Friday, March 7, 2014

رحيل الشهاب الى مجرته البعيدة .سلام عليك أبى

[ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ] البقرة/154-156

قدر الله وماشاء فعل، انتقل الى رحمة مولاه العبد الفقير الى ربه والدى العزيز سر الختم على كرم الله فى 19 يناير 2014 بعد حياة عامرة بالبذل والعرق الطاهر والأعمال الصالحة ، فقد فتح عينه على الدنيا فى مدينة ابو هشيم حيث جذوره ولم يقو عوده بعد حين انتقل والده الى رحمة مولاه وهو لايزال صبيا دون الثالثة عشرة فوجد نفسه مسؤولا عن اخواته وهو الابن الوحيد لوالده ،فكافح ونافح فى دروب الحياة وعمل صغيرا وهاجر فى أرض الله الواسعة فى بلاد السودان الكبيرة حتى استقر به المقام فى مدينة ودمدنى فى قلب الجزيرة وحيدا صغيرا يبحث عن لقمة حلال بسواعد نحيلة وتعليم قليل لم يتعد الخلوة وبدايات الدراسة المنتظمة، كافح الرجل وحيدا واشتغل عاملا بوزراة الرى وتنقل فى الخلاء في كل مشاريع التنمية عاملا صغيرا حتى اجاد قيادة الكراكات التى تعمل فى حفر القنوات والترع التى تروي أراض بكر عطشي للمياه وللخضرة فيظل يعمل سحابة نهاره كله فى هجير لافح ، يئن الحديد ولايئن هو، ويفترش الأرض في مخيمات صغيرة مع رفاق العمل فى مناطق موحشة وخالية من مظاهر الحياة والمدنية يطهون لانفسهم من زاد قليل ويهجعون ساعات قليلة ليواصلوا رحلة الكفاح، وحين تتدفق المياه وتخضر الأرض يتجهون نحو أرض عطشي وبكر أخرى في موقع آخر، وهكذا جاب أبى السودان من أقصاه الى أقصاه مانحا الأرض الخضرة والناس الثمار والطير الحب والمياه، واستطاع الرجل ان يتزوج ويؤسس أسرة صغيرة فى مدنى متنقلا في بيوت مستأجرة، يتقاسم بعضها مع البعض في البدء ، ثم بات مستقلافى السكنى، حتى منح منزلا حكوميا صغيرا فى مطلع السبعينات بقينا فيه سبعة عشر عاما ثم انتقلنا منه الى دار مشيدة بعرق طاهر ومال حلال لرجل أبى حلقه اللقمة الحرام والهبات من أى نوع،كانت داره داراً فسيحة وجميلةفى مدينة ودمدنى بحي مايو شاركنا فى بناءها بعملنا مع البناء كعمال انا واخى احمد، ولم ينس أبى أن يغرس في وسط الدار نخلة من النخل المعروف بالمشرق جلبها من جذوره بالرباطاب وتعهدها بالرعاية حتى أثمرت وغرس الى جوارها شجرة ليمون أثمرت هى الأخرى وظلت الشجرتان وظلهما مكانه المفضل فى الدارحتى غادرهابعد سنوات الى دار جديدة بالخرطوم العاصمة وفشلت محاولته لنقل النخلة الى هناك حيث لم تنجح عملية النقل وماتت النخلة العزيزة فحزن عليها كما يحزن المرء على ابن من صلبه وظل يذكرها على الدوام حتى لحاقه بها ، كبرت شجرته العائلية وتخرج ابنه البكر طبيبا وظابطا عظيما بالجيش السودانى وحمل مع الأب الحمل وولج بقية الابناء والبنات فى دروب الحياة محققين نجاحات كبيرة ومؤسسين أسراًوبيوتا مفتوحة بانفاس عميد الأسرة الطيبة ، كان الرجل الحصان الحر يصهل ويعطى بلاكلل حتى بلغ المعاش، كان يعمل بصبر وصمت مكرسا حياته لاسرته وابنائه الذين يأتيهم بضعة ايام كل شهر في حياته العملية القاسية، لكنه ما استدان ولا طلب غوثا ولا نظر الى لقمة فى يد غيره قط، عفيف اليد واللسان ، يتحدث همسا ولايخوض في سيرة أحد ولايدخل فى نزاع و جدال أو يطرق باب سلطان، كان فرسا نبيلا عصيا على الترويض وعلى السخرة والاسترقاق والتدجين، وكان قلبا كبيرا عامرا بالمحبة، بارا بوالدته التى بقيت تحت مسؤوليته وفي بيته وتحت رعايته حتى اختارها الله الى جواره مارفع عليها صوتا ولا خالف لها أمراً ولا انعقد جبينه أمامها، وكانت هى امرأة عظيمة ملأت طفولتنا بالجمال فهى أمية تنظم شعرا فصيحا وتسرد سردا بديعا ومنها تعلمت شخصيا فنون السرد وسمعت قصصا ساحرات ،كانت وهى الضريرة تحلق بنا فى سماوات بعيدة نرتاد فيها اكواخ فقرائها الطيبين وقصور الملوك الظالمين وكهف الغول المظلم ونشم رائحته النتنة و ونرى ضفائر فاطمة السمحة الجميلةالتى احبنناها وتعلقنا بها، كانت اجمل قناة متخصصة فى السرد للاطفال فى زمنها وكانت تحب ابنها محبة لاتخطئها عين وكان يجلها اجلالا فيه ابلغ الدروس والعبر، كان البيت يتنفس محبة وكانت أمى قمرا ثالثا فى سماء بهية عشنا تحت ظلها كالعائش فى جنة بالأرض، كان الطعام وفيرا وحلوا والشاى متعة والقراءة فتحا جميلا يرى الأب انه سبيلنا لعيش حياة كريمة ، كان يأخذنا الى الحلاق أول كل شهر وينتظر حتى نخرج سعداء بالحلاقة، فيأخذنا الى المكتبات لشراء احتياجات الدراسة والى حيث الأحذية لشراء حذاء الدراسة، والى الحلوانى عند الجامع فى السوق الجديد بمدنى لنأكل المخبوزات ونشرب عصائر طبيعية ونستمتع بجلسة فى مكان لم نكن نحلم بدخوله الا معه، كانت الرحلة الى الترزي متعة اخرى فى بداية العام وفى الاعياد، كنا نتعثر خلف قامته الفارعة وهو مبتسم ، كان ابا نادر المثال،حين يكون في البيت يعمل على شئ ما، يرتق ملابسه بنفسه، يزرع شئيا، ينظف مكانا، يصلح أداة، أو يستمع الى الراديو باهتمام وزير ثقافة يطمئن على الكون وعلى سير عمله،وحين يبتسم تبتسم الدنيا، نكاد نستقر في جوف ذلك القلب الكبير، ماسمعناه يقول كلمة فظة للوالدة عليها الرحمة وماسمعناه يغلظ قولا لأحد حتى فى لحظة ارتكابنا الأخطاء الصغيرة، كان كونا من الوسامة والسلام والمحبة والصفاء الداخلى والخارجى، كان طفلا كبيرا جميلا محبا للاطفال كطفل، تعلمت منه ذلك حد اننى اغيب عن الكون حين اقف امام طفل، من أين اتيت بكل هذه الوسامة يا أبى؟ من ابيك الذى لم نره والذى اشتقت له في أسبوعك الأخير فى الفانية وبت تطلب بإلحاح أخذك إليه وتصر على انه لا يزال حيا ؟ أم من أمك الشاعرة الجميلة فاطنة بوجهها الأبيض المضئ كقمر وقامتها الفارعة وشعرها الطويل كحورية؟
من أين جئت بسلام الأنبياء الداخلى وعفتهم وطيبتهم ونقائهم؟ من أين جئت بنكران ذاتك النادر؟!ومن أين جئت بتلك الابتسامة؟! ومن أي كتاب من كتب لم نقرأها ومعارف لم نعرفها جئت بوصيتك الأخيرة (أن تدفن بجوار من زينت حياتك كلها بوجودها فيها زوجا وأما وقمراً لايتدلى من سماه ولايعرف الغياب) من أين جئت بعجينة الوفاء تلك؟ ومن أين جئت بكل هذا الحب النبيل لتلك النبيلة؟! ومن أين جئت أيها البهى الوضئ المضئ الشهم الكريم الحنون الحازم الطيب الأمين الهمام العفيف النظيف المهووس بالنظافة والمحب للعمل حد التقديس؟! ليتك رأيت الدموع والحيرة فى عيون أحفادك الصغار، ليتك رأيتهم وهم يجوبون الدار المنطفئة بعد رحيلك فى سهوم وهم يسألون عنك الجدران والسماء والغرفة الخاوية التى ياطالما اضاءت بوجودك، ليتك رأيت لينا وهى صامتة واجمة والدموع تقف عند أحداقها وحين سألتها مابك؟ انفجرت باكية وهى تهمس انها تفتقد جدها الذى لن يعود، وفى الغرفة الأخرى كان مبارك واجما ساهما فى البعيد وحين ربت على ظهره وسألته مابه بكى وهو ينعى حاجته اليك وشوقه ، كنت أستدعى كل قوة فى الكون كى لا أشاركهم البكاء واشرح لهم بكلمات ميتة ان هذا هو مصيرنا جميعا وان الدعوات الصالحات لك هى أفضل وسيلة للتعبير عن الحب، وحين ادرت ظهرى وعدت وجدت مبارك الصغير غارقا فى الصلاة والدعاء بعيون محمرة وصوت باك.
هل تصدق يا أبى اننى غاضب من نفسى لاننى كنت قويا ولم أنهار بعد فى حضرة رحيلك؟ شعرت أن قوتى خيانة لك وأن تماسكى جحود وانكار.
سلام عليك أيها الصقر المجنح
سلام عليك أيها البرق المضئ
سلام عليك أيها النهر السخى
سلام عليك أيها الطفل الكبير البهى
سلام عليك يامن تدثرت بالصدق
سلام عليك يامن تجملت بالصبر
سلام عليك يامن صنت نفسك عما يدنس نفسك
سلام عليك يامن أفنيت ذاتك لأجل الاخرين
سلام عليك ياصديق الطير والأطفال والفقراء
سلام عليك أيها النبيل
سلام عليك أيها الأب والأخ والصديق والمعلم الكبير
سلام عليك يامن رأي رحيله قبل الرحيل
فلم أفهم رؤيته إلا حين حم القضاء
فقد قلت لى بصوتك الخفيض قبل أسبوع واحد من الرحيل( منذ أخذت الرايات ياصلاح وصدرى لايريحنى أبدا)...لم أفهم ماهى الرايات ولاعلاقتها بصدرك ولا كيف أخذتها أنا، لكننى الآن فهمت، فبعد أسبوع كنت تشكو ألما بصدرك وكان الألم سببا للرحيل
هكذا كنت تهمس فى أذنى مودعا برمزية شفافة حتى لاينجرح قلبى الصغير
كنت وحدك ترى
وكنا جميعا لانرى
كان ذلك درسك الأخير البليغ
عشت شفافا ورحلت شفافا
عشت صموتا قليل الكلام كثير الحكمة ورحلت كذلك
لله درك أبى
لله درك أبى
نم هانئيا سعيدا
طب مقاما
وكن أيها القبر عليه سلاما
اللهم أغفر لعبد ك الفقير اليك سرالختم على كرم الله
وأكرم مثواه وأجعل الجنة هى المأوى
اللهم ابدله دارا خيرا من داره واهلا خيرا من اهله وادخله الجنة واعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار .
اللـهـم عامله بما انت اهله ولا تعامله بما هو اهله .
اللـهـم اجزه عن الاحسان إحسانا وعن الأساءة عفواً وغفراناً.
اللـهـم إن كان محسناً فزد من حسناته , وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته .
اللـهـم ادخله الجنة من غير مناقشة حساب ولا سابقة عذاب .
اللـهـم اّنسه في وحدته وفي وحشته وفي غربته.
اللـهـم انزله منزلاً مباركا وانت خير المنزلين .
اللـهـم انزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا .
اللـهـم اجعل قبره روضة من رياض الجنة ,ولا تجعله حفرة من حفر النار .
اللـهـم افسح له في قبره مد بصره وافرش قبره من فراش الجنة .
اللـهـم اعذه من عذاب القبر ,وجاف ِالارض عن جنبيها .
اللـهـم املأ قبره بالرضا والنور والفسحة والسرور.
اللـهـم إنه فى ذمتك وحبل جوارك فقه فتنة الفبر وعذاب النار , وانت أهل الوفاء والحق فاغفر له وارحمه انك انت الغفور الرحيم.
اللـهـم انه عبدك وابن عبدك خرج من الدنيا وسعته ومحبوبيه وأحبائه إلي ظلمة القبر وماهو لاقته .
اللـهـم انه كان يشهد أنك لا إله الا انت وأن محمداً عبدك ورسولك وانت اعلم به.
اللهم ثبته عند السؤال
اللهم انا نتوسل بك اليك ونقسم بك عليك ان ترحمه ولا تعذبه
اللـهـم انه نَزَل بك وأنت خير منزول به واصبح فقير الي رحمتك وأنت غني عن عذابه .
اللـهـم اّته برحمتك ورضاك وقه فتنه القبر وعذابه و أّته برحمتك الامن من عذابك حتي تبعثه إلي جنتك يا أرحم الراحمين .

صلاح الدين سر الختم على
الخرطوم /مروى
يناير 2014
 — في ‏الخرطوم‏.

No comments:

Post a Comment

شكرا علي المشاركة والتواصل