Thursday, October 3, 2013

بورتسودان الدموع والغمام (3) رجل نادر المثال

 في ذلك اليوم نهضت باكرا  فقد كنت انتظر شمس الصباح في شوق كي اذهب لمقابلة رئيسي الجديد واستلام عملى في بورتسودان محطة عملي الجديدة، كنت اعرف بحكم التجربة والتنقل الكثير سيناريو المقابلة ، لم تعد هناك رهبة كتلك الرهبة الأولي ، ولم يعد هناك تهيب للمقابلة، وكنت اعرف بالخبرة ماذا سافعل وماذا ساقول وما الذي ينبغي الا أقول، لذلك لم يكن الترقب بسبب شئ مما تقدم، بل كنت اريد تجاوز تلك اللحظات واستلام عملي والاندماج فيه حتى يزول ذلك الاحساس الملازم باننى قد انتزعت من حياة احببتها الي مكان ليس في حاجة الي ولست في حاجة لاضافته الي حصيلتي من المدن والأمكنة، كنت اعرف ان كل سأم وضجر وقلق يذيبه شئ واحد فقط هو الاندماج في العمل، لذلك كنت متلهفا الي تجاوز ايام السكون وحمى الفواصل،دلفت الي ذلك المبنى العتيق غريب الهيئة في الصباح ، وقفت كثيرا امام المبني الذي يبدو مرقعا كجبة الدرويش ففيه جزء عتيق يشكل أصل المبنى ، وهناك جزء يشبه مبانى السجون بجداره العالي الخالي من النوافذ ويبدو مضافا للمبنى لكنه قبيح المعمار ويبدو مشيدا كيفما اتفق ، اكثر شئ مثير للدهشة في مبنى رئاسة الجهاز القضائي لولاية البحر الاحمر القديم هو كون سلم المبني يواجه القادمين مباشرة معطيا إياهم ظهره بدلا من ان يكون منبسطا أمامهم، فيبدو اقرب الي مدخل سرداب منه الي سلم لمبني من طابقين (ارضي وأول فقط)، ارتقيت درجات السلم فاصابني وضعه المقلوب بالدوار والغثيان ، ثم انحرفت ناحية اليمين حيث مكتب رئيس الجهاز القضائي مولانا جعفر اركا أبوطاهر والذى تعرفت به في وقت سابق ابان فعاليات اليوبيل الذهبي للقضاء السودانى في العام 2005 بالخرطوم حيث كنت اعمل بالمكتب الفني للمحكمة العليا وكنت عضوا بلجنة اليوبيل ومسؤولا عن معارض الاجهزة القضائية المقامة بدار القضاء بالخرطوم علي شرف المناسبة، خلال تلك الايام الجميلة عرفت الرجل عن قرب فلمست فيه انسانا بسيطا متواضعا ودودا ومرحا وكريما  ولم يكن يخطر علي بالي ابدا ادنى احتمال للانتقال الي بورتسودان والعمل مع الرجل سنوات كما حدث بعد عدة أشهر من تلك الايام ، وكان للرجل فضل لن انساه ، فقد سبقنى مؤلفي الوجيز في دعاوي قسمة الإفراز والإجبار علي البيع الي بورتسودان بمبادرة كريمة منه حين اشتري كمية منه ووزعها علي القضاة هنالك ، فكان الكتاب سابقا لصاحبه في ولوج عروس البحر الأحمر والإقامة في قلوب وعقول زملاء المهنة هنالك،دلفت الي مكتب السكرتارية وكان مكتبا متواضعا ككل المكان وتهيأت نفسيا لدخول مكتب أكثر تواضعا، وبالفعل لم ابق في الانتظار ودخلت الي مكتب واسع نوعا ما ، أثاثه من الخشب الموسكى وثمة زهور صناعية في المنتصف تقول ملامحها من بعيد انها صناعية لاروح فيها ولارائحة وتبدو في المكان الخطأ ولاتتناسب مع الجو العام للمكتب الذي يشي بالوقار والقدم، كان مولانا جعفر بجلابية بيضاء ناصعة ونظارة سوداء علي العيون ووجه باسم قد نهض من كرسيه ولم ينتظر بمكانه كما يفعل الروساء بل تقدم نحوي ببشر وترحاب وقابلني في منتصف الطريق بابتسامة واسعة تميز الرجل ولاتغيب عن صفحة وجهه الا نادرا، صافحني بحرارة كما يصافح المرء صديقا قديماً ، وقال مباشرة بعد السلام معاتبا( مابينا مالك يازول ؟ معقولة تخلي الشغل عشان جايبنك لينا؟) لم يكن لدى ما اقوله ، فاطرقت وتجاوز هو الأمر سريعا وشرع في الترحاب من جديد مؤكدا لى باننى سيطيب لى المقام هنا كثيرا وانهم قادرون علي مسح الصورة التي في خيالي عن بورتسودان، كان يتحدث بلطف وعلي وجهه ابتسامة تتسع كلما تحدث لكنه كان صادقا في عتابه بشأن عدم ترحيبي بنقلي الي بورتسودان، ذاب الجليد شعرت في التو والحين أننى نزلت بلدا طيبا وسط أناس طيبون، كانت مقابلة ذكرتنى طعم البطيخ في الصيف في مدنى ايام الطفولة، كانت اجمل هدية يمكن ان ينالها طفل في مدنى في هجير الصيف شقة بطيخة حمراء حلوة  تنزل في جوفه بردا وسلاما، واتذكر جيدا اننا كنا نفترش الارض في موقف اللواري في مدنى في الهجير ونتقاسم البطيخة التي نشتريها بنقود قليلة وكل بما ناله منها فرح وسعيد، كنا وقتها نعمل في الاجازة كى نوفر مصاريف الدراسة واحتياجاتنا من كراسات وشنط وغيرها، وكان عملنا غالبا في الهجير وكان البطيخ استراحة محارب نحظى بها، كانت مقابلتي للرجل تماثل ذلك الشعور الجميل  الذي يخلفه البطيخ في الصيف، المهم اننى دخلت ذلك المكتب وخرجت منه شخصا آخرا مقبلا بحماس علي واقع جديد بدت بشائره مبشرة بالخير فقد علمتنى التجارب ان بيئة العمل الصالحة ترتبط دوما برب العمل الصالح الذى يؤثر ايجابا في كل من حوله  والعكس صحيح بالطبع ،كان الرجل بحق هبة من السماء بقلبه الكبير الذي اتسع لجميع زملائه وبساطته وتواضعه وأدبه الجم وروحه المرحة وانسانيته المتدفقة التي جعلت كل من حوله يحاول أن يحذو حذوه في احترام الاخرين والمساواة بينهم في المودة والاهتمام والتواصل والزيارات في البيوت والمكاتب  والتفهم الكبير لظروفهم والتفاعل معها دون ان يدفعهم للسؤال أو الطلب، طيلة فترة عملنا مع الرجل لم نسمع من تذمر من تمييزه لفلان أو علان ولم نسمع صوته يعلو في وجه مرؤس أو زميل ولم يعد من طرق بابه خائبا ولم تسمع شماله بما فعلت يمينه، وهناك الكثير مما يعرف ولايقال من كريم خصاله وسجاياه ، وحسبه انه لم يفتح بابا لوشاية أو نميمة ولم يعامل مرؤوس بالانطباعات او الاراء المسبقة وكان دوما خط الدفاع الاول عن مصالح المسؤول عنهم ولم نعرف عنه تدخلا في عمل او تأثيرا بأي شكل علي مجري العدالة أو حطا من قدر أي قاض أو عامل،لذلك نال الرجل محبة الجميع وثقتهم وتفانيهم في العمل إكراما لمن أكرمهم وسهر علي حقوقهم وعلي توفير بئية صالحة لعملهم، كان العمل يسير بتناغم بديع  كفرقة موسيقية متمكنة من عملها وكان الجميع إخوة وأحبة يتنافسون في تجويد العمل فقط ، وفي عهد الرجل شهدت بورتسودان تغييرا كبيرا في حقل العدالة تمثل في هدم ذلك المبنى القديم الكئيب ونشوء قصر جميل للعدالة في مكانه، قصر فخم يليق بالقضاء ومكانته وبورتسودان وجمالها، كان الرجل شريكا فاعلا مع قادة السلطة القضائية في قيام ذلك الصرح ونال شهادة لاتنسي من رئيس القضاء السابق حين تحدث في حفل الافتتاح عن جهوده،  و أتذكر الان تلك الدموع الصادقة التى زرفناها سرا وعلانية حين حان وقت فراق ذلك الرجل نادر المثال حين واتته فرصة انتداب خارج البلاد وكان علينا ان ننتظر قادما آخرا من المجهول لاندري كيف يكون وماذا سيفعل بجمهورية أركا المثالية، هل يعمل فيها هدما وتفكيكا ؟ هل يحيل بساتينها الخضراء وأجوائها الصحية إلي خراب وسموم  أم يكون كما نرغب ونشتهي امتدادا لذلك الثوب الأبيض الناصع؟طارت طائرة وحطت بجعفر اركا ابوطاهر في الخليج وبتنا يتامى علي رصيف الايام ، ثم مالبثنا ان تفرقنا أيدي سبأ من بعده ،طالنا سيف النقل ولم يبق الا نذر يسير، وبقيت ذكريات تلك الايام وخلاصتها محبة دائمة تربط بيننا مهما تفرقنا وتواصل دائم وحنين دائم اليها، اما بورتسودان، فاظنها لاتزال تبحث عن فارسها الهمام ابن سنكات الشفيف الانسان جعفر اركا ابو طاهر وتلعن الخليج والمحار والدولار والزمن. اطال الله عمر الرجل الذي سكن قلوبنا جميعا بلا استئذان والي الابد. 

No comments:

Post a Comment

شكرا علي المشاركة والتواصل