسودان عام 1990 حين جئتها وقتها محاميا قادما من ودمدنى مع موكلين كان لديهم قضية ببورتسودان وجئت وقتها بالطائرة واقمت بفندق في قلب المدينة يومان ثم عدت بالطائرة وليس بذاكرتى من المدينة التى كانت تعج بالذباب والحر الا منظر الماء حين يبلل الجسد بحبات الملح فتندم علي الاستحمام، كانت المدينة في ذلك الزمان مدينة قاحلة لاعلاقة لها ببوتسودان الراهنة الانيقة الجميلة، لذلك كنت متوجسا حين جئتها بعد ستة عشر عاما من الغياب، لكنها كانت مدينة أخري خلعت أسمالها البالية وتأنقت وتألقت كأنها عروس تتهيأ لليلة العمر النفيسة، ثمة شئ من تلك باق في أطراف المدينة ولكن مظاهر كثيرة أختفت وتلاشت.....وحين تهادت السيارة التى يقودها زميلي واخى الاكبر مولانا محمد النذير محمد المبارك من المطار الي قلب المدينة كنت أتلفت يمنة ويسرة  باحثا عن الوجه القديم ، فاذا بى المح عمرانا جديدا، شوارع أنيقة نظيفة ، حين بلغت السيارة ناديا الهلال وحي العرب المتجاوران فقط وجدت ملمحا من تلك التى اعرف، حين بلغت السينما بعد نادى حى العرب كدت اطلب من السائق التوقف كى اذهب الي سوق الطبالي حيث اشتريت في تلك المرة الأولي  فردة سواكنية انيقة للخطيبة آنذاك وهى زوجتى العزيزة، لمحت الأكشاك الصغيرة بضجيجها المحبب فكاد قلبي يقع بين أقدامى 
ذاك مكان أليف محبب للنفس ولعل من أقسي وأفظع قرارات الوالي الهمام ايلا هو ذلك القرار الذى حكم علي سوق الطبالي الفريد بالموت فيما بعد، ذلك سوق كان يمثل معلما وملمحا محببا لكل أهل الشرق وكل من يزور بورتسودان، كان زمانا جميلا
وكان سوق الطبالي قبلة الفقراء ومزار السواح من داخل البلاد وخارجها
كان غلافا أنيقا لمدينة كانت راسفة في فقرها في زمن ما...... المهم قاومت نفسي وواصلت حتى بلغت الميز الذى تم اعدامه هو الآخر لاحقا بواسطة جهات رأت في بيع بوابة من بوابات التاريخ انجازا ومكسبا ، في حين كان ذلك الميز الصغير قبالة الجامع الكبير في بورتسودان رئة من رئات التاريخ تتنفس تاريخا وتحكى تعاقب الاجيال من القضاة عليه، كان معلما من معالم القضائية في بورتسودان أغلي بكثير من النقود التى بيع بها في مقاييس عشاق الأمكنة مثلى وعنه سوف أكتب ، عن غرفه الخانقة وعن الحصي في حوشه وعن شجرته العريقة وعن قططه المخيفة وعن اشياء كثيرة أخري، في ذلك المكان كان أول سقف أويت اليه في بورتسودان....
كان لافتا للنظر ذلك الحصي مدبب الأطراف الذي يغطى حوش الميز كله ويجعل المشي حافيا أو بسفنجة عذابا لايطاق ولم اعرف حتى مبارحتى للميز وبورتسودان كلها السر في اختيار فرش الحوش بهذا الحصي القاسي الذي فيه ملامح من جبال البحر الأحمر الكبيرة،كان الميز يتكون من جزئيين : جزء صغير له باب صغير مطل علي مدرسة بورتسودان الثانوية المجاورة للميز وهذا الجزء يتكون من غرفة واحدة واسعة امامها فناء صغير وحمام خارجى تابع لها ، وفي هذه الغرفة كانت اقامتى بصحبة مولانا محمد ابراهيم احمد حسين الشهير بحجو قاضي الاستئناف الذى جاء منقولا في ذات توقيت نقلي ، في تلك الغرفة ومع ذلك الرجل البحر الواسع المعرفة الساخر الزاهد و ان بدا ساخطا دوما، كانت اقامتى القصيرة في الميز وهى ثلاثة أشهر انتقلت بعدها الي شقة جميلة علي بعد خطوات من الميز في عمارة بنك التضامن في الطابق الثانى حيث اقمت مع اسرتى كل فترة عملي ببورتسودان ، ومن الصدف الغريبة جدا أننا حين تقطع الكهرباء عن الميز والمدينة كنا نلاحظ ان تلك العمارة تكون مضئية لوجود مولد ضخم خاص ببنك التضامن يضئيها كلها، فنجلس في الظلام وابصارنا متعلقة بضوئها وكنت ادعو الله في سري ان يكون لى نصيب للسكن فيها أو في موقع مشابه ، وكان من لطف المولى بى وكرمه على ان جعل لى نصيبا  بالاقامة فيها والتمتع بمزاياها لمدة اربعة سنوات هى فترة اقامتى وعملى ببورتسودان. اما باقي الميز فكان عبارة عن ثلاث غرف داخل برندة مغلقة بالنملى والخشب وله باب  خاص بها وباب آخر يفتح علي السوق وتحديدا علي مبانى الجامع الكبير . في ذلك الجزء كان يقيم شباب القضاة حاتم قرنى وادم حاج الطاهر وبيتر اوبج  وابو القاسم (الشابي) ومحمد عبد الله ابو وكان هناك قاض جنوبي مهذب ورقيق آخر يدعي فيليب .
العم حمام خزنة الأسرار
كل التفاصيل الجميلة اتذكرها ، حتى ذلك الرجل الكبير في السن المقيم معنا بالميز، ذلك الرجل الخدوم الغامض ووجوده المؤثر وعلاقته بمجموعة الميز  ، كان اسمه العم حمام،و كان حمامة جريحة حنونة تعطى بسخاء برغم جرحها الذى طوت عليه قلبها، كان واضحا ان الرجل له قصة ما حزينة الفصول آثر الا يرويها لأحد ، رجل مرتب ومنظم وحسن المظهر وكل شئ عنده مثل بندول الساعة لايتخلف عن موقعه أو زمنه ، كان يقاسمنا الميز ولديه اوقات يختفي فيها ويغيب ثم يعود في ميعاده بلا تأخير وفي بعض الأحيان يأتى من يزوره وكان وجوده بالميز وهو لايعمل بالمصلحة القضائية مثيرا للتساؤلات لكنه كان وجودا متوارثا ومستمرا فبات مثل كل غرفة وحائط في الميز مبررا وعاديا ولكنه يظل مثيرا للفضول والأسئلة خصوصا انه كبير في سنه فقد تجاوز منتصف الستينات لكنه يبدو أصغر وأوفر شبابا، كان طباخا ماهرا جدا وله نفس خاص في كل شئ تلمسه يده وخاصة السمك وكانت بينه وبين حاتم قرنى ضابط الميز النشيط صلات خاصة موضوعها تدبير كل شئ يتعلق بوجبات الميز الشهية وتحليته كان رجلا لايمكن نسيانه، حاولت التقرب اليه كثيرا للوقوف علي قصة حياته وسره الغامض الظاهر للعيان لكن محاولاتى باءت بفشل ذريع ، فالرجل يتحدث في كل شئ الا عن نفسه...رحمه الله رحمة واسعة فقد عرفت فيما بعد بسنين عديدة انه رحل عن الفانية حاملا كل الاسئلة حوله وحول حياته معه الي هوة صمت أبدى ولكنه ظل ويظل رجلا جميلا احببناه بصدق.

قطط الميز

كانت الظاهرة الملفتة الاخري في الميز وربما في بورتسودان كلها هي ظاهرة القطط الكثيرة المنتشرة التي تتجول في المكان بحرية وغطرسة ولاتتهش ولاتتنش، مما يعمق الرهبة في النفوس تلك الرهبة التي تنبع من حكايات كثيرة تروي عن قطط بورتسودان وسواكن  فتجعل الدم يتجمد في العروق، اظن تلك القطط تعلم ا ن بنى البشر يخافون منها ويتحاشون ضربها أو الاقتراب منها أو محاولة ايذائها بأي شكل بسبب تلك الأساطير والحكايات التى يسمعونها وينسجونها عنها، ولهذا السبب فانك اذا نهرتها فلن تهتم بك بل تنظر في عينيك مباشرة وقد تتمطى في كسل فتجد نفسك انت الهارب من المكان، كان الميز يعج بالقطط وكانت أكثر من سكانه، تأتى من أمكنة مجهولة وتبقي ماشاء لها البقاء وتذهب وقت تشاء، ومن الصور المحفورة بذاكرتى مشهد الهرة التى أكلت بنيها ذات ليلة في الميز وذلك الصراخ الشبيه بصراخ طفل وليد الذي شق سكون الليل، تكرر الصراخ وتكررت أصوات أخري وبدت الأصوات المستغيثة أصواتا إنسانية تمزق نياط القلوب  ، وبقيت قابعا في غرفتى ولم اجروء علي الخروج لمشاهدة المنظر حين تصورته من خلال تحليل أحد الزملاء لما يجري خارجا حسب خبراته، وفي الصباح لم نجد أيا من القطط الصغيرة الوليدة في مكانها الذى كانت تحتله وكانت أمها التى ولدتها هنالك وظلت ساهرة عليها طيلة الفترة السابقةغير موجودة هى الأخرى، سألت عما جري ليلا، فعرفت ان هناك احتمالين: اما ان تكون قطط دخيلة قد أكلت الصغار بعد معركة مع الأم ، وإما ان تكون الأم نفسها هى الفاعلة، لم ابحث كثيرا عن حقيقة كل وجه محتمل لها هو وجه قبيح، وبات تناول الطعام صعبا لعدة ايام وانا اتخيل القطة الأم وهى تنهش بنيها، كانت القشعريرة تسري في كل جسدي ، فألوذ بالصمت.سألت نفسي والآخرين عن مدى صحة مقولة ان القطة تأكل بنيها فتعددت الاجابات وكثرت ، بعضهم يقول

أن القطة حينما ترى أن فرصة عيش أحد صغارها مستحيلة تقوم بأكله لكي تقوى على إرضاع باقي أطفالها لأنها تكون منهكة جداً بعد الولادة.. وهناك أقوال تقول أن القطة تعتقد أن هذا الصغير إن لم تأكله فسيقتلها عندما يكبر.. وهناك أقوال تقول أن القطة تأكل أول مولود لها وهو يكون أقواهم وأكثرهم حملاً للفيتامينات والعناصر المفيدة فتأكله القطة فتقوى على تربية باقي أولادها لذلك هناك مقولة تقول أن أول مولود للقطة إذا أخذته  فور ولادته وكبر فسيصبح قط قوي وكبير.  ويري البعض ان القطط لا تأكل صغارها ابدا ولكنها عند ولادتهم تبدأ الام بقطع الحبل السري للقطط المولودة باسنانها كما هو الحال عند الانسان فيتوهم البعض ان الام تأكل صغارها وهذا غير صحيح. عموما لازلت حائرا في هذا الصدد ولم اركن الي صحة أي اجابة ولم اتيقن من حقيقة ما حدث في الميز لكن الحقيقة المؤكدة ان صغار القطة اختفوا جميعا في الصباح التالي ولم يظهروا أبدا ولازال صراخهم الذي فيه شئ آدمى يرن في اذنى كما سمعته في تلك الليلة  ولازلت اتخيل القطط الصغار الجميلات في فك امهن أو في أفواه قطط ضالة شرسة انتزعتهن من حضن الأم في غيبتها أو حضورها وركضن بهن بعيدا لينهشن الاجساد الغضة..